روسيا: قوة في مأزق

القوة الإمبراطورية المنفلتة من عقالها ليست سوى تعبير عن مأزق تعيشه روسيا ولا تستطيع الخروج منه.

منذ أن أعلن بطرس الأكبر قيام الإمبراطورية الروسية عام 1721 وحتى هذه اللحظة من التاريخ لم يغب العقل الإمبراطوري عن أي حاكم أو فئة حاكمة لهذا البلد الكبير، سواء عبرت هذه الإمبراطورية عن نفسها بالتوسع والاحتلال المباشر، كما حدث في بلاد البلطيق وآسيا الوسطى، أو بالنزعة نحو الهيمنة والنفوذ. بل إن روسيا كبرى جمهوريات الإتحاد السوفييتي، الذي كان، هي التي طبعت الدولة السوفييتية بطابعها، وهيمنت على باقي الجمهوريات، وأذكر أني سألت صديقي الكازاخي من مدينة ألماتا عام 1978 حين كنت أحضر الدكتوراه آنذاك في سان بطرس بورغ: ماذا كانت حالكم قبل انضمامكم إلى الإتحاد السوفييتي؟ فأجاب: كنّا كما نحن الآن مستعمرين لروسيا.
بعد انفراط عقد الدولة السوفييتية ورثت روسيا قوة الاتحاد السوفييتي العسكرية وضعفه الاقتصادي، واحتفظت بعقلها الإمبراطوري العاجز عن التعبير عن نفسه بسبب الضعف العام لروسيا الجديدة.

منذ أن اعتلى فلاديمير بوتين عرش روسيا عام 2000 رئيساً لها، مرورا بتسلمه منصب رئيس الوزراء، ثم عودته رئيسا وهو يعمل على استعادة قوة روسيا الإمبراطورية ولكن عبر القوة العسكرية وحدها.

فقد وفرت له أسعار النفط المرتفعة وأسعار الغاز ريْعاً يساعده على تطوير مؤسسته العسكرية، وتحسين ملحوظ في مستوى خط الفقر، إذ أن التقارير الروسية، نفسها، تشير إلى أن ستين بالمئة من الروس في خط الفقر، وأن الراتب التقاعدي في روسيا هو في حدود 200 دولار، في حين أن متوسط راتب الفرد من الطبقة الوسطى لا يتجاوز 500 دولار وهؤلاء لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من السكان.

بوتين، رغم محاولاته الإصلاحية، لم يستطع أن ينقل روسيا إلى دولة قوية اقتصادياً وثقافياً، فليس لديها القدرة على أن تكون مواكبة لروح العصر، ولا هي قادرة على أن تكون دولة إغراء عالمي، ولا هي بالمجتمع الذي يخلق معايير حضارية.

كل ما تملكه روسيا اليوم هو قوة عسكرية وعقل إمبراطوري. توجه العقل الإمبراطوري إلى إخضاع بعض شعوب روسيا الراغبة في الاستقلال، فقد دمر بوتين مدينة غروزني وقتل مئة ألف شيشاني، وأعلن حرباً على جورجيا بحجة حماية أوستيا وأبخازيا، واحتل شبه جزيرة القرم، ودعم انفصاليي أوكرانيا، وأخير أرسل قواته إلى سوريا دفاعاً عن النظام الحاكم وفي حرب مفتوحة على المعارضة.

هذه القوة الإمبراطورية المنفلتة من عقالها ليست سوى تعبير عن مأزق تعيشه روسيا ولا تستطيع الخروج منه، ولهذا فإن أسهل طريقة لتمتين وضعها الداخلي، ولو مؤقتاً، لا تكون إلا بنقل مأزقها الاقتصادي الذي ازداد بعد هبوط أسعار النفط إلى حروب خارجية، متجهة إلى نمط من الصدام مع الغرب وأميركا لا يقود طبعاً إلى مواجهة مسلحة.

التقط بوتين لحظة مناسبة من تاريخ السياسة الأميركية التي تقوم على عدم انخراط واشنطن في صراعات عالمية كما هو حال الإدارة السابقة، ظانا أنه قادر على تحقيق مكاسب في هذه اللحظة من السبات الأميركي الذي ينعكس سلباً على فاعلية أوروبا، لكنه نسي أن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط لديها من الأوراق ما يجعل بوتين غارقاً في مستنقع يصعب الخروج منه دون خسائر، ناهيك أن شرق المتوسط ليس بالمكان الذي يسمح لحماقة القوة الإمبراطورية المتخلفةً أن تلعب فيه وبه، كما تشاء وكيف تشاء ومتى تشاء. فضلا عن أن المقاومة الشعبية ليست من الضعف الذي تترك فيه بوتين يتصرف وكأنه في نزهة سياسية، ولن تنفعه مباركة أحد على المستوى الطويل. وإذا كانت للتاريخ مزحاته المزعجة فإن له عقلا صارما أيضاً.

نقلاً عن العرب اللندنية

د. أحمد برقاوي

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق