قراءة في ما بعد الاتفاق النووي الإيراني

في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الأمم المتحدة، يوم 27 نيسان/إبريل 2015، قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري: “إنّ الولايات المتحدة والقوى الكبرى الخمس الأخرى هي الآن أكثر قرباً من أيّ وقت مضى من اتفاق مع إيران، من شأنه أن ينهي مواجهة مضى عليها 12 عاماً، بشأن برنامج طهران النووي، على رغم أنّ الجانبين أمامهما المزيد من المحادثات الصعبة”.

إذ ركزت إدارة أوباما طيلة سنوات فترتيه الرئاسيتين على محاولة تحقيق إنجاز على مستوى الملف النووي الإيراني، الذي شكَّل هاجساً لإسرائيل من جهة، وعائقاً أمام محاولة إعادة تأهيل النظام الإيراني وإدماجه في منظومة حلول إشكاليات الشرق الأوسط، والتي أجلّت بالتالي المحاولات الأمريكية-الإيرانية المتبادلة لتطبيع العلاقات أكثر فأكثر. لذا فإنّ الطرفين اليوم يدخلان مرحلة جديدة من العلاقات تنزع عنها الطابع الصدامي والتهديدي، إلى مرحلة ربّما تحمل كثيراً من التعاون السياسي والاقتصادي في المنطقة بينهما، ولكن ما مدى جدوى هذه العلاقات في هذا التوقيت تحديداً؟

صحيح أنّ تخلي إيران عن برنامجها النووي، هو أمر حتمي كانت تفرضه البراغماتية السياسية على صناع القرار في إيران، لكنها ناورت طويلاً قبل التخلي عن برنامجها بغية الاستحصال على مكاسب أكثر جدوى من القوة النووية، في ظروف إقليمية ودولية كانت مختلفة عما هي عليه الآن. وخاصة أنّ الاستمرار في النهج النووي السابق، كان سيدفع بها إلى مزيد من العزلة (على نمط كوريا الشمالية)، وبالتالي مزيد من الانهيار الاقتصادي الذي لن يمكن تلافي آثاره بمجرد توقيع اتفاق نهائي، بل يحتاج إلى سنوات (وربما عقود) من محاولات الإصلاح الاقتصادي-السياسي.

كما أنّ الاستمرارية في الملف النووي، كان سيحتم على إيران تكاليف ما عادت قادرة على تحملها في ظلّ عقوبات دولية كانت آخذة في الاتساع سنة عن أخرى، عدا عن محدودية العائد المرجو من السلاح النووي نفسه، وخاصة أنّه سلاح ردع وتهديد، لا يمكن اللجوء إليه في أي اشتباك إقليمي، إلا في سبيل معادلة “أنا ومن بعدي الطوفان”، أي حين يكون آخر سلاح. كما أنّ قدرة إيران في حال حصولها على السلاح النووي ستبقى دون خصومها (إسرائيل وفق المنظور الإيراني)، والتي تفوقها خبرة وكمية سلاح بكثير، إضافة إلى باكستان والهند التي سبقتاها أيضاً وبكميات تفوقها بأشواط عديدة، عدا عن دخول المنظومة الخليجية (وتحديداً السعودية) منذ عام 2014 إلى المجال النووي، بجملة صواريخ استراتيجية، مع قدرة تمويلية لا تستطيع إيران منافستها مطلقاً.

كما أنّ حصول إيران على سلاح نووي، كان يعني في المقابل، إطلاق سباق تسلح نووي إقليمي، يحتاج إلى تمويل ضخم، هي أعجز ما يكون عنه، وخاصة في ظلّ الانهيارات الاقتصادية داخلها، وستكون بذلك قد سلكت منهج الاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن الماضي. لذا كان من المنطقي أن تتخلّى عن التوجه العسكري النووي، بعد ما اكتسبت خبرة علمية تؤهلها للعودة إليه في حالة احتاجت ذلك (كما تعتقد)، مقابل مكاسب سياسية أكبر.

عولت إيران من خلال مناوراتها الدولية في ملفها النووي، على الاعتراف بها كندٍّ إقليمي، أو على الأقل كقوة إقليمية قادرة على ضبط بعض خيوط المسرح السياسي في الشرق الأوسط، وبالتالي أخذ مصالحها في عين الاعتبار، وخصوصاً في المجال العربي. غير أن التطورات شرق الأوسطية كانت أسرع من الحراك الإيراني، فهي وإن حصلت على تقارب يتسع شيئاً فشيئاً مع الولايات المتحدة، باعتبارها القطب الأوحد عالمياً، والقوة الأكبر، إلا أنّ هذه التقارب يأتي في مرحلة من القطبية الأحادية شديدة الهشاشة، وفيما تعتقد أنّ الجمع بين تحالفات تشمل الولايات المتحدة وروسيا والصين، ستؤهلها لأدوار إقليمية أكبر، فإنّها بذلك ستفقد صدقية مكانتها في التحالف مع أي من هذه الدول، والتي هي في صراع على شكل النظام الدولي، سيتضاعف في السنوات المقبلة.

كما أنها على المستوى الإقليمي بات معزولة في الإطار المذهبي الذي اشتغلت على صناعته طيلة السنوات العشر الماضية تحديداً، ولم تستطع تحقيق أي تقارب مع دول الخليج العربي (المنظومة العربية الأكثر استقراراً)، ولم يتبق لها من نفوذها في سورية إلا مناطق محدودة، رغم مشاركتها المباشرة في العمليات العسكرية إلى جانب نظام الأسد، بل وإدارة تلك العمليات، في عملية باتت توسم باحتلال إيراني لسورية، كما أن أدواتها الميليشياوية في لبنان واليمن، باتت محاصرة أكثر فأكثر، وفقدت غالبية حواضنها العربية، وخاصة بعد عملية عاصفة الحزم، عدا عن أن هيمنتها على العراق باتت هشة جداً.

وتتوقع إيران انتعاشاً اقتصادياً مقبلاً عقب رفع العقوبات الدولية عنها (وإن كانت بشكل تدريجي)، وهو ما تعول عليه في تعزيز مواقعها الداخلية والخارجية، والخروج من حالة الإنهاك الاقتصادي الذي قارب الإفلاس، ومنه إعادة تعزيز شرعية النظام السياسي (المغلق والمتأزم)، من خلال تنشيط الحالة الاقتصادية للمواطنين. غير أن التجارب الدولية في كثير من النماذج أثبتت أن حالة الانفتاح الاقتصادي في النماذج الاستبدادية، تترافق بوعي سياسي مجتمعي أكثر فأكثر، وخاصة مع بروز مراكز استقطاب اقتصادية تابعة للسلطة، تؤدي إلى انتشار واسع للفساد عوضاً عن ترميم التصدعات في هياكل السلطة والمجتمع، وهو ما حصل في سورية بين عامي 2000-2010 على سبيل المثال، وأدى في النتيجة إلى ضغط اقتصادي أهّل المجتمع لثورة على النظام (ضمن جملة مؤهلات). أي في حال تساقط ثمار الانفتاح الاقتصادي مجتمعياً، فإنه ذلك سيؤهل المجتمع الإيراني للمطالبة بأدوار وانفتاح سياسي أكثر، وفي حال حصر تلك الثمار في البنى السلطوية، فإن عاملي الفقر والنقمة على النظام سيتضاعفان.

وخاصة أن النظام الإيراني، وبتقاربه مع الولايات المتحدة، ومحاولة إنشاء مجالات تعاون إقليمي مشترك، يسقط بذاته شرعية “الممانعة” التي حافظت عليه حتى الآن، سواء في الداخل الإيراني، أو بين الأطراف المناصرة له في العالم العربي. وسيحتاج إلى الاشتغال على بناء شرعية جديدة خارج الإطار الديني، بعد أن تم استنزاف الشرعية الدينية في حروب خارجية واضطهادات أقوامية داخلية.

كما أن أي انفتاح اقتصادي-سياسي، سيدفع إيران إلى تعزيز حضورها العسكري المباشر وغير المباشر في عدة ساحات عربية، وخاصة في العراق وسورية ولبنان، من خلال ضخ جزء من عوائد هذا الانفتاح، على شكل إسناد مالي للميليشيات التابعة لها، وهو ما سيستنزف القدرة المالية التي يعوّل عليها في الداخل، ويخلق مزيداً من الاحتقان المجتمعي، وخاصة بين أبناء الطبقات المهمشة والفقيرة (والتي باتت تشكل غالبية المجتمع الإيراني).

لذا فإن إيران عقب الاتفاق النووي المتوقع، باتت أمام جملة سيناريوهات، منها:

  • الاستمرار في ذات النهج العسكري-الطائفي تجاه المنطقة العربية، ما سيشكل لها مزيداً من الاستنزاف العسكري والاقتصادي، وخاصة أنها قد بلغت مرحلة من التمدد الاستراتيجي الزائد، الذي بات عبئاً عليها، غير قادرة على ضبطه. وفي حال قيام هذا السيناريو، فإنه سيدفع باتجاه تفكك بؤر التمدد الإيراني واحدة تلو الأخرى، بدءاً من اليمن، مروراً بسورية ثم لبنان فالعراق، خلال السنوات القادمة، وبما ينعكس لاحقاً على شكل أزمات مجتمعية متفجرة ومتتالية في الداخل الإيراني.
  • البحث عن تسويات مع القوى الإقليمية والدولية، بحث تحافظ من خلالها على بعض من مصالحها، والتخلي عن بعض امتدادها الميليشياوي الزائد، وهو وإن كان نهجاً براغماتياً يقلص خسائرها، إلا أنه بحاجة إلى تغييرات جذرية في عقلية القوى السياسية الحاكمة لإيران، ولا يمكن التعويل عليه حالياً، وخاصة أن النهج الإيراني غير معتاد على تقديم تنازلات، أو التشارك في المصالح على المستوى الدولي والإقليمي، إلا في حالات الحصول على مكاسب أكبر، هذه العقلية الحاكمة، ووفق الظروف القائمة في الشرق الأوسط، ستبقى ميالة إلى السيناريو السابق. كما أن الأطراف الإقليمية الأخرى باتت أكثر تصلباً ورفضاً في منح إيران أية أدوار سياسية أو عسكرية داخل العالم العربي.
  • وفي حين تروّج بعض الشخصيات المرتبطة بإيران، لسيناريو حرب إقليمية تشنها إيران على عدة محاور، فإن هذا السيناريو يبقى غير واقعي بشكل مطلق، في ظل إدراك إيران لمعادلة التوازن بين القوى، وقدراتها المحدودة، وزيف ادعاءات سلاحها، وتوسع القوى المواجهة لها، عبر انخراط باكستان في أحدث عمليات المواجهة معها (عاصفة الحزم)، عدا عن أنّ الداعم الدولي، لن يدفع باتجاه هذا السيناريو لارتباط مصالحه بالأطراف الخليجية حتى الآن.

ورغم أنّ التقارب الأمريكي-الإيراني ومن خلفه الغربي-الإيراني، يسعى في النتيجة إلى عقلنة السلوك الإيراني وضبطه، لا إسناده في مواجهة مجموعة واسعة من الحلفاء(دول الخليج العربي، باكستان، تركيا، مصر والأردن)، ومحاولة إشراكه في الحلول السياسية في المنطقة، وفق ما عبرت عنه منسّقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فيدريكا موغريني بأن “من الضروري أن تصل المحادثات النووية بين إيران والقوى العالمية الست إلى نهاية ناجحة، وهو ما قد يعزّز دور إيران الإقليمي بطريقة بناءة … وأفضل نهج محتمل يمكن أن يكون لدينا هو: من ناحية أن تكون هناك نتيجة إيجابية للمحادثات النووية حتى يمكننا التأكد من أنهم لا يمكنهم أن يطوّروا سلاحاً نووياً، ومن ناحية أخرى دعوة إيران الى لعب دور رئيس (رئيس لكن إيجابي) في سورية، على وجه الخصوص، لتشجيع النظام على (دعم) عملية انتقال يقودها السوريون”.

إلا أنه ما عاد بالإمكان أن تكون إيران جزءاً من الحلول الملتمسة لصراعات الشرق الأوسط، بعد أن غدت المحرك الأساسي لكثير منها. إضافة إلى أنّ تنامي القوى المضادة لها لن يسمح لها بهكذا أدوار كما تتخيلها طهران.

وتُعبِّر عاصفة الحزم، التي شكلت إطاراً للتعاون الإقليمي، عن حجم المأزق الإقليمي الذي باتت إيران تواجهه، وهي تعلم أنّ أيّ تصعيد قد تلجأ إليه في المنطقة، سيواجه بتحالف أكثر قوة ونوعية عن تحالف الحزم، ودون انتظار لتدخل وإسناد دولي على غرار عاصفة الصحراء. وإن كان من المبكر قليلاً الحديث عن توسيع عمليات عاصفة الحزم باتجاه بؤر نفوذ إيرانية أخرى (سورية، العراق)، إلا أنّ هذا الخيار بات مطروحاً، بل وضرورياً لتقويض كافة الامتدادات الإيرانية في العالم العربي، بل وبات واقعياً عقب الانتهاء كلياً من الملف اليمني.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق