لا تسوية سياسية بين موسكو وواشنطن في سورية قبل الانتخابات الأمريكية

تبخرت آمال موسكو في إبرام تسوية سياسية في سوريا مع واشنطن وجرها إلى طاولة المفاوضات بأسرع وقت ممكن للحد من التكلفة التي تتكبدها نتيجة دخولها في المستنقع السوري وقتالها إلى جانب قوات النظام السوري بعدما استنجد النظام السوري بروسيا عن طريق قاسم سليماني الموفد الإيراني بعد تلقي الحرس الثوري ضربات موجعة من قبل المعارضة المدعومة سعوديا وتركيا.

 ما جعل الإعلام الروسي يتحدث عن توريط واشنطن لموسكو في النزاع السوري، رغم أن البعض يرى بأنها لن تكون تكرارا للتجربة المأساوية في أفغانستان، لكن البعض يرى بأن روسيا محاصرة في حلب، خصوصا بعد تصريح لافروف الذي يقول بأن الجميع في شرق حلب متواطؤون مع النصرة لتبرير الضربات الروسية على شرق حلب، بعدما نجحت واشنطن والغرب في محاصرة روسيا واتهامها بجرائم حرب، ما جعلها تعيد الكرة بالسماح لهدنة إنسانية لدخول المساعدات يوم 4/11/2016 وخروج المعارضة بعدما فشلت في مرات سابقة ولم يخرج المسلحون.

 لكنها هدنة تسبق العاصفة بعد استعراض القوة من بحر الشمال إلى البحر المتوسط تزامنت مع تصريحات وزير الدفاع الروسي التي هاجم فيها الغرب، ولا يوجد أفق حل سياسي، بل تريد روسيا تسوية سياسية بينها وبين واشنطن، لذلك هي تراهن على الحسم العسكري خصوصا في شرق حلب لفرض أمر واقع على الأرض مستغلة الانتخابات الأمريكية من أجل السعي نحو تحقيق نصر استراتيجي.

مما جعل روسيا تتجه نحو تصريحات غامضة ومبهمة وتقبل أكثر من تفسير، لكن كثير من المراقبين يعتقدون أن هناك تجنبا لأي عمل عسكري في الوقت الراهن على الأقل مع استمرار الدعوة للتعاون في سوريا، مع ذلك استقبلت موسكو رئيس أركان القوات التركية، لبحث الوضع في سوريا والعراق وربما التعاون في تغيير الوضع في حلب وفق مصادر من موسكو.

يبدو أن واشنطن وحتى الإدارة الجديدة إذا فازت كلينتون تسعى لإغراق موسكو أكثر في سوريا في الوحول السورية، كما فعلت من قبل في أفغانستان لتأتي إليها روسيا راضخة من نقطة ضعف وتفاوض للتسليم بالأمر الواقع الذي تفرضه واشنطن وليس موسكو، وترى واشنطن أنها الخطوة الوحيدة لمواجهة التمدد الروسي وحتى الإيراني في سوريا بدلا من أي مواجهة عسكرية مباشرة.

تجد إسرائيل الفرصة مواتية في نصيحة الولايات المتحدة لتقسيم سوريا بحجة أن فرض الأمن والاستقرار وهو ما تحدث عنه أميتاي إتزيوني أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن وهو أكاديمي إسرائيلي أميركي سماها المصلحة القومية واعتبرها خطة تسوية لتفادي تداعيات الأزمة الراهنة في سوريا، ويرى أن الحل الوحيد في الحاجة إلى إعادة رسم خريطة سوريا والعراق ومنح الأكراد حلفاء الولايات المتحدة على الأقل حكما ذاتيا ومنح مناطق السنة في العراق حكما عاليا من الاستقلال كخطوة أولى نحو الاستقلال على غرار كردستان العراق التي تطالب اليوم بعد معركة الموصل بدولة مستقلة، فيما تقف تركيا مانعا أمام تشكيل دولة كردية لتحقيق الآمال الإسرائيلية، بينما تحاول إيران تحويل الأغلبية السنية في العراق وسوريا إلى أقلية عبر تغيير ديموغرافي.

لكن الضغط التركي السعودي جعل تركيا تنتزع ضوء أخضر أميركي حول تحرير الرقة من داعش، وبدأت أنقرة تحضر مقاتلين عربا لتحريرها، وبدأ بالفعل قتال شرس بين الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا مع سوريا الديمقراطية في ريف حلب الشمالي، في المقابل إيران بين عودة المالكي وبقاء الأسد، وارتبكت إيران بعد مقتل لواءين وعدد من ضباط الحرس الثوري في معركة فك الحصار عن حلب أكد الحرس الثوري بأن حضوره في سوريا يعيد التوازن للقوى العالمية، وكأن إيران هي التي تعطي روسيا الضوء الأخضر في التواجد لتعيث فسادا في المنطقة.

في ظل هذا الاضطراب الشرق الأوسطي العالمي، إيران كما إسرائيل مسكونة بهواجس العزلة وسط محيط سني بتعدد قومياته، وكما تشعر إسرائيل بأنها وسط بحر إسلامي عربي يمكن أن يلفظها في أي لحظة لولا الولايات المتحدة، فكذلك إيران تشعر بأنها أقلية فارسية شيعية وسط غالبية سنية عربية وتركية وكردية، فهي كما إسرائيل مشغولة بإعادة تعزيز هويتها القومية بغطاء مذهبي إسلامي مقاوم، لذلك هي تستشعر دائما الغلبة والقدرة لإخضاع مكونات المنطقة إثنيا وديموغرافيا التي هي فوق الخصوصيات الثقافية التي تشكلت وتكونت على مر العصور في حيز جغرافي معقد في العراق وسوريا.

لكن بفعل الظروف التي مرت على الشرق الأوسط منذ احتلال العراق عام 2003 تحولت إيران إلى لاعب معقد وصعب لإخضاع الشعوب لإرادتها لتنفيذ مخططها القومي التاريخي ولا مانع لديها من أن تمارس نهج التدمير الشامل في حلب والموصل من أجل تحقيق أهداف كبرى من أجل الوصول إلى ساحل البحر المتوسط الذي يتقاطع مع هدف روسيا التي تبحث عن الوصول إلى المياه الدفيئة.

من أكبر أهداف إيران في المنطقة لتحقيق الحلم الإمبراطوري الفارسي الهيمنة على العاصمة الشيعية النجف التي يهيمن عليها العرب الشيعة، وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية بعد إجراء عملية قيصرية في التركيبة السكانية في العراق وسوريا عبر تهجير قسري مستغلة الأزمة السياسية في العراق والأزمة السورية ومحاربة داعش في العراق وسوريا.

لذلك تحاول إيران أن تقيم تحالفا تكتيكيا مع روسيا لمواجهة التكتل السعودي الخليجي التركي مع محاولة إقصاء الثقل العربي مصر عن هذا التحالف، خصوصا وأنها تلعب على وتر تصدع الكتلة السنية في المشرق العربي خصوصا المتأسلمة قليلة الوعي التي تغلب مصالحها الأيديولوجية على المصالح الاستراتيجية، والتي نجدها تتصارع على احتكار الدعم الخليجي، وهو ما تسبب في أزمة بين مصر والسعودية.

 وكذلك تحاول إيران خلق صراع جديد بين العراق وتركيا خصوصا بعدما أعلن أردوغان أن بلاده ستشارك وبقوة في حرب تحرير الموصل من قبضة داعش والتي هي جزء من الصراع الإقليمي وليست على الموصل فقط، أو أنها حرب طائفية ضد الشيعة بل هي حرب دفاعا عن وحدة الدولة التركية ووقف النفوذ الإيراني.

إيران قلقة من استعادة مقاتلو المعارضة السورية المبادرة الهجومية في ريف حلب الشمالي بعدما طردوا داعش من أخترين بعد تسلله إليها بدعم سعودي تركي وموافقة الولايات المتحدة، وحشود تركية جديدة على الحدود التركية السورية وزيارة وزير الدفاع لها إذ تؤكد أنقرة على ضرورة إغلاق منبج وجعلها منطقة آمنة، ما جعل باريس تشكك في إعلان موسكو هدنة إنسانية بمدينة حلب، ما يعني ميلا روسيا لحسم المعركة عسكريا.

ترفض أميركا لعب دور القوة العظمى المكلف في منطقة الشرق الأوسط وهو ما سمح لروسيا أن تؤثر على توازن القوى في المنطقة، كما سمح لإيران بأن تهيمن على العراق، ولكن في نفس الوقت ترفض أميركا الرافضة للعب هذا الدور المكلف بأن تؤثر روسيا على توازن القوى في المنطقة، وتكتفي بإعطاء الدول الإقليمية كالسعودية وتركيا الضوء الأخضر للحفاظ على هذا التوازن، لكنه ضوء أخضر غير حاسم.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق