زمن الفوضى.. والكوارث الطائفية

سوف يسجل المؤرخون مستقبلا أن المنطقة العربية مرت في هذه الأيام بواحدة من أسوأ المراحل التاريخية، بما عرفته من تداعيات لم تكن في الحسبان، أما الخلفية العامة لذلك فتوضح أنها ناجمة عن التأثيرات الخطيرة لفوضى «الربيع العربي»، وما رافقها من استقطابات دولية وإقليمية لا تلقي بالاً لأمن المجتمعات وسلمها الأهلي.

وبينما يتصدر كل من الدور الإيراني والتركي مساحة كبيرة من العبث الجاري، فإن العنوان الأبرز لذلك يتمثل في إسقاط فكرة الدولة الوطنية في بعض البلدان من المخيلة الجمعية، سعياً وراء السراب الذي جاءت به وتصدرته تيارات الإسلام السياسي وجماعات العنف، والتي ترى أنها المنقذ، بينما يقوم برنامجها على القطيعة مع مؤسسات الدولة الحديثة، ورفض التنوع والتعدد، بأوهام تستند إلى أيديولوجيات طائفية وشعارات تبرر تقسيم شعوب المنطقة على أسس مذهبية ودينية وعرقية.

المحنة العراقية القاسية كانت أسبق من غيرها، ولم يكن أحد يتخيل أن تشظيات المشهد العراقي وبزوغ الطائفية، كانت بروفة قابلة للتطبيق في مناطق أخرى، وبات معلوماً أن انسحاب الولايات المتحدة من العراق فتح الباب لحضور إيران وهيمنتها على الساحة العراقية، بالتزامن مع غياب عربي ترك العراق فريسة سهلة للتدخل الإيراني بغية التسويق لميليشيات عقائدية متطرفة يجري إحلالها بصمت محل الجيش النظامي. وتتداول الأخبار منذ فترة قيام تلك الميليشيات بأعمال انتقامية تكرس المزيد من الانقسام المذهبي، وتؤدي لتحفيز التطرف واستدعاء الجماعات الجهادية وتوفير حاضنة اجتماعية لها.

ولفت العديد من السياسيين العراقيين الانتباه إلى خطر توظيف الميليشيات الطائفية، وجاء أحدث تصريح بهذا الشأن على لسان رئيس جهاز الاستخبارات في كردستان، الذي عبر عن مخاوفه تجاه الدور الذي تلعبه الميليشيات الشيعية مدعومة من إيران في معركة استعادة السيطرة على مدينة تكريت من تنظيم «داعش». التصريح يذكر يكشف أن استعانة الحكومة العراقية بتلك الميليشيات قد تؤدي لمشكلة أكبر من تنظيم «داعش»، عبر زيادة التوتر والاحتقان بين مكونات الشعب العراقي. وينتقد رئيس استخبارات كردستان حكومة بغداد لاستخدامها ميليشيا «الحشد الشعبي»، والتي يقول عنها: إنها غطت إلى حد بعيد على دور الجيش العراقي في معركة تكريت، وبخاصة أن تعداد هذه الميليشيا يبلغ نحو 200 ألف مقابل 3 آلاف جندي عراقي!

والحال ذاته يكاد ينطبق على اليمن، بعد تغول الحوثيين، الذي أنتج اصطفافات طائفية موازية في الوسط المعارض لهم، وبالتالي عثور تنظيم «القاعدة» على بيئة ملائمة له بمبرر مواجهة المد الشيعي، إذ لم يعد خافياً أن «القاعدة» توسع نفوذها تحت هذا المبرر.

وفي المحصلة تنتشي طهران بالاختراق الذي حققته في لبنان وسوريا عبر «حزب الله»، وفي العراق عبر ميليشيات وفيالق الانتقام والبطش، وفي اليمن عبر الحوثيين.. لتواصل السياسة الخارجية الإيرانية اعتياشها على إثارة الانقسامات الطائفية في دول المنطقة.

وبدورها أسهمت المحنة السورية في استدعاء كافة أشكال العنف والإرهاب، بدليل تمدد تنظيم «داعش» في كل من العراق وسوريا، ونشوء بؤر إرهابية تجذب العناصر الإجرامية من كل مكان، بينما أسهمت تركيا -عبر فتح مطاراتها وحدودها للجهاديين الذاهبين إلى سوريا- في تعقيد الصراع، ورفد المجموعات الإرهابية بعناصر إضافية.

الحدث الأبرز الذي يعد نتيجة لكل هذه الفوضى يتمثل في انتشار المنهج الطائفي والبطش والتنكيل بالأقليات التي لطالما كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي في العراق وسوريا وغيرهما، حيث تجلت وحشية الجماعات الإرهابية في أعمال القتل والتهجير والسبي والخطف.. قبل أن تنتقل إلى تصفية الآثار التاريخية وتدميرها لإفراغها من نفائس لا تقدر بثمن.

وأخيراً سيكون على الشعوب الاعتبار من هذه الفوضى، وتحصين المستقبل والأجيال القادمة، عبر العمل على ترسيخ الاستقرار والبناء والإسهام في رقي الإنسان وتوفير الأمان والحياة الكريمة له في وطنه.

نقلا عن مركز المزماة

بقلم: د.سالم حميد

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق