شرعنة التفرعن في الدستور الإيراني

(معالجة نقدية لتسليط الأضواء على التشريعات الدستورية لمشروع نظام ولاية الفقيه التوسعي في العالم)

منذ إنشاء دولة إيران القومية فی القرن ال19 علی ید الشاه الأب “رضا خان”، وهي تسعی لدیمومة حیاتها السیاسیة عبر تصىدير أزماتها لمحيطها، وتوسيع نفوذها على مختلف الصعد.

واستمراراً لهذا النهج، حاول الشاه الابن إحیاء امبراطوریته داخلياً عبر تحدیث المجتمعات والدولة الإیرانیة ومواكبة النهضة الغربیة من خلال تنفیذ “الثورة البیضاء” عام 1963م، إلا أنه صُدم باستفحال التداخل الماهوي العميق بین المذهب وبین المجتمعات والدولة، لذلك سعی لترحيل المؤسسة المذهبیة للخارج، لیس لتهميشها فحسب، بل لزرع مكونات اجتماعیة–سیاسیة تعیش في مكامن المجتمعات العربية والإسلامية وصمّام أمانٍ لضمان أمنه القومي وشرطنته في المنطقة.

دعمُ الشاه للمرجعية المذهبية الشيعية الإيرانية في المجتمعات العربية، وإسهامه في إنشاء المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، والذي وُلِدت من رحمه لاحقاً حركات سياسية مذهبية كحركة أمل وحزب الله، ما هي إلا عيّنات يسيرة من نهج الدولة الإيرانية الرامية للنفوذ في المجتمعات العربية والإسلامية آنذاك. ناهيك عن أكثر من  120 تجاوز عسكري شنّه الشاه على الحدود العراقية وفق ما جاء في مذكرات إحدى زوجات الشاه.

بعد ثورة 1979م وهيمنة رجال المذهب عليها، تضاعفت الجهود لرفد جيوبها بتبنيها فكرياً وسياسياً وعسكرياً لتشكيل حلقة متكاملة لاستكمال مشروع الامبراطورية بلبوس مذهبي، وتضليل الشعوب تحت يافطة مقارعة الاستكبار العالمي والصهيونية والاستبداد وتحرير فلسطين وما شابه ذلك. إذ تبنّى النظام اختزال شرعية السلطة بوليّ الفقيه كمبدأ لخطابه السياسي. ووظّف ما بوسعه لتحقيق غاياته، فتفنّن في خلق تناقضاتٍ وهمية لتسويف الجماهير داخلياً وتعليق الآمال على الإصلاح، واستثمارها كوقود لدبلوماسية مُضلّلة، حمته من تحديات جسام، مستغلاً غياب الوعي والمشروع العربي والإسلامي، ليُعمّق مخالبه في أعماق المجتمعات والأنظمة وفي مقدمتها دول المنطقة.

هذا المشروع الذي اصطدم تنفيذه بصمود العراق حتى عام 2003، شهد قفزات كبيرة بعد اختلال موازين القوى نتيجة غزوه وتدمير مؤسساته، وتصاعدت وتيرته إبّان ما سُمّي بالربيع العربي وانتعاش ظاهرة الإرهاب، مما فتح شهية النظام لتوظيف كل مكوناته للتسريع بتنفيذه، ومن بينها تأجيج العواطف المذهبية وتفعيل آلته الإعلامية والدبلوماسية؛ لمزيد من التضليل وبيع الوهم والتعويل على تغيير نهجه وإصلاحه.

ونتيجة لهذا الواقع يتبلور هذا السؤال، والذي كُتبِت هذه السطور من أجله، وهو هل إن مشروع النظام الإيراني تكتيك يهدف لتحقيق منافع مشروعة يتعقّبها في محيطه؟ أم أنها استراتيجية عميقة تتداخل جوهريا مع ماهيته، يضمن بقاءه بها ويفنى دونها؟

وبما أن إحصاء آليات المشروع الإيراني يحتاج إلى عشرات البحوث، يتعسر القيام بها، إلا أن تعقّب الجواب في دستوره يغنينا عن ذلك بالبرهنة على استحالة الفصل بين النظام ومشروعه التوسعي من خلال الاستناد إلى ما جاء في المقدمة وفي مواده. سيما ما إن اعتبرنا أن مقدمة كل موضوع تعتبر جزءاً منه تُلخِّص لنا أطره وسيروته، وتُسعفنا في فهم الدوافع والغايات وتفسير مفاهيمه ومضامينه.

الأول: مقدمة الدستور الإيراني:

في بداية المقدمة، يُعرَّف الدستور على أنه: “ يعكس رغبة قلوب أبناء الأمة الإسلامية“، ما يعني تعميمه للعالم الإسلامي. وفي سياق سرد مناهضة العهد البهلوي، يشير إلى أحداث الستينات، لينصّ: “إن خميني هو القائد العام للأمة الإسلامية”.

أما فيما يتعلق بمنهجية الحكومة الإسلامية، تنص المقدمة، على ما يلي: “إن تشريع الدستور يهدف لانتصار جميع  المستضعفين على المستكبرين في العالم، عبر استمرار الثورة في إيران وخارجها، ويحصر  تشريع علاقاته الدولية مع  الحركات التحررية الإسلامية والشعبية، بغية تحقيق الأمة الواحدة واستمرار  النضال لإنقاذ جميع الشعوب المضطهدة في العالم”.

مما يؤكد:

أ- توسع استمرارية النهج الثوري للنظام داخلياً، والذي شهد انقلابات عّدة على مفاهيمه ونخبه خلال العقود الأربعة الماضية وأسّس لمصطلح سُمّي بـ “ضرورة التقيء الثوري” على حد تعبيرهم لقمع كل من لا يؤمن بسلطة ولاية الفقيه المطلقة دون استثناء.

ب- مفهوم المستضعفين: قد يظن البعض أن المقصود من الاستضعاف هو الاستضعاف السياسي أو الاجتماعي فحسب، بينما للاستضعاف في الفقه الشيعي الاثني عشري والذي يعتبر الركيزة الأساسية للتشريع الإيراني مفهوماً يغلّب الجانب الفكري والعقائدي على غيره. من هنا، يمنع كثير من فقهائهم الصلاة على الميت من غير الشيعة، والذين يصفونهم بالمخالفين، إلا أنهم يجيزونها على المستضعفين منهم، ويعرفونهم بأنهم “الفئة من المسلمين وغيرهم ممن لم يحالفهم الحظ لاعتناق المذهب الاثني عشري وحُرِموا منه فكريا وعقديا”.

ج- إلغاء مفهوم السيادة للدول، وحصر شرعية أطراف العلاقات الدولية في نفسه كنظام عالمي وفي، ما يصفها بحركات تحررية شعبية عالمية، ما يعني أنه لا يقرّ مشروعية لأي دولة دستوريا، وإن اضطر للتعامل معها سياسياً.

د- الغاية من مشروعه تشكيل أمة عالمية تخضَع لنظام عالمي واحد اسمه نظام ولاية الفقية.

كما تنص المقدمة بأن: “مهام الجيش والحرس الثوري لا تتلخصّ في دفاعها عن الحدود، بل إنها تنبعث من عقيدته بالجهاد في سبيل الله، والكفاح من أجل بسط الشريعة في العالم”. ما يعني تكليفاً دستورياً للقوات المسلحة بالتدخل العسكري في جميع أنحاء العالم تحت ذريعة حماية المستضعفين!

ثانيا: المواد الدستورية:

أ- السياسة الخارجية: تنص الفقرة 16 من المادة الثالثة على ما يلي: “تلتزم جمهورية إيران الإسلامية بتحقيق أهدافها المدرجة في المادة الثانية من الدستور”، ومن بينها “تنظیم السیاسة الخارجیة  للدولة وفق المعاییر الاسلامیة، والالتزام الأخوي تجاه عموم المسلمین، والدعم المطلق لجمیع مستضعفي العالم وذلك من خلال توفير كل ما يلزم من عدة وعدة”.

كما أن المادة 11 تصف المسلمين بأنهم “أمة واحدة، والدولة الإيرانية ملزمة برسم سياساتها العامة بشكل يحقق ائتلاف واتحاد الشعوب الإسلامية، وبذل ما بوسعها لتحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم الإسلامي”. مما يلغي مشروعية الدول والأنظمة الإسلامية كافة، ويجعل من دولة إيران والشعوب الإسلامية طرفين لتحقيق الوحدة عبر توسيع دائرة الوحدة من الوحدة العقدية إلى الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية مع الشعوب بمعزل عن دولها الرسمية.

أما المادة 154 فتتناقض مع مفادها حينما تشير إلى أن “الجمهورية الإسلامية تعتبر سعادة الإنسان في كل المجتمعات البشرية هدفاً مثالياً لها، وتؤمن بأن الحرية وحكومة الحق والعدل حق لجميع الناس في العالم، وإذ تمتنع من التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب، توكد دعمها المطلق للمستضعفين في كفاحهم المشروع ضد المستكبرين في أي نقطة من العالم”. ومن الملاحظ  أنها لا تعترف بمنظومة أي دولة لتلك الشعوب سوى دولة ولاية الفقيه، بل ترى أن سعادتها مرهونة بتحقيق سلطة الحق والعدل، والتي يتم تحقيقها عبر دعم الشعوب في أرجاء العالم، وقيام سلطة ولاية الفقيه العالمية.

كما أن المادة 152 تتضمن تناقضاً مفضوحاً أيضاً، فمن جانب تحتفظ لنفسها بعدم السماح لأي دولة بالتدخل في شؤونها، وتؤكد ضرورة “تبني علاقات سليمة مع الدول غير المحاربة على أساس نفي أي تسلط وتسليط، وعدم المساس بسيادتها والاستقلال التام”. ومن جانب آخر، وفي سياق نص التشريع، تمنح نفسها الحق المطلق بما تصفه “بالدفاع عن حقوق جميع المسلمين وعدم الخنوع للقوى المتسلطة ومقارعتها” بكافة الأشكال السياسية والعسكرية.

ب- قيادة الاُمّة: تختزل المادة 15 السلطة السياسية في: “عهد غياب الإمام المهدي بالولي الفقيه، والذي  تصفه بولي الأمر وإمام الاُمّة”، وبما أن مصطلح   الأمُّة في الدستور يستخدم تارةً للاُمّة الاسلامية وأخرى للاُّمة العالمية، وأنه جاء في سياق ولاية الأمر وأن الغاية من الدستور هي قيام الحكومة العالمية، فمن المرجح أن القصد منها الأمة العالمية، سيما وأن الإمامة في الفكر السياسي الشيعي هي زعامة تكليفية تكوينية لا تخص المسلمين فحسب، بل إنها عامة لا خيار لأي إنسان في رفضها.

كما أن المادة 5 من الدستور تؤكد أن “في عصر غیبة الإمام ولی العصر (المهدي)، ولایة الأمر وإمامة الأمة في الجمهوریة الإسلامیة تكون علی عاتق الفقیه العادل والتقي والعارف بمتغيرات عصره، الشجاع المدیر، والمدبر، والذي يتحمل هذه المسؤولية وفق المادة 107، ينبغي أن تتوفر فيه شروط القيادة، وهي: أهلية الإفتاء في جميع أبواب الفقه، وتوفر العدالة والتقوى اللازمة لتولي قيادة الأمة الإسلامية، الأمر الذي يعكس حقيقة نوايا وسلوك القيادة الإيرانية في تنصيب نفسها تكوينياً وتشريعياً على العالم برمته.

النتيجة: إذا ما أخذنا العبث والتدخلات الإيرانية في المنطقة والعالم، بنظر الاعتبار، وتعقبنا تصريحات وسلوك مسؤولي هذا النظام طيلة العقود الماضية، وقرأناها ضمن دستوره وخطابه الأيدلوجي الطائفي، ولاحظنا مفاد المادة 177 من الدستور، والتي تصرح بأنه “لا يجوز إجراء أي تعديلات في الدستور فيما يتعلق بإسلامية النظام ومحورية معاييره الإسلامية، والأسس الإيمانية في تشريعاته وأهداف الجمهورية الإسلامية وجمهورية الحكومة الإسلامية، وأيضا ولاية الأمر وإمامة الأمة واعتماد كل من آلية الانتخابات والمذهب الرسمي في إدارة البلاد. فجميع هذه الأمور غير قابلة للتغيير والتعديل”. ليتجلى لنا بوضوح، أن استمرار مشروعها التوسعي منبعث من طبيعة نظامها، ومتداخل معه تداخلاً جوهرياً لا يمكن سلخه عن ذات النظام، وإيقافه أو القضاء عليه، إلا عبر تغيير ماهية النظام وجوهره.

د. جعفر  الهاشمي

محام عربي وباحث  في  الشأن  العربي والإيراني

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق