لقاء الشباب: (مساهمة في نقاش عقلاني وهادف)

يمثل الشباب عماد الأمة ومستقبلها، وهم محور السياسات وهدف التغيير، وهم الثورة المعوّل عليها في مجتمعاتنا العربية. وفي حين تهدر حقوقهم وأرواحهم في معارك بعيدة عن بناء الأوطان، فإنّنا اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة دورهم، وفقاً للقيم المستحدثة سياسياً ومجتمعياً، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

وهو دور وإن كان موجهاً للشباب ومن خلالهم، إلّا أّن العبء الأكبر فيه يقع على عاتق الحكومات العربية، ضمن عملية تحديث كلي لدولها، وخاصة من خلال الانفتاح والتواصل مع مختلف طبقات المجتمعات العربية. وهي بادرة كانت موريتانيا سباقة فيها، ونحن في أحوج ما نكون إليها عربياً، في ظلّ اشتباك عنفوي تدميري بين السلطة والمجتمع في غير دولة عربية.

حيث مثلت دعوة الرئيس الموريتاني للتلاقي مع الشباب لأجل المناقشة وتبادل الرأي، حول أكفأ الرؤى والطرق لمعالجة الوضع التنموي. ليس فقط فرصة سانحة ونادرة أمام الشباب الذين تتكالب عليهم صنوف من الأوضاع والتحديات الخاصة، والنابعة من الثقافة التقليدية للمجتمع، والتي وجدت استمراريتها في النظام السياسي الموريتاني (الرسمي والموازي) منذ عقود، بل الأغرب أنّ هذه الدعوة كانت أشبه برمي حجر ثقيل في مياه نهر حياتنا السياسية الآسن منذ الثمانينيات.

فقد تعرض الشباب والرئيس على حد سواء لسيل من الانتقاد والتشكيك في دلالات ومغزى هذه الخطوة، بصورة تفتقد ليس للكياسة الواجب اتباعها في النقد العمومي، بل تفتقر أحياناً للمنطق والعقل، غير أنّ عدداً غير قليل من الشباب الموريتاني استجاب استجابة مهيبة لهذه الدعوة، ذات الطبيعة الخاصة جداً، كما أنّ قسماً كبيراً من الرأي العام الوطني ثمّن هذه الفكرة، التي رأى فيها عقلانية غير معهودة في الذين تولوا سدة الحكم في هذه البلاد عادة، باستثناء مثال واحد يؤكد القاعدة، مَثَّله انفتاح الرئيس الأول للجمهورية السيد المختار ولد دداه على الشباب الموريتاني في ظروف وأوضاع خاصة جداً في سبعينيات القرن الماضي.

إنّ أبرز الأسئلة التي طرحتها الأطراف المناوئة لهذه الخطوة، هي لماذا الشباب في هذا الحين من الدهر؟ وهو سؤال رغم بساطته ومشروعيته إلا أنّه يستبطن حمولة كيدية تتعلق بأن الزمن الانتخابي قد أظلنا. غير أنّ السؤال سيفتقد للبراءة حين يجيب متسائلوه: بأنّ هذا اللقاء ليس سوى، ولن يكون، إلا دعاية سياسية أطلق عقالها الرئيس في ماكينته الدعائية للرئاسيات، ورغم الجهل الفاضح هنا أو التجاهل الواضح للحقائق السياسية والموضوعية على الأرض، التي تقرّ بأنّ الرئيس يعيش وضعاً سياسياً مثالياً بالنسبة لخصومه الفعليين والافتراضيين، إلاّ أننا سنخوض ونلعب –على غير عادتنا- معهم في هذه الأشكلة المفتعلة، لعلنا نساهم في إطفاء النار في وجه هذه الفرصة التي إذا ما استغلت أحسن استغلال وبشكل واعٍ ومدروس، قد تمثل بادرة لانعطاف الدولة نحو شباب يمثل سواعد فتية وقوية ويمثل مكمن عبقريتها الذهنية.

ولكن قبل ذلك أقرّ أنّ تكويني المعرفي وخبرتي المتواضعة لا تصنّف أفعال السلطة في خانة التبرع والاحسان، لذا سيكون من المنطقي البحث عن مجموعة أسباب داخلية وخارجية، مثّلت بيئة موضوعية للدفع بالرئيس الموريتاني لاتخاذ القرار الصحيح بالتعاون والشراكة مع الشباب، على عكس فاعلين سياسيين آخرين (أحزاب ومنظمات) رغم كل التحول في الواقع وفي المدرك الذهني العام، لا تزال تتجاهل حضور وتمثيل الشباب، وفي أحسن الأحوال لا تزال تتلاعب وتتلهى به لخدمة أهداف مفارقة لمصلحة الشباب ودوره الحقيقي في البناء الوطني، على كل حال لا يمكن لأي مراقب موضوعي إلا أن يلاحظ :

–         مدى فتوة المجتمع الموريتاني على غرار المجتمعات العربية الأخرى حيث تؤكد الاحصائيات أن نسبة الشباب تلامس 70 في المائة.

–         ارتفاع نسبة الشباب الموريتاني الذي أكمل تعليمه الجامعي، وغالباً في جامعات خارجية، وهو ما أتاح له فرصة الاطلاع على حجم الحداثة والتقدم الذي يشهده العالم، وهو الأمر الذي سيمثل مبعث الغيرة والغضب الدائمين من استقرار موريتانيا في مربع التخلف .

–         إلمام هذا الشباب بالتقنيات الحديثة وانفتاحه على وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لديه فرصة نادرة على التعارف وتبادل وجهات النظر.

–         انسداد أفق المشاركة في الشأن العام لسبب مباشر هو رفض النخب التقليدية، وجماعات المصالح الخاصة والمفسدة، والفئات العمرية المتقدمة، فتح المجال أمام تجديد الطبقة السياسية والاقتصادية .. إلخ.

–         فضلا عن التحولات والتغير الدراماتيكي الذي يشهده الجوار الموريتاني منذ سنوات ولا تزال تفاعلاته سائلة:

غربياً وأوربياً، حيث تتعقد مفاعيل الأزمة المالية والاقتصادية، فتنكمش المساعدة، وتستيقظ الأفكار الحمائية، والفوبيا من الهجرة، وهو ماله الأثر والتداعيات المباشرة على شأننا الوطني.

وإفريقياً، حيث الاضطراب المجتمعي وعدم الاستقرار السياسي، وتراجع معدلات النمو وعدم انعكاسها على الوضع التنموي، وانتشار الفساد والجريمة العابرة للحدود من إرهاب وتهريب وقرصنة، وهو ما من شأنه زيادة الضغوط والأعباء على أمننا القومي والوطني في مختلف جوانبه.

وعربياً، حيث يمور المشهد السياسي الرسمي والشعبي، بمعدلات مرتفعة من العنف الثوري واللاعقلاني، الذي يستهدف تغييراً غير متفق على عناوينه أو شكله بل وأهدافه؛ إنه الانفتاح على المجهول، وهو ما ستكون له حتماً تداعياته المنظورة ليس على نمط أنظمة الحكم فحسب، بل على شكل وبنية الدولة والنظام العربي ككل.

–         هذه التطورات الجيوبولتيكية، كان لها انعكاسها الواضح على الساحة الموريتانية ذات الحساسية والقابلية الكبيرة للتأثر بروافدها المحيطة في تلك العوالم المجاورة، وهو ما جعل عدداً قليلا من الشباب الموريتاني يحاول عملياً، أو نظرياً –على الأقل-، استلهام تجربة التدمير العربي (الربيع العربي)، وهي عينها –تلك التطورات- التي أغرت القوة السياسية المعارضة للنظام تغيير خطابها ووسائلها للاستفادة والانتفاع كذلك، يحدوها الأمل في التأثير أو الانتقاص من شرعية النظام سواء الانتخابية أو بالإنجاز، غير أنّ تماسك النظام وقراءته الصحيحة لجوهر التغير الذي يعصف بالمشهد الاقليمي والعالمي، واستدامة مصادر قوته الداخلية والخارجية، جعلته يكسب الرهان السياسي ضد القوة المتربصة به، غير أنّنا نقر أنّ ذلك المجهود من كلا الأطراف أضاع وقتاً ثميناً بالنسبة للفعل التنموي للدولة الموريتانية.

–         فضلا عن كل تلك التحديات البارزة والواضحة فإن أحداث التحول (داخلياً وخارجياً) أيقظت عدواً عتيدا لكيان الدولة والمجتمع، مثّله بروز أو إعادة الحياة للانتماءات الفرعية (ما دون الوطنية) المتعلقة بالشرائح والعرقيات والإثنيات.

لكن كل هذه تبقى مجرد مظاهر أو لنقل أعراض لحجم التغير الذي لحق بالخريطة النفسية والإدراكية والسلوكية للمواطن العربي عموماً والموريتاني خصوصاً.

ولعمري إنّ هذا المشروع “اللقاء” لهو شعور نبيه بأهمية تحصين وضعنا العام الداخلي والخارجي، وإن على أسس جديدة تضرب حساباً خاصاً للآمال والمخاوف التي تحدوا الناس، خصوصاً الشباب، وهو ما جعلنا نضع هذا المشروع في سياقه الكبير والرمزي والعميق، والذي يؤمل منه نتائج نوعية وحقيقية تعود بمزيد من الخيرية على مسيرة التطوير والتحديث الوطني، وعلى شرعية نظامنا السياسي الجمهوري؛ بعيداً عن الاستسلام لإغراءات اللحظية والاستعراض كما يقدر ويتمنى البعض .

لعل هذه العوامل متضامنة، تفسر لنا خلفية الدفع بالشباب وتطلعاته في التنمية والحرية إلى صلب الأجندة الرسمية للرئيس الموريتاني، الذي غالباً ما دعى الشباب الموريتاني لانتزاع دوره في الحياة العامة، مطلقاً شعار “تجديد الطبقة السياسية ” الذي يمكن النظر إلى هذا اللقاء كأحد التدابير لتجسيده على أرض الواقع، كما أنه لن يكون من المبالغة تأطير هذه الدعوة في مجال قراءة الرئيس الموريتاني الشخصية، لأهمية إعطاء الدور للشباب للمشاركة في ابداء وجهات النظر، وانتهاج قيم وسلوك المشاركة الفعلية البناءة في النهوض الوطني،  لمحاصرة فجاج الضياع التي تتلقف الشباب بدعوى الجهادية والثورة، وهو ما عبّر عنه الرجل مباشرة في أحاديث سابقة، وكذلك في خطابه في أديس أبابا، حاثّاً نظراءه الأفارقة على الاهتمام في سياسياتهم العمومية بالشباب، وهو ما قد يوّلد طموحاَ مشروعاَ لتقدم موريتانيا “أنموذجاً” حضارياً وفريداً خاصاً، في الاستماع للشباب وتبنى أطروحاته المدروسة للخروج من وهدة التخلف إلى فسحة التنمية والأمل.

وعلى فرض أنّ هذه الدعوة “للقاء” لا تزال عصية على إفهام البعض، فإنني أهيب بالشباب الموريتاني، خاصة الذين يعتقدون بأهمية استحداث مسعى تشاركي، يؤمن بمسؤولية الجميع في إحداث وتجسيد أشواق التغيير، أن يتفاعلوا إيجابياً مع هذه الدعوة ليس من خلال المشاركة المباشرة –المحدودة- فحسب، بل بتقديم مقترحاتهم البناءة وتشكيلهم حاضنة ورافعة لهذه الفرصة التنموية، التي ستتيح لهم مجالاً لتجديد القيم والمسلكيات الناظمة للحياة العامة في وطننا الحبيب وفي كل المجالات، وأن يستيقنوا أنّ المناسبة لو لم تكن شيئاً غير السياسية  لتفضّل الرئيس بتكليف بعض أحزاب الشباب الذين يمثلون جزءاً هاماً وناجحاً من أغلبيته الرئاسية، وأعلم يقيناً بأنّ هناك من استهوته الايديولوجيا وتَخَطَّفَه اليأس للأسف، فرأى كل نداء هو دعاية وسياسة وصراع على العاجل، لكنني  على يقين أنّ للشباب فرصة في أن يثبتوا قدرتهم على ابتداع منهجية تمزج بين المبدئية والبرغماتية الإيجابية، من خلال نصب “الفخ” للأوضاع المتهالكة، علَّ التاريخ يفشل، ونجد فرصة مستأنفة من جديد للحلم والتغيير.

السعد بن عبد الله بن بيه

كاتب ودبلوماسي موريتاني

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : موريتانيا

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق