في انفكاك النصرة عن القاعدة: تغيير أم مناورة جديدة؟

أتى إعلان النصرة عن تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، وترويج فكرة فكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة، ليُحدِث تكهّنات عدّةً بمسار الحدث السوري، وتطوّراته اللاحقة لذلك، وعن توجّهات عسكرية جديدة في سوريا والمنطقة، تدفع باتجاه إيجاد مخارج جديدة، تُقصِي نظام الأسد، وتُسهِّل القضاء على تنظيم داعش، غير أنّ لهذا الإعلان إشكاليات جمّة، فكرية وسياسية وتطبيقية، تدفع للتريث قبل التسليم به. ونحاول في هذه الدراسة، تقديم لمحة موجزة عن نشأة جبهة النصرة وطبيعة ارتباطها بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، قبل قراءة أبعاد إعلان الجولاني الأخير، ومحاولة تحديد مسبباته ونتائجه المرتقبة.

 

نشأة جبهة النصرة في سورية:

يتجلّى حضور القاعدة في المسألة السوريّة عبر تنظيميّ:

  • جبهة النصرة أولاً، والتي أنشأها أبو بكر البغدادي أمير “الدولة الإسلاميّة في العراق”، على ذات قواعد وبنى تنظيم القاعدة، تحت هدفٍ معلنٍ هو “نصرة الشعب السوريّ”، وهدفٍ مؤجَّلٍ يرمي إلى توسيع امتداد القاعدة جغرافيّاً.
  • وتنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام لاحقاً.

واستطاعت الجبهة الاستحصال على حاضنٍ شعبيٍّ في عدّة محافظاتٍ سوريّة بادئ الأمر، نتيجة منهجيّتها العسكريّة والتنظيميّة، حيث ابتعدت عن الاختلاط بالمدنيّين، وكانت تمتلك معايير عالية الشدّة في اختيار مقاتليها، فيما كانت تحقِّق إنجازاتٍ عسكريّةً في مواجهة قوات نظام الأسد، والتي عجزت قوّات الجيش الحرّ عن صدّها في تلك الفترة، كما اشتغلت على توفير المعونات الغذائيّة والطبيّة وإمدادات الوقود للمناطق المنكوبة المحرّرة من سلطة نظام الأسد.

ولم يشكِّل المقاتلون السوريّون في جبهة النصرة سوى 35.8% من مجموع مقاتليها عام 2013، في حين شكَّل المقاتلون العرب ما نسبته 56% من مقاتليها. وفق إحصائيّاتٍ قدَّرت مجموع مقاتليها بـ 3350 مقاتل، على أنّ هذه الإحصائيّات تعرّضت للنقد باعتبارها مبالغاً في أرقامها بشكلٍ كبير (1).

وقد دفع التصنيف الأميركيّ لجبهة النصرة بالإرهاب، إلى اجتذاب كثيرٍ لها ممن خبروا النوايا الأميركيّة في المنطقة. ووفقاً لأبي عدنان، أحد قيادييّ النصرة، فإنّ: “الولايات المتّحدة تصنِّفنا إرهابيّين، لأنّها ترى أنّ بعض التكتيكات لدينا تحمل بصمات تنظيم القاعدة في العراق، كقنابلنا وسيّاراتنا المفخّخة، نحن لسنا كتنظيم القاعدة في العراق، نحن لسنا منهم”. ويعتقد أبو عدنان، كالعديد من الشخصيّات المعارِضة، أنّ هذه التسمية تكشف بأنّ الولايات المتحدة ليست جادّةً بالإطاحة بالأسد، ويرى أنّ “الولايات المتحدة تعطي مجالاً كبيراً للأسد، لمنحه فرصة البقاء في السلطة قدر ما تستطيع”، وأضاف “مارس النظام الإرهاب لمدّة عامين دون أن تفعل الولايات المتحدة شيئاً، فلماذا تحرّكت بهذه السرعة ضدّ قوّةٍ مقاتلةٍ على الأرض في سوريّا، وهل نسيت النظام؟”. ووفقاً له، فإنّ الجبهة لا تنتظر سلاحاً من المجتمع الدوليّ، حيث وفّرت لها هجماتها على مواقع قوّات نظام الأسد، الكثير من الغنائم العسكريّة، كما وفّر المقاتلون الأجانب مصدراً للدعم سواءً عبر وجودهم ضمن صفوف الجبهة، أو بشكلٍ ماديٍّ (الأموال). ووفقاً لأبي عدنان، فإنّه ليس لدى الأقليّات ما تخشاه من الدولة الإسلاميّة المنشودة: “كان أحد جيران الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود”، وأضاف “من لم يظلم أحداً، أو شارك في إيذاء الشعب، فحقوقه هي حقوقه وواجباته هي وجباته، لكنّ أولئك الذين تلطّخت أيديهم بالدماء، سواءً أكانوا من الأقليّات أم سواها، لن نبدي لهم أيّة رحمة” (2).

ولم تكن جبهة النصرة تنظيماً جهاديّاً تقليديّاً بقدر ما كانت وعاءً يجمع السرايا المتشابهة فكرياً وأيديولوجيّاً ويطوِّر بناها التنظيميّة، ويرفدها بعناصر ومنتسبين جدد، لتشكيل “جبهةٍ عريضةٍ” تكون عنوان الجهاد ومقصد المجاهدين في سوريّا. وتجنّب قائدها الجولاني إعلان الولاء والتبعيّة لتنظيم القاعدة أو أيّ تنظيمٍ جهاديٍّ آخر “إقليميّ”، مثل تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق، الذي أسهم في نشأة النصرة وإمدادها بالرجال والمال. وقد استمرّت النصرة في اتّباع هذا المسار حتى 10/4/2013، عندما أعلن أبو بكر البغدادي عن حلّ الجبهة، وإدماجها في تنظيمٍ واحدٍ أسماه “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” (داعش)، ورفضه الجولاني. ويُرجَّح أنّ إعلان الجولاني البيعة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري كان بمنزلة “المخرج الوحيد” للنصرة في مواجهة دعوة البغدادي، ومهرباً للجولاني من استنساخ الدولة الإسلاميّة في العراق، في الحالة السوريّة. ويؤكِّد الشيخ محمد عبد الله نجيب سرور هذا الأمر، ويذكر نقلاً عن قياداتٍ في النصرة أنّ “لدى الجولاني استيعابٌ لخصوصيّة بلاد الشام وتمايزها عن الساحات الجهاديّة الأخرى، وأنّ لدى النصرة مرونةٌ في تطبيق المصالح والأحكام الشرعيّة، كما أنّها لا تسعى لأخذ البيعة أو فرض سيطرتها على باقي الكتائب، وأنّ الجولاني سعى لإنشاء “مجلس شورى المجاهدين” لمنع حصر قيادة الجبهة بشخصٍ واحد هو “الأمير” على التنظيمات الجهاديّة التقليديّة (3). إلّا أّن الجبهة اصطدمت مع عدّة فصائل تابعةٍ للجيش الحرّ، وأجبرتها على إخلاء مواقعها لاحقاً، وقتلت عدداً من جنودها وأسرت آخرين.

 

رد فعل تنظيم القاعدة على الثورات العربية:

بتجاوز سباق تنظيم الدولة مع القاعدة فكأنّه في سباقٍ مع ما جاءت به الثورات، فكان ردّه على “التغيير السلميّ” الذي جاءت به الثورات باعتماد التغيير “بالجهاد”، فأطلق أقصى طاقته واستعان بالنسخة الجهاديّة الأكثر ضراوةً وبأقسى صورها، فكان في قمة الدمويّة وقمة الاستبداد ليقيم دولته ولو على عَجَل، وكأنه يستدرك خطأً كاد يسمح بقيام “نموذجٍ ناجح” ينهي التيار الجهاديّ ويدخله المحتوم وهو المراجعات. ولكن لا سبيل له إلى الفكاك من هذا المصير، لا بل قد بدأت هذه المرحلة بالفعل، فهناك حربٌ كلاميّةٌ بين القاعدة وتنظيم الدولة إلى جانب الحرب التي يخوضها الجهاديّون ضد أعدائهم وضدّ بعضهم البعض، حول كلّ شيء، وحول صحّة الخلافة التي أُعلنت والأحكام التي تُنفَّذ والدماء التي تُستباح، ويرمون بعضهم بكل ما جاء في بطون الكتب وما أنتجته تجربتهم من اتّهامات (مرجئة، خوارج، مرتدّون) (4).

 

طبيعة العلاقة بين النصرة والقاعدة:

تقدِّم الجدالات الشفويّة والمكتوبة بين تنظيم الدولة والقاعدة مادّةً نموذجيّةً للتحليل، فهي تُظهر الاتفاق أكثر مما تُظهر الخلاف، فالتصريحات تُظهر اتفاقهم على إقامة مشروع “الدولة الإسلاميّة في الشام” ثم إعلان “الخلافة” -كما في تصريح الظواهري- وأنّ هذا المشروع يواجه مشروعين: “مشروع إقامة دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطيّةٍ وهو مشروعٌ علمانيّ، ومشروع إقامة دولةٍ محليّةٍ وطنيّةٍ تسمّى إسلاميّة، وحقيقته أنّه مشروع دولةٍ وطنيّةٍ تخضع للطواغيت في الغرب يَهدف إلى حَرْف مسار الجهاد” كما يقول العدنانيّ. والجميع متّفقٌ على أنّ العلمانيّة والقوميّة والوطنيّة والديمقراطيّة “كفرٌ بَوَاح مناقضٌ للإسلام مُخرجٌ من الملة”. وتكشف المساجلات بين العدناني والظواهري شكل العلاقة بين تنظيم الدولة والقاعدة، ووجود مراسلاتٍ مستمرّةٍ بينهما حتى الشهر الأوّل من عام 2014، وتفيد بأنّ تنظيم الدولة تابعٌ للقاعدة وقدَّم لها البيعة والتزم بأوامرها في شؤون الجهاد -كما يفيد الظواهري- ولكنْ “خارج حدود الدولة” على الأقل كما يوضِّح العدناني، غير أنّ انشقاق تنظيم الدولة عن القاعدة وقع لأسبابٍ منهجيّةٍ بحسب العدناني، فـ”القاعدة لم تَعُد قاعدة الجهاد”، بل باتت قيادتها “مِعْولاً لهدم مشروع الدولة الإسلاميّة والخلافة القادمة بإذن الله”. ورغم محاولة العدناني توصيف الخلاف بأنّه خلافٌ منهجيٌّ فإنّه من الواضح أنّه خلافٌ لا يتناول التصوّرات والأصول، بقدر ما يتناول المسائل التنظيميّة والإجرائيّة (أولويّات التمكين والتطبيق). فتنظيم الدولة لم يكن راضياً عن ابتعاد الظواهري عن ساحات القتال، وعمّا بدا أنّه تراجعٌ أو مهادنةٌ في مسائل الجهاد باتّجاه “السلميّة”، والخلاف كلّه يدور على مسألة إعلان “الدولة في العراق والشام” وضمّ النُّصرة، ثمّ على توقيت إعلان “الخلافة” وإجراءاتها، وهو تَحَلُّلٌ من احتكار الظواهري لقيادة الجهاد العالميّ ما دام خارج ساحة المعارك، وفَقَدَ سيطرته على تفاصيل التنظيمات الجهاديّة، وهو تَحَللٌ تدفع إليه إنجازاتٌ على الأرض تُهيّئ لإعلان خليفةٍ واحدٍ فيها جميعاً، يُعلن كفره بالطاغوت، ويتبرّأ من الكفر والشرك وأهله، ويحكِّم “شرع الله”، وهو الحلّ الذي قدمه العدناني لحالة التشرذم والاختلاف بين تنظيمات الجهاد والتي يرى أنّ الظواهري قد تَسبّب فيها (5).

فيما ظهرت تباينات جبهة النصرة مع تنظيم الدولة إلى العلن في 9/4/2013، عندما ظهر تسجيلٌ لـ أبي بكر البغدادي، أمير “دولة العراق الإسلاميّة”، أعلن فيه اندماج “جبهة النصرة لأهل الشام” و”دولة العراق الإسلاميّة”، وتأسيس ما أسماه “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام”. ودعا البغدادي “المجاميع الجهاديّة” في العراق والشام، إلى التخلي عن أسمائها والانصهار في الدولة الإسلاميّة في العراق والشام. وفي اليوم التالي، أعلنت مؤسَّسة المنارة البيضاء عن كلمة لـ أبي محمد الجولاني تضمّنت ما يلي (6):

  • نفى الجولاني علمه بقرار البغدادي فيما يتعلّق بإعلان الدولة.
  • ذَكَّر الجولانيُّ البغداديَّ، بأنّه أعلن منذ تأسيس جبهة النصرة أنّ هدفها يتمثّل في “إعادة سلطان الله إلى أرضه، ثمّ النهوض بالأمّة لتحكيم شرعه ونشر نهجه”.
  • نوّه الجولاني إلى أنّ إعلان “دولة الإسلام” يجب أن يشترك فيه جميع من شارك في الجهاد (من فصائل وشيوخ معتبرين ومهاجرين)، ومن دون إقصاء أيّ طرف.
  • استخدم الجولاني لغةً غير صداميّةٍ لرفض دعوة البغدادي، وقال إنّه يستجيب لدعوته “بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى”، بتجديد البيعة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، طالباً منه التحكيم في المسألة.

يضيف محمد الأمين أسباباً أخرى للخلاف بين الجولاني والبغدادي تتمحور حول رفض الجولاني تكرار أخطاء تجربة العراق، والتي يراها البغدادي ضروريّةً لفرض سلطان الله وتحكيم الشريعة. ومن هذه الأسباب (7):

  • الاستهتار بحياة المدنيّين أثناء العمليّات، إذ إنّ أغلب المهاجرين كانوا يفضِّلون العمليّات الانتحاريّة كأسلوبٍ للقتال، وهو ما قيّده الجولاني.
  • التوسّع في التكفير واستباحة دماء من خالفهم.
  • الاستكبار على الآخرين وإلزامهم بيعة أميرٍ مجهول، واعتبار أنّ من لا يبايع الجبهة يُعدّ خارجاً من سلطان الله، وهو اتّجاهٌ كان يدفع به البغدادي.
  • التعاون مع الآخرين: كان البغدادي يتحفّظ على طريقة عمل الجبهة عندما كانت تخوض معاركها بالاشتراك مع فصائل إسلاميّةٍ أخرى أو من الجيش الحرّ، ويعتبر البغدادي أنّ هذا الأسلوب سيقوّي هذه الفصائل التي قد تحارب الجبهة في المستقبل.
  • الإشراف على المناطق المحرّرة: كان البغدادي يطالب ببسط سلطة الجبهة على المناطق المحرّرة كافّة، وتسخير مواردها والضرائب المفروضة عليها والغنائم لخدمة المشروع الجهاديّ.

وبعد إعلان البغدادي عن الدولة الإسلاميّة في العراق والشام وعن دمج التنظيمين، ومن ثم رفض الجولاني للدمج، حصلت انقساماتٌ داخل جبهة النصرة، إذ إنّ أغلبيّة المقاتلين الأجانب (المهاجرين)، رحّبوا بإعلان الدولة وبايعوا البغدادي خليفة، فيما قرّر قسمٌ من السوريّين (الأنصار) عدم الانضمام للتنظيم الجديد، فمنهم من بقي مبايعاً للجولاني، ومنهم من تخوّف من البيعة للظواهري، فانسحب وانضمّ إلى فصائل إسلاميّةٍ سوريّةٍ مثل أحرار الشام التي استقبلت كثيراً منهم (8).

في المقابل، رفضت النصرة –سابقاً- فكّ ارتباطها بالقاعدة مقرِنةً ذلك بفك ارتباط الفصائل المقاتلة الأخرى تحالفاتها مع “الطواغيت”، ووفقاً للشيخ أبي بصير الطرطوسي: “عندما نطالب جبهة النصرة، بفكّ ارتباطها بالقاعدة، تردّ بقولها: فكّوا –أوّلاً- ارتباطكم بالطواغيت وأنظمتهم، وبالكفر العالمي، ثم نحن نفكّ ارتباطنا بالقاعدة، وهو شرطٌ لاجتماع الكلمة ووحدة الصفّ. وهم يعنون بذلك جميع الكتائب الشاميّة المجاهدة الأخرى، وبخاصّةٍ منها الجماعات الكبيرة المعروفة. هذا الكلام قالوه لنا، ولغيرنا. وهو ليس له إلّا تفسيرين: أحدهما: يعنون بالارتباط ارتباط التواطؤ والعمالة، وارتباط التماسك والتعاضد، كارتباط الفرع بالأصل، يحقّق للأصل أغراضه وأهدافه، ويعمل على ترجمة استراتيجيّته وسياسته في الشام، ويتحوّل إلى خنجرٍ مسمومٍ ضدّ الإسلام والمسلمين، وخاصّتهم من المجاهدين، وهو الظاهر من كلامهم. وثانيهما: أن يكون مجرد قبول المساعدة من هذا الطرف أو ذاك، أو مجرد الجلوس مع هذا الطرف أو ذاك، يعني عند النصرة الارتباط، ويعني العمالة والخيانة ومن ثمّ الكفر والردّة (9)“.

 

مضامين إعلان قيام جبهة فتح الشام/ فك الارتباط:

أتى إعلان فكّ الارتباط، كما تمّ تسميته، وفق تسجيل مصور لأبي محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة، وظهر فيه لأول مرة دون إخفاء وجهه، في تسجيل لم يبلغ أربع دقائق، خصّص قرابة نصفها لشكر تنظيم القاعدة والإشادة به وبزعيمه السابق أسامة بن لادن، وزعيمه الحالي أيمن الظواهري، والتأكيد على دورهم في “خدمة الأمة” وفي “الجهاد العالمي”.

وأتى هذا التسجيل كإعلان عن إيقاف العمل باسم “جبهة النصرة”، والتحوّل عنها لتشكيل جديد يحمل اسم “جبهة فتح الشام”، للأسباب التالية:

  • الحفاظ على وحدة الجهاد الشامي والاستمرار فيه.
  • رغبة أهل الشام بذلك.
  • دفع ذرائع المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا، اللتين تقصفان مناطق سورية بحجة وجود جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة.

وفي إطار تأكيده على عدم ارتباط التشكيل الجديد بأية جهة خارجية، أعلن أنّ أهدافه تتمثل في:

  • إقامة دين الله وتحكيم شرعه.
  • التوحّد مع الفصائل الجهادية الأخرى، بغية تحرير بلاد الشام، والقضاء على النظام وأعوانه.
  • حماية الجهاد الشامي من الانقسامات، والاستمرار فيه.
  • خدمة المسلمين والقيام على شؤونهم.
  • تحقيق الأمن والأمان والاستقرار.

 

مما سبق، يمكن أن نسجل الملاحظات التالية على هذا الإعلان:

  • بداية، لا يشير الإعلان إلى مصطلح فكّ الارتباط الذي يتمّ ترويجه في عدّة وسائل إعلامية، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، بقدر ما هو تخلٍ عن الاسم الذي منحته القاعدة للجبهة، والعمل تحت مسمى جديد، يوحي بأنّه أتى اختياراً من داخل الجبهة وليس فرضاً من خارجها.
  • تكرار ذكر موضوع وحدة الفصائل الجهادية واستمراريتها، يعني أنّ الإعلان أتى في سياق رفض الفصائل الأخرى –الإسلامية وفصائل الجيش الحر- العمل مع تنظيم القاعدة، أو استمرار التعاون وإياها إن وجد، وأن الجبهة تشعر بالانعزال عن باقي الفصائل المقاتلة، وتسعى لإعادة الاندماج فيها. وخصوصاً أنّ هذه الفصائل ترفض ربط سوريا بالجهاد العالمي، أو جعلها إحدى ساحاته، وتعزل قضيتها في مواجهة نظام الأسد وإيران، عن موضوع إقامة الخلافة الإسلامية العالمية. عدا عن أنّ النهج الديني يختلف تماماً بين إسلامي شامي معتدلٍ ومنفتحٍ على الآخر، وإسلام قاعدي تصادمي عنفي.
  • وربما يهدف الإعلان، إلى تصدّر الجبهة الجديدة للمشهد الفصائلي في سوريا، من خلال السعي إلى تشكيل مجموع جهادي/فصائلي تقوده الجبهة أو يكون لها فيه الحصة الأكبر من القيادة.
  • ما يؤكّد هذا الافتراض، اعتبار أنّ تغيير الاسم، أتى رغبة من أهل الشام، وهو يتجاوز موضوع الرغبة، إلى تحوّل في الحاضن المجتمعي الذي رحب بالنصرة بادئ الأمر، قبل أن يتحوّل عنها، نتيجة سلوكياتها العنفية المشابهة إلى حدٍّ نسبي بسلوكيات تنظيم القاعدة وتنظيم داعش في المناطق التي تسيطر عليها الجبهة، وخصوصاً في محافظتي حلب وإدلب. وهو تحوّل باتجاه الفصائل الأخرى الأقل تشدداً أو المعتدلة، ما يعني تثقيل لموازين القوى لغير صالح الجبهة.
  • ونستدل على ذلك من حجم الانتقادات والرفض لهذا الإعلان من قبل الناشطين السوريين، سواء في الإعلام المرئي والمكتوب، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، وتفنيده، واعتباره مناورة من النصرة للحصول على مكاسب جديدة.
  • إلا أنّ الهدف الأبرز، يتجلّى فيما ذكره الجولاني ضمن مبررات تغيير الاسم، وهو العلاقات مع المجتمع الدولي، وإن كانت النصرة سابقاً قد رفضت إقامة أية علاقات خارجية –كما تدّعي- إلا أنها أدركت استحالة العمل بعيداً عن القاعدة دون ارتباط بقوى إقليمية أو دولية، تتقبّل وجودها، وتُشكِّل إمداداً لوجستياً لها. أي أنّ الإعلان يحمل في مضامينه رسالة إلى القوى الخارجية برغبة الجبهة الانفتاح على علاقات جديدة، تشرعن وجودها في سوريا، وتستدرج إمداداً لوجستياً منها، أو على الأقل، تسمح للقوى التي تدعمها –بشكل غير مباشر- بإعلان دعمها الصريح لها.
  • رغم ذلك، لا يمكن اعتبار هذا الإعلان، فكّ ارتباط حقيقي عن تنظيم القاعدة، فالجبهة خرجت من رحم التنظيم الأم –القاعدة-، فكرياً ومؤسساتياً، عدا أنّها متشربة بمنهج القاعدة العملياتي والأيديولوجي، وهنا لا يمكن للجبهة أو سواها، إحداث قطيعة نهائية وكاملة مع الأصل الذي خرجت منه، بشكل مباشر، ودون تغييرات حقيقية في القيادات والمناهج والسلوكيات، وهو ما لم يأتِ الإعلان على ذكره بشكل مطلق، ولم يذكر الإعلان كذلك، طبيعة الاختلاف بين الجبهتين –النصرة وفتح الشام-.
  • أكد الإعلان أن الجبهة الجديدة –فتح الشام- غير مرتبطة بأية جهة خارجية، وهنا يمكن أن ندخل في جدال حول مفهوم الجهة الخارجية، فهل تُعتَبر القاعدة جهة خارجية أم أصيلة في المنطقة من منظور الجولاني وجبهته الجديدة؟ وهو ما لم يأتِ على ذكره كذلك.
  • إظهار الجولاني لوجهه ووجه قيادات إلى جانبه، ربّما تأتي في إطار محاولة إعطاء انطباع أنّ الجبهة الجديدة لا تمتلك ما تخفيه عن المجتمع المحلي في سوريا، أو عن المجتمع الدولي والقوى الخارجية، وأنّهم تجاوزوا مرحلة العمل السري، إلى مرحلة الكشف عن توجّهاتهم بشكل واضح. لكن ذلك لم يترافق بمفردات في الإعلان تعزّز هذا الانطباع لدى المتابعين.
  • لم يأتِ الإعلان مخالفاً بأية صيغة عن الخطابات والإعلانات السابقة لجبهة النصرة، وعليه فإنّ تغييراً حقيقياً لم يقم داخل الجبهة –باسميها- بل أتى استمراراً لذات النهج الخطابي والفكري السابق.

 

الظروف المحيطة بالإعلان/فكّ الارتباط بين النصرة والقاعدة:

رفضت جبهة النصرة طيلة الأشهر السابقة فكّ ارتباطها مع تنظيم القاعدة، وذهبت إلى تخوين كل من يطالب بذلك، واعتبرته كُفراً. وعليه فإنّ إعلان الجبهة المفاجئ هذا الانفكاك –إنّ صح اعتباره انفكاكاً- يأتي في إطار جملة متغيرات إقليمية ودولية، راعتها النصرة، وحاولت توظيفها والاستفادة منها، ومن أبرزها:

  • الاتفاق الأميركي-الروسي على استهداف القاعدة والنصرة.
  • تضييق الخناق بشكل كبير على تنظيم القاعدة وتنظيم داعش في العراق، وفقدان جزء كبير من الإسناد العسكري واللوجستي القادم منهما.
  • ربّما يأتي هذا الإعلان نتيجة مصالح إقليمية لقوى داعمة للنصرة، وهنا نذهب باتجاه تركيا، بمعنى أنّ تركيا دفعت إلى هذا الإعلان، في إطار ردود الفعل اللاحقة على محاولة الانقلاب الفاشلة، وبالتالي السعي إلى تصعيد ملفاتها الإقليمية بعد أن اكتشفت حجم الخذلان الذي شهده أردوغان من الحلفاء الغربيين، بغية تأكيد دوره وقوته الإقليمية وقدرته على التأثير في مجريات الأحداث.
  • كما قد يأتي الإعلان نتيجة تفاهمات بين القوى الإقليمية الداعمة للمسار الثوري السوري (السعودية وتركيا وقطر)، وإجبار النصرة على الاندراج فيه، حتى يمكن الدفع بتوجّهات جديدة في سورية من قبل تلك القوى، يمكن أن تلقى تأييداً دولياً.
  • ولا يمكن إسقاط المنهج الأميركي، في توظيف قوى تيار الإسلام السياسي المقاتل (الجهادي)، في عدة مناطق من العالم، كأفغانستان والصومال مثالاً، وتعزيز وجودها، بغية إحداث مزيد من الإرباك الداخلي، وعرقلة أي مشروع محلي، واستنزاف القوى المحلية، وإحداث صراعات بينية وداخلية، قبل الانقضاض على هذه القوى الجهادية. وخصوصاً أنّ الإعلان أتي في ذات الفترة التي تشهد فيها مناطق الشمال السوري تقدّماً كبيراً على قوات نظام الأسد، في حين تسعى منظمة الأمم المتحدة لعقد جولة رابعة من المفاوضات بين النظام والمعارضة، وهي بحاجة إلى أدوات ضغط على الطرفين لإجبارهم على الدخول في هذه المفاوضات، كما حصل في الجولات السابقة، رغم العلم المسبق بفشل نتائجها.

 

أبعاد الإعلان/فكّ الارتباط:

من المؤكّد أنّ جبهة النصرة/فتح الشام ستسعى في الفترة القريبة الآتية، إلى تغيير جزء من سلوكياتها مع المجتمع المحلي (المواطنين والفصائل الأخرى)، ومحاولة التقرّب منهم، سواء بتقديم دعم عسكري محدود لبعض الفصائل، أو توسيع مجالات نشاطاتها الإغاثية، أو تخفيف قيودها الدينية عن السكان. كما ستسعى النصرة/فتح الشام إلى محاولة التقرّب من القوى الإقليمية (السعودية وتركيا وقطر)، بشكل أكبر من ذي قبل، مع تقديم تأكيدات شفهية عن فكّ ارتباطها التنظيمي عن تنظيم القاعدة.

إلا أنّ طبيعة البنية التأسيسية (الفكرية والتنظيمية) للجبهة، ستُشكِّل عائقاً أمامها للاستمرار في نهج التقارب وتقديم التنازلات للأطراف الأخرى (فصائل وسكان)، عدا عن أنّ طبيعتها الدينية ستمنعها من قبول ممارسات تعتبرها في الأساس كفراً أو شركاً، ولن يطول الأمر قبل أن تعود للتصادم مع السكان والفصائل من جديد، وخصوصاً أنّ مسيرتها السابقة شهدت صدامات مسلّحة كان بعضها عنيفاً، وذهب ضحية سلوكياتها الكثير من المدنيين والمقاتلين، وأُسِر على يدها الكثير كذلك.

وسواء أكان الإعلان فكَّ ارتباطٍ تنظيمي حقيقي بالقاعدة، أم مناورة سياسية للحصول على مكاسب فقدت الجبهة كثيراً منها في الأسابيع الأخيرة، فإنّ الحديث عن جبهة جديدة مختلفة كلياً (فكرياً وتوجهاً) عن الجبهة السابقة، يبدو أقرب إلى المستحيل. فيما تبقى علاقاتها مع القوى الإقليمية والمجتمع الدولي رهناً بسلوكياتها اللاحقة، وليس سلوكياتها المباشرة، بمعنى أنّ هناك فترة اختبار قد تطول للتأكد من صحة توجهاتها الجديدة، قد لا تستطيع الجبهة انتظار نتائجها، والاستمرار في ادعاءاتها.

وعليه فإنّ أمام الجبهة عدة استحقاقات، تحدّد مستقبلها، ومن أهمها:

  • قد تضطر الجبهة نتيجة الانفتاح الداخلي والخارجي الجديد، إلى بداية مراجعة لنهجها وتفكيرها، ومنه سلوكياتها. وتظلّ هذه المراجعة حتمية بغض النظر عن طبيعة وحقيقة الإعلان.
  • كما قد تؤدّي هذه المراجعة، إلى إشكاليات داخلية، وانشقاقات من قبل عناصرها وقياداتها، ربّما باتجاه انضمام إلى فصائل ثورية أخرى، أو نكوصاً باتجاه تنظيم داعش.
  • كما قد تجد الجبهة مشقة كبيرة في إحداث تغيير في منهجها وتفكيرها وسلوكياتها، لتعود لذات النهج السابق لها، دون إعادة الارتباط بالقاعدة، وهو افتراض ذو احتمالية كبيرة.
  • ويبقى احتمال النكوص عن إعلانها في الفترة المقبلة، وإعادة الارتباط المباشر بالقاعدة، غير واردٍ في المدى المنظور، بل ستسعى الجبهة إلى تأكيد هذا الإعلان حالياً.

وبغض النظر عن كافّة المعطيات المتعلّقة بهذا الإعلان، أو بنتائجه المرتقبة، لا تظهر في الأفق، بعد، أيّة دلالات على إمكانية إيجاد حلول أو مخارج للمسألة السورية، سواء سياسياً أم عسكرياً، وربما سنشهد استمراراً في حالة الصراع المسلح، لأشهر أو سنوات أخرى. مع اختلاف في حدّة هذا الصراع، وفق المتغيرات اللاحقة في المنطقة وفي النظام الدولي.

 

عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

الهوامش:

(1) للاطلاع على توزع الجنسيات على جبهة النصرة، انظر: عزمي بشارة، سورية درب الآلام نحو الحرية .. محاولة في التاريخ الراهن (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2013)، الجدول رقم (9-1): أعداد المقاتلين في جبهة النصرة بحسب جنسياتهم (تقريباً)، ص 359.

(2)  Rania Abouzeid, “Interview with Official of Jabhat Al-Nusra, Syria’s Islamist Militia Group”, 25/12/2012, TIME:

Interview with Official of Jabhat al-Nusra, Syria’s Islamist Militia Group

(3) حمزة مصطفى المصطفى، جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام، سياسات عربية (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 5، تشرين الثاني/نوفمبر 2013، ص 67.

(4) شفيق شقير، الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية، في: مجموعة باحثين، تنظيم الدولة الإسلامية: النشأة، التأثير، المستقبل، ملفات (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، تشرين الثاني/نوفمبر 2014)، ص 27.

(5) معتز الخطيب، تنظيم الدولة الإسلامية: البنية الفكرية وتعقيدات الواقع، في: مجموعة باحثين، تنظيم الدولة الإسلامية: النشأة، التأثير، المستقبل، مرجع سابق، ص 10.

(6) حمزة مصطفى المصطفى، مرجع سابق، ص 73.

(7) المرجع السابق، ص 74.

(8) المرجع السابق، ص 74.

(9) أبو بصير الطرطوسي، شرط النصرة لفك ارتباطها بالقاعدة، موقع الشيخ أبو بصير الطرطوسي، 9/5/2015: http://altartosi.net/ar/?p=5885

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق