في علاقة المركز بالأحواز: مواطنة أم احتلال؟

كما هي البداية في تكوّن إيران التاريخي، يصعب على هذه الورقة تلمّس المدخل للولوج في إشكالية بنيوية واكبت اللحظات التاريخية الحاسمة في تطور إيران السياسي والاجتماعي والثقافي وعلاقة المركز بالأطراف، التي شكلت بيئات مستعصية على محاولات الصهر الهوياتي ضمن مفهوم الأمة الإيرانية المؤسّس لحداثة إيران في عشرينات القرن المنصرم.

تتجلى هذه الإشكالية على شكل قلق مزمن يتحكم في مجمل التوجهات العامة للسلطة المركزية منذ العهد البهلوي، إزاء مجالات توسّع مناطق القوميات غير الفارسية في صيغ إدارة مصالحها الخاصة على نحو قد يفضي إلى تعميق التمايزات السياسية والاجتماعية والثقافية بما يتفق مع النزعات القومية “ما دون الوطنية” لدى هذه القوميات.

فعلى عكس المحافظات الفارسية كأصفهان وفارس، تعاني أقاليم الأحواز وبلوشستان وكردستان وأذربيجان بدرجات متفاوتة من تبعية في بنائها السياسي والأمني والاقتصادي والتنموي للمركز طهران. ذلك ما يبيّن مستوى حدة النظام الإداري في مركزية قراره وإصراره على انفراد العاصمة في تشكيل أولويات ومصالح هذه الأقاليم، للحؤول دون مساهمة فعالة من قبل نخب الأخيرة في هذه العملية.

ويثبت ذلك مبادرة الحكومة الإيرانية بإطلاق مشاريع تنموية مستدامة خاصة بالأطراف، أهمها “مشروع التنمية المستدامة لمحافظة خوزستان”، الذي يتوخى حسب زعمه، تحسين الوضع الاقتصادي والأمني والسياسي والثقافي في الأحواز، منطلقاً من الاعتراف بوجود أزمة اندماج ثقافي وقصور في بسط السلطة الأمنية للدولة في بعض مناطقه (أزمة تغلغل)، بما يسهم في خلق بؤر رخوة تستثير استياء الناس وغضبهم، وبالتالي إضعاف انتماءهم تجاه الدولة.

ما تقدم هو تمهيد لفهم أكثر دقة للعلاقة السببية بين الانتخابات -تحديداً البلديات المحلية- بالوظيفة التي تؤديها من جهة، والبواعث التي تحرك الناخب وتوجّه خياراته أثناء عملية الاقتراع، من جهة ثانية. وسيجري تسليط الأضواء على المنطق الذي يقف وراء أدبيات الخطاب الانتخابي في الأحواز بتمظهراته المختلفة من المشاركة إلى المقاطعة.

فمما لا شك فيه، أن الانتخاب -كآلية- ارتبطت بتحولات في صيرورة النظام الديمقراطي، هو حصيلة مسار تطور علاقة الفرد بالدولة وخروجه من دائرة الرعية منزوعة الحقوق، إلى مستوى تصيّره المصدر الشرعي للسلطة، يمنحها للحاكم أو بتعبير معاصر للحكومة بقدر استجابتها لمصالحه، في إطار علاقة مواطنة تجمع الفرد (المواطن) بالدولة.

حيث يكتسي الانتخاب قيمته السياسية، من عمق تأكيده على هذه العلاقة –وعلى خلاف ذلك يفقد دوره الوظيفي-، التي تفترض على السلطة أولاً الخضوع لمبدأ إرادة الشعب أو الأمة وليس الدين أو سواه من مصادر الشرعية التقليدية، كمصدر حصري لإعادة إنتاج شرعية السلطة بشكل دوري، يتيح للمواطن إمكانيات المراقبة والمحاسبة.

وكمحاولة لتضمين الواقع بعداً نظرياً يتيح آفاقاً تتجاوز اللحظة الراهنة، يكشف تعامل الدولة الإيرانية مع الشعب الأحوازي في بعض أوجهه، عن سياسات ممنهجة مستقرة تاريخياً منعت توفّر الشروط الضرورية لتبلور علاقة مواطنة وانتماء بين الأحوازيين وإيران. فالأخيرة في عمق أسباب نشأتها ومشروعيتها كدولة قومية قامت على استحضار التضاد الحضاري المجوهَر بين العرب والفرس، وتكثيف حالة عداء تخللت تفاصيل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية الإيرانية. والشعب الأحوازي لم يكن إلا الحيز لاختبار قدرة الأمة الإيرانية على صهره في إطار بوتقة ثقافية أكبر.

لقد شكّل الأحواز-وبدرجات منخفضة، الشعوب غير الفارسية الأخرى- العائق أو حجرة عثرة في عملية بناء الأمة في إيران، باعتباره التجسيد المعاصر (وفق العقيدة الثقافية الإيرانية) لمآسي إيران التاريخية والشاهد الذي ما انفك يحيلهم إلى الهزيمة التي مني بها الفرس من قبل العرب المسلمين.

تحت تأثير هذه المنظومة الثقافية الضامنة لتماسك الهوية الإيرانية، تحدّدت طبيعة السياسات والمشاريع الحكومية الهادفة لإحداث تغيير نوعي في طبيعة ثقافة وانتماء الأحوازيين عبر “مكافحة” العوامل المنتجة لخصوصية الشعب الأحوازي.

ما يبتغي النص التمكن منه، يتلخص بالتالي: بالرغم من انعدام أسس الديمقراطية في النظام السياسي الإيراني، نتيجة الطبيعة الثيوقراطية-المذهبية لهذا النظام الذي يترأسه المرشد الأعلى المفوَّض بتطبيق “شرع الله”، على نحو يلغي معه مرجعية الشعب أو الأمة في تحديد شرعية السلطة، بالإضافة إلى أعلوية قرارات ورغبات المرشد على السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية).

فعلى الرغم من ذلك وتغاضياً عن أمور كثيرة يستعصي معها الافتراض، تبقى المراهنات على إصلاح هذا النظام ودمقرطته، حبيسة شكل محدد للنتيجة التي تفضي إليها عملية الإصلاح. فهي ستقتصر على تحويل مصدر شرعية السلطة من الدين (الإسلام الاثني عشري) إلى “الأمة الفارسية”. ومن يريد أن يكون مواطناً عليه أن يخلع جلده ويرتدي آخر، بمعنى أن يتحول إلى “فارسي” بكل ما أُتيت هذه “الصفة” من مضامين فكرية وثقافية وأدبية.

حيث أن أي تصور آخر لشكل النظام السياسي الذي سيعقب الإصلاح أو الدمقرطة، كالنماذج الديمقراطية الغربية القائمة على الحرية والمساواة، بعيداً عن الإملاء القسري لنسق أيديولوجي أو هوياتي على جزء أو كل المواطنين؛ فهذا التصور الأخير يضع هوية إيران كدولة وتاريخها ونظرتها لذاتها والمحددات العامة لثقافتها القومية على محك التفكك والتشظي، لا بل يتعدى ذلك إلى التشكيك بجدوى استمرار إيران جيوسياسياً.

…يتبع

أيوب سعيد

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق