قيادة أوباما.. البطة العرجاء!

لم يكن في الأمر مفاجأة كبيرة عندما فاز الجمهوريون بأغلبية مجلس الشيوخ الأميركي، وعندما زادوا حجم أغلبيتهم في مجلس النواب. فعندما تتفق شبكة «سي إن إن» التلفزيونية مع شبكة «فوكس» في تنبؤات نتائج الانتخابات فإنه لا توجد هناك مسافة كبيرة للخطأ، وهكذا عندما جرت الانتخابات وأعلنت النتائج بدا الأمر نوعا من تحصيل الحاصل.
لكن الأمر لا ينتهي عند ذلك، فما حدث ليس جديدا، فقد جرى من قبل وحاز الجمهوريون الأغلبية في مجلسي الكونغرس، وكذلك فعل الديمقراطيون، لكن النظام السياسي الأميركي تم بناؤه بطريقة قائمة على توازن دقيق بين السلطات، وبين القوى السياسية الأميركية، بحيث لا يكون هناك أولا غالب أو مغلوب، ولا يكون هناك ثانيا جنوح كبير إلى أقصى اليمين أو اليسار، وفي كلتا الحالتين فإن «البندول» الأميركي يتحرك ضمن توافق للوسط الذي يرضى عنه ويتوافق عليه ويتسع له قلب أغلب الأميركيين. لكن الأمر كله يبدو مختلفا هذه المرة، وهناك شيء ما أكبر من مجرد انتخابات أخرى في التاريخ الأميركي، والتي تتكرر بانتظام مدهش في مواقيت ومواسم. فما جرى حدث في وقت وصل فيه الاستقطاب بين اليسار – الليبرالي التقدمي – في الحزب الديمقراطي، واليمين – المحافظ والمحافظين الجدد من جماعة «الشاي» – في الحزب الجمهوري؛ لدرجة غير مسبوقة من الحدة حتى إنها أقفلت الحكومة الفيدرالية عدة مرات. ووصل الاستقطاب إلى داخل الجامعات، والمؤسسات المختلفة المالية والاقتصادية والبحثية، والأهم من ذلك كله كل أدوات الإعلام التي أصبح بعضها أشبه بمنصات آيديولوجية.
لمن خبر أميركا لعقود طويلة فإن اللحظة غير مسبوقة؛ صحيح أنها عرفت لحظات من الشك كما جرى في أعقاب حرب فيتنام، كما عرفت لحظات من الاندفاع والاستقطاب في عهد ريغان، واهتزت بدرجة أو بأخرى بعد حروب أفغانستان والعراق والأزمة الاقتصادية والمالية؛ لكن كل ذلك أمر وما نشاهده الآن في الولايات المتحدة أمر آخر. لقد تعلمنا منذ وقت طويل أن الأوضاع الاقتصادية حاسمة في توجهات الشعب الأميركي، كما أن الاطمئنان إلى القيادة الأميركية للعالم عامل آخر، وأنه في الأوقات الصعبة التي تكون فيها أزمات أو حروب يلتف الأميركيون حول رئيسهم. لكن نتيجة انتخابات الكونغرس تكاد تنفي هذه المقولات الذائعة، فالحقيقة أن الاقتصاد الأميركي في أحسن حالاته أيا كان المعيار الذي يستخدم سواء كان معدل النمو، أو معدلات التشغيل، أو نسبة التضخم.
لقد تمكن باراك أوباما من أخذ أميركا بيدها وأخرجها من الأزمة الاقتصادية منقذا نظامها المالي في قطاعي البنوك والتأمين، وصناعات كبرى مثل السيارات والبناء وما يلحق بهما من صناعات. وجرى ذلك كله بينما خرجت وتخرج أميركا من حروبها الفاشلة، ولم تدخل حربا أخرى إلا مضطرة في مواجهة «داعش» وبالاشتراك مع تحالف دولي كبير، وهو ما ينفي تهمة «الرخاوة العسكرية» الشائعة عن قيادة أوباما. ورغم ذلك فإن حزب الرئيس لم يفشل فقط في الانتخابات، بل إن استطلاعات الرأي العام تعطيه أقل درجات التأييد التي عرفها في تاريخه، وعرفها رؤساء أميركا خلال فترة ولايتهم الثانية. انظر إلى أوباما نفسه، هو مرهق في معظم الأوقات، وخطاباته فقدت الكثير من سحرها، وبشكل ما فإنه يبدو كما لو كان يعد الدقائق حتى يترك المنصب الثقيل. هذه الأعراض ربما ألمت برؤساء سابقين، لكن في حالة أوباما فإن تأثيراتها مضاعفة، لأنها دوما تقرن بتلك الأحلام الكبيرة، والتوقعات المثيرة، التي جرت أثناء احتفالات توليه كأول رئيس أسود لرئاسة الولايات المتحدة حتى إن مؤسسة نوبل العالمية منحته جائزة السلام قبل أن يفعل شيئا في قيادة أميركا. وقيل أيامها إنه منح الجائزة ليس لما قام به، وإنما لما سوف يقوم به؛ وبات أوباما يقينا تمزقه شكوك كثيرة.
لا يمكن تفسير ما يجري من عجب في السياسة الأميركية إلا بأن انتخاب أوباما من الأصل خلق أزمة عميقة داخل الولايات المتحدة، بحيث تغلبت هذه الأزمة على كل إنجازاته؛ أو أن إنجازاته باتت متهافتة مقارنة بما تسبب فيه من إخفاق. باختصار فإن وجود أوباما في قمة السلطة الأميركية ثم بعد ذلك سياساته مثلت ما سماه دينيش ديسوزا في كتابه «أميركا» انتصارا لثورة 1968 الشبابية «السوقية» بقيمها الاستهلاكية والعدمية، على ثورة 1776 التي قامت الولايات المتحدة على أساس مبادئها وتقاليدها. جاء هذا الكتاب في أعقاب سلسلة من الكتب والمقالات المهمة التي لا تسجل فقط نهاية «العصر الأميركي» بل أيضا انهياره، حيث كتب ستيفن كوهين وبرادفورد ديلونغ عن «نهاية النفوذ»، وكتب فريد زكريا عن «عالم ما بعد أميركا»، وكتب كينيث راجوزا في «فوربس»: «بعد أن يترك أوباما مكتبه فإن أميركا لن تكون رقم 1»، وكتب ستيفن والت عن «نهاية العصر الأميركي». وفي الحقيقة هناك ما هو أكثر.
هذا المزاج من التشاؤم الشديد يقوم على ثلاث فرضيات: الأولى أنه نتيجة انتصار تمرد 1968 على 1776 فإن أهم مميزات أميركا في العمل الشاق وتحمل المسؤولية ومكافأة المجد والموهوب والمبدع قد فقدت لصالح ثقافة توزيعية ولا أخلاقية في كثير من جوانبها. والثانية أن أمما أخرى قد استغلت فرصة التراجع الأميركي النسبي لكي تملأ الفراغ العالمي. هنا تبدو الصين والهند والبرازيل وروسيا مرشحة لكي تغير الموازين العالمية. والثالثة أن نتيجة الانتخابات سوف تعطي قيادة مبكرة للجمهوريين للأجندة التشريعية الأميركية التي سوف تقع على عاتق أوباما مسؤولية ممارسة حق «الاعتراض» عليها أو الاستسلام لها، وما بين هذا وذاك فإن أميركا لن تكون كما كانت، والمرجح أن يكون العامان الأخيران من قيادة أوباما أشبه بفترة «البطة العرجاء» التي لا يستطيع فيها اتخاذ قرار، أو رسم استراتيجية، فضلا عن تنفيذها.
هل تسير أميركا إلى هذا المصير؟ الإجابة: ربما. لكن أميركا عودتنا على الكثير من المفاجآت، والنظام الأميركي على طريقته نجح في التعامل مع لحظات عدم التوازن بين البيت الأبيض والكونغرس، كما أن أميركا استفادت في الحقيقة من صعود أمم أخرى كما حدث عندما صارت اليابان وألمانيا معجزات اقتصادية، وكما نجح الجمهوريون في الخروج من الظل بعد كوارث جورج بوش، فالديمقراطيون أيضا لديهم معجزاتهم خاصة أن الأضواء كلها سوف تنصب على السؤال: ماذا يفعل الجمهوريون بالأغلبية التي حصلوا عليها في الكونغرس؟ على أي حال فإن مراقبة أميركا وقياس نبضها السياسي خلال المرحلة المقبلة ضرورة لها وللعالم أيضا!!

عبدالمنعم سعيد

نقلا عن الشرق الأوسط

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق