عالم بلا إيران

يمكن لكل مراقب للساحة السياسية الإقليمية والدولية، أن يلحظ حجم اللٌهاث الذي ترتكبه آلة الدعاية الإيرانية، مستغلّة كافة الوسائل والأساليب المتاحة، من علاقات وتحالفات؛ لتلافي حجم الضرر الذي لحق ويلحق بصورتها التي أصبحت بائسة ومتضررة في عيون جيرانها والعالم الحر.

فالمسلكية الإيرانية اليوم، تمثل خطراً محدقاً بمستقبل السلم والأمن، ليس في الشرق الأوسط فحسب، وإنّما في العالم بأسره. فإصرار إيران على تبني سلوك “رسالي” تجاه الأغلبية المسلمة (أهل السنة)، عبر محاولات فرض التشيع، وتسييس الأقليات الشيعية في أوطانها الأصلية، من شأنه أن يهدر الأمن الروحي والاجتماعي لمجتمعات ودول الشرق الأوسط، وتعريض سلمها الأهلي لمخاطر مفتوحة، وستفشل كل الدول ذات المسؤولية الدولية في تطويقه مستقبلاً، إذا لم تشعر بحجم هذا التهديد. فضلاً عن الرسالية التدميرية، في تدخلها السياسي والأمني في دول بعينها، لفرض خياراتها وحلفائها فاعلين رئيسين فيها، ضاربة بكل المبادئ المؤسِّسَة للشرعة الدولية، بعرض حاط البحث عن “نفوذ موهوم”، خاصة مبادئ:

  • عدم التدخل في السياسة الداخلية للدول واحترام سيادتها.
  • واحترام خيارات الشعوب الأخرى.
  • وعدم تعريض السلم والأمن الدوليين للمخاطر.

بل إن مسلكية “الإيذاء” الخارجي لا تتوقف عند هتك هذه الشرعة بشكل نظري فحسب، بل تتعداها إلى التهديد المباشر، من خلال تكوين ورعاية وتسليح وتدريب الميليشيا المسلحة داخل الدول الأخرى، موَفِّرة الدعم المالي واللوجستي والإعلامي، بل والمساندة السياسية والروحية لهذه الجسوم الغريبة، والتابعة في قرارها لسلطة المرشد، كما في لبنان وسورية والعراق واليمن، وكما هي محاولاتها التي لا تكفّ عن بناء وتصدير ذات التنظيمات إلى الخليج العربي والدول الإفريقية، التي تنتهز إيران –كما إسرائيل تماماً– فاقتها للمعونة الاقتصادية وهشاشة وضعها السياسي والأمني.

يُضاف إلى ذلك، عامل آخر تسبّب في تشويه بليغ لصورة إيران، التي تنفق الكثير على بناء ذاتها قوة إقليمية “مفيدة” للغرب، يتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه “الإفاقة أو الصفعة” العربية للسياسة الإيرانية، والتي ترجمها إجهاض المخطط الإيراني في البحرين وفي اليمن، وإعلان مواجهة السياسة الإيرانية على امتداد الخارطة العربية، بل ورفع ذلك إلى مستوى “الاستراتيجية” من خلال بناء حلف عربي-إسلامي عسكري، يُراد له مع الوقت أن يتحول إلى درع حامٍ للمنطقة، مما يحاك لها في طهران. وهو سلوك عربي يعكس مدى شعور الدول العربية مجتمعة بالتهديد الإيراني، وبوحدة مصالحها وارتباط أمنها القومي، فضلاً عن اليقظة الخاصة والتنبّه للأساليب الماكرة لهذه الدولة، وذلك من خلال تفويت الفرصة عليها وفرض معايير وشروط لمشاركتها في الحج، والتي كانت تستغلها لإشعال أوار فتنة دينية، في أقدس المقدسات الإسلامية، مما يعني ضمنياً زرع الفوضى في العالم الإسلامي كله.

لقد كان المقال الأخير للسيد محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران، في مجلة “نيويورك تايمز”: “لنتخلص من الوهابية”، مثالاً حياً على العمل الدعائي الذي تبذله الدولة الفارسية، لترميم صورتها لدى الرأي العام الغربي وقادة القرار فيه. وإن جاء المقال في صيغة مبتذلة، لا يمكن أن يخفى تهافته على مراكز صنع القرار ومراكز فهم سياسة الشرق الأوسط، فقد حاول ظريف استعمال تقليد بائس في مغازلة مشاعر الغرب، من خلال الربط بين اليهودية والمسيحية بالشيعة، في تعرّضهم لما سمّاه التهديد الوهابي –كما يزعم-، كما حاول أن يغطي على المسؤولية الإيرانية في الأحداث الدموية في المنطقة، وتجييش الخطاب والمشاعر الدينية للوصول إلى “الفتنة المذهبية والطائفية”.

لقد كانت أهداف المقال القريبة والبعيدة واضحة جداً، ولم تفلح دبلوماسية ظريف المفترضة في التمويه، أو التغطية على تلك الأهداف الأنانية وغير المشروعة، فهو يحاول أولاً استعداء الغرب ضد العربية السعودية، وتقديم بلاده حليفاً للغرب في حربه المزعومة ضد الإرهاب، فضلاً عن الهدف الأعمق القديم المتجدد لدى السياسية الإيرانية، وهو أن تظل الشعوب العربية والخريطة العربية موضوعاً للصراع الإقليمي والأممي، مما يعطى فرصاً أكثر وذات دلالة للنفوذ الإيراني في المنطقة.

ولكن السؤال الجدي الذي يجب علينا كعرب طرحه، هو إلى أي حد يمكن لهذه الدعاية الدبلوماسية الفجة، أن تجد لها آذاناً صاغية للتأثير في الغرب؟  وما هي فرص استدامة التحالف بين إيران والولايات المتحدة في الوقت الحاضر؟ وكيف يمكننا أن نحُول بين هذا التحالف وإفشاله؟ أو على الأقل تطويق آثاره، حتى لا تمس ما بقي من الوجود والسيادة لهذه الدول؟

علينا أن نقر بأن إيران تتكئ على تاريخ قريب من المناورة، أرسى تفاهمات للتعاون بينها والغرب على حساب العرب والمسلمين، خاصة في تعاونها مع الأمريكيين في احتلالهم لأفغانستان والعراق. لقد كانت النتيجة المدمية، أن الغرب يرى إيران القوة الوحيدة -رغم الخلاف المعلن معها- التي يمكنه التنسيق معها، وأن الدول العربية تعيش فواتاً تاريخياً وانسحاباً استراتيجياً، حتى من القضايا التي تعنيها بالدرجة الأولى. هذه الأحداث تركت أثراً في نخبة القرار الغربي لصالح إيران، تعمّق فترة الرئيس باراك أوباما، الذي ساعدت سياسة “تفهمه” لإيران، في تعظيم مصالحها. بل إنّ بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية اليوم، تقدِّم إيران حليفاً استراتيجياً للغرب في الشرق الأوسط، ويأتي مقال “ظريف” لتخفيف وتحسين صورة إيران؛ حتى يسهل الانتقال لمرحلة إقناع الرأي العام الأمريكي بهذه النتيجة غير الطبيعية بالنسبة له: “إيران حليفاً”.

وبالرغم من وجاهة ما تقدّم، إلا أن هناك عوامل موضوعية يمكن تغليبها، وعلى الخطاب العربي تبصرة العالم بها، وسَتَفُتّ في عضد أي تلاقٍ أو تحالف بين الولايات المتحدة ونظام الملالي:

  • الأول: أي تحالف مع إيران على حساب العالم العربي والإسلام السني، لن يكون ذا مردود عقلاني؛ لأنه رهان على أقلية مقابل أكثرية تاريخية، ولا يمكن أن يحفظ المصالح على المدى البعيد.
  • الثاني: إيران ليست بمأمن من عدم الاستقرار الذي ترمي به الدول العربية، فطبيعة الداخل الإيراني معقدة وتحتوي على الكثير من التباينات وعوامل الفرقة وبذور حروب الانفصال، خاصة بالانتباه للشعوب والقوميات غير الفارسية، التي تعدّ بمجموعها معاً أغلبية بالمقارنة مع العرق الفارسي المستحوِذ على مقدرات الدولة.
  • الثالث: لا يمكن أن نتصور عملياً ومنطقياً، أن إيران ستبقى واحة أمان، في قلب منطقة تمور بالنزاعات والحروب الأهلية والدينية، وأن تنجو من حريقٍ المسؤوليةُ الأكبر فيه تعود إليها.
  • الرابع: أن الصورة المزيفة والمناورة التي تحاول إيران تقديمها لذاتها غير صحيحة، فلا يوجد مكان أكثر احتقاراً لقيم الحداثة والديموقراطية يضاهي إيران –باستثناء كوريا الشمالية-؛ لانعدام الرأي الآخر المقابل والمخالف، تحت فلسفة الانصياع “للمرجع الأعلى” في الدين والدنيا.

كل هذه العوامل، تجعل مستقبل أي تحالف استراتيجي بين الغرب وإيران في مهب الريح، وسيأثر بالضرورة في المصالح الغربية، في العالمين العربي والإسلامي. وهي عوامل حريٌّ بها أن تزجر صانع القرار في الغرب عمّا تريده إيران، إلا إذا كان يحاول استخدام هذا النهم والاندفاع الإيراني تكتيكياً.

في الخلاصة، لا شك أن الأمنيات بزوال عوامل وأسباب التوتر في منطقتنا والعالم لا حصر لها، وعلى رأسها تمني، بل والعمل المشترك، على بناء عالم بلا مشاكل منبعها إيران.

سعد بن عبد الله بن بيه

كاتب وباحث موريتاني

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق