عهد ترامب: الشرق الأوسط ما بعد أوباما

بعدما انتصر التغيير على الاستمرارية وجاء ترامب مسلحا بأفكار غير تقليدية التي كانت صدمة للكثيرين في الولايات المتحدة وبقية العالم، ولا يزال ترامب يبادل الجميع الوعود العائمة حتى يأتي الوقت الذي يتسلم فيه السلطة في البيت الأبيض وبعدها سوف ترفع الأقنعة وقد تنزع القفازات أيضا، ومع ذلك كل الرؤساء الأمريكيين يأتون ويذهبون ولكن تبقى المصالح الأمريكية، ولدى مؤسسات صنع القرار قدرة في أن تضع الرئيس في القالب الذي لا يمكن أن يحيد عنه رغم الصلاحيات الكبيرة التي يمتلكها الرئيس ولكنها غير مطلقة، وستتجاوز المؤسسات الأمريكية كل التحليلات والتنبؤات التي تعتبر فوز ترامب انتقال من معسكر الليبرالية العالمية إلى معسكر القومية الشعبوية، وهو ما يمثل بانقلاب كامل على المعايير الأخلاقية التي نظمت علاقة الولايات المتحدة بحلفائها وخصوصا بحلفائها الغربيين.

هناك أزمة مبكرة بين بريطانيا الحليف التقليدي للولايات المتحدة بعد تصريح ترامب لصحيفة وول ستريت جورنال عن احتمال تفاهم إدارته الكامل مع روسيا حول سوريا وإمكانية تراجع واشنطن عن دعم المعارضة السورية المعتدلة، وهو ما يمثل انقلابا في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط أي تسليما بوقائع جديدة وإعادة رسم التحالفات، وستكون أمريكا في حرج مع القوى الإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية إذا سلمت أمريكا لروسيا منطقة نفوذها.

رغم ذلك بوتين لا يعول على طمأنة ترامب، بل يطلق العنان للتصعيد العسكري بعد اعتماد طرطوس قاعدة لأسطولهم ويجربون قاذفاتهم في إدلب وحمص، حيث تعتبر إدلب عمق استراتيجي للقواعد الروسية في الساحل ونقطة الإمداد لحلب وحماة، ويريد بوتين التفاوض وفق شروطه وأجندته لانتزاع موقع قوي في سوريا.

 في المقابل هناك لعبة المؤسسات في أمريكا التي فاجأت ترامب وأرادت تقييد تحركاته عندما صوت مجلس النواب بالأغلبية المطلقة قانون حماية المدنيين المعروف اختصارا ب ( سيزر ) الذي ينص على معاملة كل من يدعم النظام السوري بما في ذلك روسيا وإيران وحزب الله وبعض الجماعات المسلحة، وهو ما جعل السعودية تلتقط مثل هذه الإشارة وتقديم مندوبها في الأمم المتحدة المعلمي مشروع قرار أممي بوقف إطلاق النار في سوريا، من أجل أن يسهل التوصل إلى حل سياسي للنزاع ويحمي المدنيين.

 كما تجدد الاجتماع بين كيري ولافروف حول سوريا، لكن هناك توقعات متواضعة بوقف إطلاق النار، ولا زالت موسكو تكرر اتهامها لواشنطن بفشلها في فصل المعارضة المعتدلة عن الجماعات الإرهابية.

وحتى الحرس الثوري يطور قدرات حزب الله القتالية وفق مقتضيات حروبه بالمنطقة، تسبب في معضلة سيادية التي تحولت إلى مقاطعات إيرانية تخضع لولاية الفقيه بعدما ضخت نحو 25 ألف عنصر إيراني من مليشياتها في سوريا، وهو ضمن مخطط التمدد من إيران عبر العراق إلى الساحل السوري ثم إلى لبنان يلتقي بحزب الله من أجل أن يكونا شركاء في حكم سوريا بعد سيطرتهم على مقاطعات ومحاولة استنساخ تجربة حزب الله في سوريا وهو ما جعل النظام السوري يشعر في الوقت الضائع بأن إيران تنتهك سيادته لكنه لا يعترف بأنه سلم سوريا لإيران وروسيا.

رغم وجود عقبات طبوغرافية تقف أمام تنفيذ هذا المشروع، لكن إيران تربط هذا المشروع عبر وكلائها خصوصا بعدما صرح هادي العامري زعيم الحشد الشعبي في العراق بأن الحشد الشعبي سيدخل سوريا، ما جعل الولايات المتحدة تقدم على توقيف تاجر لبناني مقرب من حزب الله بتهمة تهريب هواتف جوالة، وبدأ الجمهوريون يتهمون أوباما بتقديم تنازلات لطهران بعد تمرير مجلس النواب الأميركي مشروع قانون بمنع صفقة بيع طائرات لإيران، وحاولت إيران احتواء مواقف الحزب الجمهوري بعدما تعرضت لانتقادات شديدة لتجاوز مخزون مواد حساسة تنتج البلوتونيوم، فقامت بنقل 11 طنا من الماء الثقيل إلى عمان لتبريد التوتر النووي، وهي في نفس الوقت تدغدغ أحلام موسكو بمليارات الدولارات للتسلح قبل التقارب الأميركي الروسي المتوقع في عهد ترامب.

 وفي نفس الوقت تقدم الولايات المتحدة أسلحة متطورة لقوات سوريا الديمقراطية تحضيرا لمعركة الرقة، بعدما انسحبت من منبج تلبية لمطالب تركيا تحت اشراف دولي لكن هناك مؤشرات لمواجهة ثلاثية بين النظام السوري والأكراد وجرع الفرات على مشارف مدينة الباب،، ويأتي تسليح المليشيات الكردية في خانة الضغط على تركيا لوقف تركيا اقتناء منظومة إس 400 من روسيا مثلما وقف الناتو في اقتناء تركيا سابقا منظومة صينية معللا ذلك إلى أسباب أمنية.

وستستمر سوريا كما في عهد أوباما عقدة أميركا، حيث لا يمكن اختصار الوضع في سوريا بهزيمة داعش دون اعتماد معادلة شاملة للحل السياسي في سوريا والتي بحاجة إلى تحديد مستقبل منظومة الأسد ورسم خارطة للتوازنات الإقليمية ومقاربة إقليمية شاملة.

وحذرت فرنسا  ترامب من المغامرة الانعزالية، بل إن دول أوربا الثلاث العملاقة ألمانيا وإنجلترا وفرنسا تستعد إلى مرحلة يسودها عدم التوازن في العلاقة مع واشنطن تحت إدارة ترامب الذي يخطط إلى التراجع عن المسلمات التي حكمت العلاقة بين ضفتي الأطلسي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بعدما لوح ترامب بالتخلي عن الناتو الذي يعتبر بمثابة تراجع واشنطن بحماية حلفائها التاريخيين من التهديدات الروسية الدائمة على حدودها خصوصا بعدما صرح ترامب بمراجعة نصيب الولايات المتحدة في الناتو البالغة 22 في المائة واعتبرها تكلفة عالية اعتبرته هذه الدول أن نوايا ترامب تقليص دور واشنطن في الناتو.

 مما يجعل القارة الأوربية في مواجهة خطرين الأول استراتيجي يتمثل في إطلاق يد روسيا، والثاني تدفق اللاجئين من مناطق النزاع في الشرق الأوسط، ما يعني أن ترامب سيتغاضى عن تسليم أوكرانيا وسوريا لروسيا، وهو ما يعزز دور اليمين المتطرف، ويساهم في تفكيك دول الاتحاد الأوربي التي بدأت ببريطانيا.

 حيث أوربا محاطة بجوار جغرافي مشتعل تسوده الحروب الدينية والعرقية مما يهدد مصالح الدول الأوربية في الشرق الأوسط التي رسمتها وفق اتفاقية سايكس بيكو تعتبره الخيار الأفضل في ذلك الوقت وفق الواقعية السياسية خصوصا بعد تصريحات شخصيات في إدارة ترامب المحتملة التي تدعو إلى إعادة رسم خرائط المنطقة وفقا لشروط اللاعبين الجدد على الساحة الدولية دون الأخذ بعين الاعتبار الحسابات الإقليمية.

 وهي تصريحات أتت من الجنرال المتقاعد مايكل فلين المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي الأميركي الذي يؤمن بالتعاون مع بوتين ولديه تصريحات معادية للمسلمين وضد الإخفاقات العسكرية في أفغانستان، ويؤمن الجنرال فلين بأن التشدد والتطرف الإسلامي يشكلان تهديدا وجوديا في الولايات المتحدة، وله تأثير قوي على ترامب الذي حاول إقناع ترامب بأنه يخوض حرب عالمية مع المتشددين الإسلاميين ويجب العمل مع أي حليف على استعداد للمشاركة في المعركة بما في ذلك الرئيس الروسي بوتين وهو ما أقلق الأوربيين، يعتبره البعض ديك شيني في عهد بوش الابن، تحولت تلك المواقف إلى زلزال يضرب حلف الأطلسي.

 فيما توجه الصين أنظارها إلى أميركا اللاتينية ومنطقة المحيط الهادي حيث يجري الرئيس الصيني شي جين زيارة مرتقبة لدول فناء الولايات المتحدة الخلفي، وفي المقابل تعزز روسيا دفاعاتها وراء القوقاز وتنشر منظومة إسكندر الصاروخية في أرمينيا بعد سوريا

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق