دور النظام الفدرالي في تعزيز المواطنة: الإمارات نموذجاً

مقدمة:

يعتبر الارتقاء بمفهوم المواطنة، إحدى الآليات المهمة في تعزيز الهوية الوطنية وحمايتها، وترسيخ الوحدة الوطنية داخل الدولة. إذ يقع على النظام السياسي كشكل ومؤسسات وأفراد وظيفة تعزيز المواطنة والهوية، حيث تستند مشروعية النظام السياسي في الأساس إلى مدى توافقه مع القيم المجتمعية من جهة، وإحساس المواطنين بانتمائهم لهذا النظام، عبر تعبيره عن مصالحهم وحماية حقوقهم، وتوفير العدالة والرفاه الاجتماعيين.

فالمواطنة مفهوم يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية:

مدنية: والتي تشمل كافة الحقوق والحريات العامة لأفراد المجتمع.

سياسية: وهي قدرة أفراد المجتمع على المشاركة السياسية في إدارة بلادهم دون أدنى تمييز فيما بين المكونات الاجتماعية.

اجتماعية: من خلال العمل على تكريس وتوسيع قاعدة الحق في الرفاه والأمن.

وتتنوع أشكال الأنظمة السياسية في الدول المعاصرة، ما بين دول مركزية تخضع لقيادة سياسية أحادية الشكل، وهرمية في البناء، وبين أشكال فدرالية أثبتت جدارتها بالمقارنة مع الشكل الأول في احترام الخصوصيات المجتمعية وتوسيع المشاركة السياسية. ويتوزع هذان الشكلان على أنماط متعددة من برلمانية ورئاسية وملكية مطلقة ومختلطة في إدارة الحكم.

وتسعى هذه الدراسة لتناول شكل نظام الحكم في دولة الإمارات العربية المتحدة، ودارسة أشكال توزيع السلطة الفدرالية فيها، وإثر ذلك على تعزيز مستوى المواطنة وانعكاسه على الهوية الوطنية الناشئة بعد الاتحاد، سواء على المستوى الدستوري أو التطبيقي.

 

أولاً- شكل النظام السياسي في دولة الإمارات العربية المتحدة:

يعتبر شكل النظام السياسي الاتحادي في دولة الإمارات، أحد الأشكال الوحدوية في العالم العربي، وأكثرها استمرارية، ضمن أشكال عدة اتخذت أطر الدولة المركزية المتشددة أو الكونفدرالية، لم يكتب لكثير منها الدوام إلا لسنوات محدودة، أو أنها استمرت ضمن صراعات داخلية انعكست على بنية الدولة وطبيعة العلاقات المجتمعية فيها.

فالوحدة بين التشكيلات الاجتماعية والكيانات البشرية، لا يمكن أن تنجز بالفرض والقوة، وأية وحدة تنجز بهذا السبيل فإن مآلها الأخير هو الفشل والتشظي والهروب من كل الأشكال الوحدوية، والارتماء في أحضاء المشروعات الذاتية الضيقة، كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات، لتقليل بعض أخطار الوحدة التي فرضت بالقوة والقسر. فالتجارب الإنسانية جميعها، تقف بقوة ضد كل المشروعات الوحدوية التي تبنى بالقسر والعسف والإرهاب، لأن مردوداتها السلبية والعكسية خطيرة وآثارها البعيدة تزيد من عوامل التفتت والاحتماء بالمشروعات الضيقة، التي تزيد الناس انغلاقاً وتعصباً عن أخلاق الوحدة وثقافة العيش المشترك. فالنواة الحقيقة لتحقيق مشروع الوحدة الوطنية، هي تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع، ونسبية الحقيقة والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء تتبلور قيم الوحدة الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار الوحدة الوطنية شعاراً أجوفاً، يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية. فالوحدة الوطنية من المشروعات التي تتطلب بنية تحتية قوية، وينبغي أن يشارك كل مواطن بجهد في سبيل توفير تلك البنية، كما لا يمكن إنجاز أي مستوى من مستويات الوحدة بدون قاعدة أخلاقية وقيمة (1).

لذا يمكن اعتبار نموذج الاتحاد الإماراتي، من أنجح النماذج الدولية الاتحادية، لناحية توفير التوافق العقدي بين المكونات المتحدة لناحية، وترسيخ مفهوم المساواة بين تلك المكونات من ناحية أخرى. فقد انبثق مفهوم الاتحاد الإماراتي قبيل الجلاء البريطاني عن منطقة الخليج العربي بعدة سنوات، ومنذ عام 1966، بداية على يد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم إمارة أبو ظبي حينها، كآلية لإنشاء كيان سياسي قادر على الاستمرار، في مواجهة تحديات داخلية وتهديدات خارجية، يشمل الإمارات السبع المتحدة حالياً وطامحاً لانضمام قطر والبحرين في ذلك الوقت.

إذ أكّد الشيخ زايد، فور تسلّمه سدّة الحكم في السادس من أغسطس عام 1966 حاكماً على إمارة أبو ظبي، مدى أهمية الاتحاد، وقال معلّقاً: “نستطيع بالتعاون وبنوع من الاتحاد، إتباع نموذج الدول الأخرى النامية”. ورغم إدراكه التام بأنّ الاتحاد كان مجرّد مفهوم حديث في المنطقة، إلاّ أنّ اعتقاده بإمكانيّة تنفيذه على أسس الروابط المشتركة التي تربط بين مختلف الإمارات، بالإضافة إلى تاريخ وتراث أبنائها الذين عاشوه معاً لعدة قرون، كان ثابتاً. لذا عمل الشيخ زايد على ترجمة مبادئه وأفكاره عن الاتحاد والتعاون والمساندة المتبادلة إلى أفعال، وذلك بتخصيص جزءٍ كبير من دخل إمارته من النفط لصندوق تطوير الإمارات المتصالحة قبل بداية دولة الإمارات العربية المتحدة كدولة اتحادية. وأطلق التوقّع الكبير لإنهاء العلاقة الخاصة القائمة بين بريطانيا والإمارات المتصالحة لفترة 150 عاماً الإشارة إلى نوع ما من الترابط الذي يتسمّ بالطابع الرسمي الأكثر قوّةً مما كان مقدّماً من قبل مجلس الإمارات المتصالحة، ونتيجةً لهذه القوى الجديدة العاملة اتّخذ كلّ من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم إمارة أبو ظبي، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم إمارة دبي، الخطوة الأولى نحو إنشاء الاتحاد (2).

ويعتبر الشكل الفدرالي/الاتحادي أحد الأشكال المعاصرة لبناء الدول، في ظل مراعاة الخصوصيات البينية للتشكيلات المجتمعية بين أجزاء الدولة الاتحادية. ورغم أن غالبية سكان الإمارات المتحدة ذوو انتماء إثني واحد (عرب ومسلمون سنة)، إلا أن الاتحاد فيما بينها حفظ لها خصوصياتها المجتمعية التقليدية من جهة، وترك المجال أمامها للانتقال إلى النمط الحداثي وفق آلياتها وقيمها المجتعمية بعيداً عن الفرض الذي ينتج أزمات هوية كبرى.

إذ تعني الفيدرالية وجود مستويين من مستويات الحكم في الدولة: مستوى الحكم المركزي الاتحادي للدولة، ومستوى الحكم المحلي للوحدات السياسية المكونة للدولة. ويرتكز النظام الفيدرالي على الفصل بين صلاحيات ومسؤوليات الحكومة الفيدرالية المركزية من جهة، وبين صلاحيات الحكومات المحلية على مستوى الوحدات السياسية المكونة للاتحاد من جهة ثانية، وبين الصلاحيات المشتركة بين الحكومتين الاتحادية والمحلية من جهة ثالثة.

وتتشكل سيادة النظام الفدرالي إما عبر منح الحكومية المركزية الاتحادية صلاحيات للوحدات السياسية المكونة للاتحاد، أو عبر تنازل تلك الوحدات عن جزء من صلاحياتها لصالح الاتحاد. حيث تتوزع الصلاحيات فيما بينها كما يلي:

أن تكون الصلاحيات التي لم تخص للاتحاد دستورياً هي من صلاحيات الوحدات السياسية.

أن تكون الصلاحيات التي لم تخص للوحدات السياسية دستورياً هي من صلاحيات الاتحاد.

أن يتم توزيع الصلاحيات دستورياً بشكل دقيق بين الاتحاد ومكوناته السياسية.

ويتشكل النظام السياسي الاتحادي في دولة الإمارات، على مستويين سياسيين، الأول مستوى الدولة الاتحادية/الفدرالية، والثاني مستوى حكم الإمارة لذاتها، بما يتفق مع النظام الدولي.

 

أ‌- النظام السياسي على مستوى الدولة:

يستند النظام السياسي الاتحادي في دولة الإمارات، على خمسة مرتكزات أساسية وفقاً لدستور(*) الاتحاد:

(1) المجلس الأعلى للاتحاد: وهو بمثابة مجلس حكم أعلى، يتكون من حكام جميع الإمارات المكونة للاتحاد، وعبره تتم صياغة التوجه العام للدولة بموافقة أغلبية أعضائه.

(2) رئيس الاتحاد ونائبه: وهو الممثل السياسي الأعلى للاتحاد، حيث يتم انتخابه ونائبه من قبل المجلس الأعلى للاتحاد، أي من قبل حكام الإمارات فيما بينهم، ليكون ممثلاً عن الجميع في إدارة الدولة. وتمتد الدورة الانتخابية لرئيس الاتحاد ونائبه لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد. حيث تخلى حكام الإمارات عن جزء من سيادتهم لصالح السيادة الأعلى للدولة الاتحادية، وتمثيلها برئيس الاتحاد، والذي مُنِح وفق الدستور صلاحيات تفوق الصلاحيات المحلية للإمارات، ولا تتعارض معها.

(3) مجلس وزراء الاتحاد: وهو الهيئة التنفيذية الأعلى في الدولة الاتحادية، وقد فصل الدستور بين صلاحياته والصلاحيات المحلية للإمارات، ويعمل تحت مراقبة المجلس الأعلى للاتحاد ورئيس الاتحاد، حيث يكون مسؤولاً أمامها معاً، وأُنيط به إدارة كافة الأجهزة الاتحادية.

(4) المجلس الوطني الاتحادي: وهو بمثابة المجلس التشريعي للاتحاد، ويتألف من 40 عضواً يمثلون كل إمارة بنسب ثابتة. ويختص المجلس في مناقشة مشروعات القوانين الاتحادية، والموازنة الاتحادية العامة، وله صلاحيات إقرارها أو تعديلها أو رفضها قبل رفعها لرئيس الدولة وللمجلس الأعلى للاتحاد. كما يناقش كافة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي ستنضم إليها الدولة قبل إقرارها.

(5) القضاء الاتحادي: نص الدستور الاماراتي، على أن يكون للاتحاد محكمة اتحادية عليا، يتم اختيار قضاتها من قبل رئيس الدولة بعد موافقة المجلس الأعلى للاتحاد. وتختص بالمنازعات بين الإمارات الأعضاء في الاتحاد، والبت في دستورية القوانين الاتحادية، وتفسير أحكام الدستور، ومساءلة الوزراء وكبار موظفي الاتحاد، والجرائم التي لها مساس مباشر بأمن الاتحاد، وتنازع الاختصاصات. كما أنشأ الدستور محاكم اتحادية ابتدائية، تختص في النظر في المنازعات بين الاتحاد والأفراد، كذلك تختص بالجرائم والأحوال الشخصية في العاصمة الاتحادية، بما لا يقع في اختصاص المحكمة الاتحادية العليا.

 

ب‌- النظام السياسي على مستوى الإمارات الأعضاء في الاتحاد:

ترك الدستور الإماراتي، الحق لكل إمارة في إدارة شؤونها الداخلية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفق ما ترتئيه تلك الإمارة وبما لا يتعارض مع القوانين الاتحادية. إذ يمارس الحكام صلاحياتهم من خلال وجود دوائر حكومية تساعدهم في أداء مهماتهم. ولكل إمارة قضاء محلي ينظر في القضايا التي لا يختص بها القضاء الاتحادي.

وقد منح الدستور لكل إمارة حق السيادة على أراضيها ومياهها الإقليمية في كافة الشؤون التي لا يختص بها الاتحاد.

ويتم فيها انتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي – أي 20 عضواً – من قبل هيئة انتخابية من مواطني كل إمارة، وتعيين النصف الآخر من قبل حكام الإمارات. وقد أجريت الانتخابات لأول مرة في تاريخ الدولة لانتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي الجدد، في ديسمبر 2006.

وأجاز الدستور لكل إمارة عقد اتفاقيات محدودة ذات طبيعة إدارية محلية مع الدول والأقطار المجاورة لها، على ألاّ تتعارض مع مصالح الاتحاد ولا مع القوانين الاتحادية، بشرط إخطار المجلس الأعلى للاتحاد مسبقاً، كما أجاز لها الاحتفاظ بعضويتها في منظمة الأوبك ومنظمة الدولة العربية المصدرة للنفط أو الانضمام لها.

واشترط الدستور على الحكومة الاتحادية قبل إبرام أية معاهدة أو اتفاقية دولية يمكن أن تمس المركز الخاص بإحدى الإمارات، استطلاع رأي هذه الإمارة وعند الخلاف يعرض الأمر على المحكمة الإدارية العليا للبت فيه.

من ذلك يكون الشكل الاتحادي، قد حافظ على صلاحيات إدارة المجتمعات داخل كل إمارة بيد حكامها، وفقاً للتقاليد الموروثة وبما يرتئيه مواطنو تلك الإمارات، دون المساس بهيبة الحكام، أو التمييز فيما بين مواطنين الاتحاد بشكل عام. مقابل تنازل تلك الإمارات عن شيء من سياداتها وصلاحياتها، وخاصة في الشأن الخارجي والشأن التنظيمي البيني فيما بينها لصالح السلطة الاتحادية.

 

ثانياً- المواطنة والهوية في ظل الاتحاد:

إن إعادة بناء الهوية بوعي المكان والزمان في إطار التراكم التاريخي والحقائق القائمة، تعتبر أحد الشروط التي لا يمكن الاستغناء عنها من أجل الظهور على مسرح التاريخ، والمساهمة في التراكم البشري. كما أن الذهنية الاستراتيجية التي لا تستند إلى نية لإثبات وجودها لا يمكنها التخلص من السلبية التي تعيشها. ولذلك فإن المجتمعات التي تمتلك الذهنية الاستراتيجية الثابتة، والتي تنتج مفاهيم وأدوات ومجالات جديدة حسب الظروف المتغيرة والمحيطة بهذه الذهنية، تستطيع أن تفرض ثقلها في مقاييس القوى الدولية. وبالمقابل، فإن المجتمعات التي تنسلخ عن الوعي بهويتها من خلال انكسار راديكالي في ذهنيتها الاستراتيجية، ستجازف في قوة وجودها التاريخي. في حين أن المجتمعات التي تتعامل بذهنية جامدة برفضها للمجتمعات الأخرى، فإنها ستنسلخ عن الوعي البشري المشترك ويتم رفضها (3).

وقد أسس الاتحاد الإماراتي هوية جمعية واعية، ترسخ المواطنة الجديدة وتعليها على الهويات الفرعية، مع المحافظة عليها. إذ ساوى دستور الدولة بين كافة مواطني الإمارات الأعضاء، باعتبارهم مواطني دولة واحدة، وعليه نشأت حقوق المواطنة تحفظ الهويات التقليدية في الدولة. ومن ذلك تم منح كل إمارة صوتاً واحداً في المجلس الاتحادي الأعلى.

ولمفهوم المواطنة أبعاد متعددة تتكامل وتترابط في تناسق تام:

بعد قانوني يتطلب تنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين استنادا إلى العقد اجتماعي يوازن بين مصالح الفرد والمجتمع.

بعد اقتصادي اجتماعي يستهدف إشباع الحاجيات المادية الأساسية للبشر ويحرص على توفير الحد الأدنى اللازم منها ليحفظ كرامتهم وإنسانيتهم.

بعد ثقافي حضاري يعنى بالجوانب الروحية والنفسية والمعنوية للأفراد والجماعات على أساس احترام خصوصية الهوية الثقافية والحضارية ويرفض محاولات الاستيعاب والتهميش والتنميط.

وقد أتى هذا الاتحاد بفوائد جمة على مستوى الهوية الوطنية الجامعة، من أهمها:

توحيد الجهود السياسية في مواجهة التهديدات الخارجية وخاصة الإيرانية، والمنبثقة تحديداً منذ احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث.

إحداث تكامل اقتصادي نفطي-تجاري-زراعي، تبعه تنمية صناعية، أنشأ بنية تحتية قادرة على ولوج الاقتصاد العالمي والمنافسة فيه، مما انعكس على مستوى معيشة المواطنين كافة، والرقي بهم إلى مستوى عالمي.

بناء سياسة خارجية واحدة، تحفظ للدولة كينونتها، وتدافع عن مصالح أعضائها.

المحافظة على الأعضاء داخل الدولة من الانقسامات والتباينات التي قد تنشأ فيما بينها.

حماية الأعراف والتقاليد المحلية والقبلية والأسرية، التي تتميز بها الإمارات الأعضاء في الاتحاد، عبر منحها حق تسيير شؤونها، وهو ما يمنح الشعور بالحماية والمساواة ما بينها من جهة، وبالتوازن في إدارة البلاد من جهة أخرى.

منح الأعضاء حرية الولوج الحداثي بما يتفق مع مرتكزاتها الاجتماعية.

وقد أدت السياسة الفدرالية في دولة الإمارات، إلى ترسيخ مفهومين أساسيين في المجتمع الإماراتي: الانفتاح والسلام. وهو ما انعكس لاحقاً على سياساتها تجاه محيطها وتجاه العالم، باعتبارهما ركيزتي الاستقرار والتنمية، وخاصة في ظل الطموحات التي صاغها قادة الإمارات للنهوض ببلادهم لحظة إنشاء الاتحاد، التي شكلت تحدياً كبيراً حينها. وهو ما جعلها قبلة للنشاط الاقتصادي عالمياً، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، كنتيجة أساسية للبناء الفكري المجتمعي القادر على الانفتاح الهوياتي.

إذ تمتلك الدولة سجلاً حافلاً وراسخاً من التعايش والتسامح الديني والثقافي بين سكانها. حيث يقيم حالياً على أرضها أكثر من 200 جنسية، وفّرت لهم الدولة قانوناً يحمي معتقداتهم ويحترم أعرافهم وتقاليدهم ويوفر لهم حرية ممارسة شعائرهم في جو يتسم بالعدالة والشفافية التي لا تسمح للتعصب الديني أو المذهبي أو العرقي أن ينمو فيها. كما أن الجهود التي تبذلها الدولة من خلال الفنون والثقافة والسياسات التعليمية، ساهمت في إيجاد مستوى أعمق من التفاهم والتسامح وأدت إلى رفع مستوى الوعي والاحتفال بالتراث العالمي، فضلاً عن تراثها الخاص. وتجسد دولة الإمارات العربية المتحدة مثالاً حياً للتفاعل الإيجابي والبنّاء بين الثقافات المختلفة واللغات والأجناس والأعراق والمعتقدات، وهو ما يؤدي إلى تناغم وتعايش سلمي في هذا المجتمع المتنوع (4).

لقد تطورت الدولة مع نشوء جيل جديد مشبع بالولاء للاتحاد، مما أضعف روح الإقليمية والولاء للإمارة على حساب الاتحاد، ويعد هذا مؤشراً جيداً يوحي بأن الأجيال القادمة ستكون أكثر قدرة على دمج الدولة إذا ما توفرت الظروف الموضوعية لذلك. فبعد قرار المجلس الأعلى للاتحاد عام 1996 بتحويل الدستور المؤقت إلى دستور دائم، فإنه بذلك قد حسم نهائياً الوضع السياسي في الإمارات في تبني الصيغة الاتحادية، كما جاء ليحول دون طموحات الانفصال، وبالمقابل أنهى هذا القرار أي طموح لقيام دولة مركزية تتجاوز المحاصصة بين الإمارات(5).

وقد عمل حكام الإمارات على تعزيز البنى الاتحادية في بينهم، المادية منها الرمزية. فتم دمج القوات المسلحة لتشكيل جيش اتحادي واحد، واعتماد علم واحد للدولة، وعملة موحدة، في سبيل تعزيز مفهوم المواطنة الواحدة المتساوية. كما لعب التدفق البشري الخارجي إلى دولة الإمارات خلال العقود الماضية دوراً إيجابياً كذلك، في الدفع نحو إظهار الهوية الوطنية المتمايزة عن الهويات الجديدة، والتمسك بها. رغم التحديات الثقافية التي شكلها الانفتاح الإماراتي.

إن استقرار الهوية الوطنية لدى سكان الدولة، مع ارتفاع مستوى المعيشة، والإحساس بالمساواة والعدالة، دفع الإمارات بعيداً عن اضطرابات الربيع العربي، التي كانت في مجملها نتيجة لإشكالية المواطنة بين السلطة والسكان، بعد تغول السلطات في تلك الدول على حساب الحقوق الأساسية لشعوبها.

فقد قام الحكام بإجراء إصلاحات محسوبة في النظام السياسي الإماراتي (قرار زيادة عدد أعضاء هيئة المنتخبين من 6 آلاف إلى 130 ألف ناخب، وهي الهيئة التي تنتخب نواب المجلس الوطني الاتحادي الذين ينتخب “كبار الناخبين” نصفهم فقط، وزيادة دور المرأة في المجتمع الإماراتي). من جهة أخرى، اتخذت حكومة الإمارات عددا من التدابير الاقتصادية منذ ربيع عام 2011، ترمي إلى تأمين الخدمات الأساسية في مختلف إمارات الشمال التي تسجل الكثافة السكانية الأعلى من حيث السكان المحليين، بالإضافة إلى النمو الاقتصادي الضعيف والنقص في البنى التحتية. وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي في اتحاد الإمارات العربية المتحدة 362 مليار دولار في عام 2012. من جهة أخرى، حفزت إستراتيجية تنويع الاقتصاد الإماراتي، التي ميزت الاتحاد عن غيره من بلدان الشرق الأوسط، هذا النمو، إذ يعتمد نمو الإمارات، من غير قطاع النفط، على قطاع الخدمات. فلم يعد النفط يمثل إلا 27٪ من الناتج المحلي الإجمالي في يومنا هذا. ويشمل أيضا التنويع الاقتصادي الصناعة وقطاع العقارات الذي يجذب العديد من العملاء الإقليميين والدوليين (6).

ولم تكتفِ الدولة بتنمية مستوى المعيشة للمواطنين، بل عملت كذلك على تطوير دور الشرائح المجتمعية كافة في إدارة البلاد، لتكريس مفهوم المواطنة وتعزيز الهوية والمشاركة السياسية، من ذلك اتجهت دولة الإمارات لتنمية المرأة سياسياً وإدارياً.

إذ أكد أنور محمد قرقاش وزير الدولة لشؤون الخارجية ووزير الدولة لشؤون المجلس الوطني الاتحادي: “تعد قضية تمكين المرأة إحدى أولويات دولة الإمارات خلال فترة عضويتها في المجلس. وذلك انطلاقاً من قناعتها الراسخة بأهمية دورها في المجتمع إذ أصبحت شريكاً فعالاً فيما تحقق من مكتسبات تنموية في دولة الإمارات حيث تشغل المرأة نسبة 66 في المائة من وظائف القطاع الحكومي من بينها 30 في المائة من الوظائف القيادية العليا المرتبطة باتخاذ القرار وتبلغ مشاركة المرأة في التعليم العالي 95 في المائة للطالبات و80 في المائة للطلاب وذلك من خريجي الثانوية العامة، وتشكل النساء 70 في المائة من مجموع خريجي الجامعات في الدولة ويعتبر ذلك من أعلى النسب عالمياً بالإضافة إلى دخولها سلك القضاء والنيابة والشرطة وكذلك السلك الدبلوماسي والقنصلي. وفي مجال المساواة بين الجنسين فقد حققت دولة الإمارات المرتبة الأولى من بين الدول العربية والمرتبة الـ 38 عالمياً وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي(7).

ويمكن ملاحظة انعكاس مستوى التنظيم السياسي على البنى الاجتماعية من خلال دراسة المؤشرات الدولية، والتي من أبرزها، نتائج تقرير التنافسية الدولي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لعام 2013 – 2014 والذي صعدت فيه دولة الإمارات خمس مراتب لتحتل المرتبة 19 في التنافسية الكلية لاقتصادها خلال سنة واحدة متقدمة على دول مثل فرنسا وإيرلندا وأستراليا. كما احتلت الامارات العربية المتحدة المرتبة الأولى عربياً والرابعة عشرة على المستوى العالمي بنسبة (71.15 %) في المؤشر الدولي للحقوق الأساسية.

 

خاتمة:

إن عملية تجاوز الهياكل المركزية السياسية التقليدية في بناء الدول، نحو إنشاء كيانات فدرالية، لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلا بتضافر عوامل ثلاث:

وعي مجتمعي بالهوية الفدرالية وأهميتها، ودفع باتجاه تحقيقها، باعتبارها الممثل الحقيقي عن مصالح المجتمع.

تسطير مواساة فعلية بين الأقاليم الفدرالية في الحقوق والواجبات، فهي الكفيلة بتعزيز الانتماء الفدرالي لكافة الشرائح المجتمعية.

الارتقاء بمستوى فعالية المؤسسات الفدرالية، وخاصة لناحية تمثيلها لشرائح المجتمع، أو لناحية العمل باتجاه بلوغ مستوى الرفاه والعدالة الاجتماعية التي يطمح إليها المجتمع.

وإن كانت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً ناجحاً لإدارة المجتمعات في كيان فدرالي، رغم تناسق طبيعة سكانها عرقياً ودينياً، فمن باب أولى البحث في هذا الشكل الفدرالي، في دول عربية تعيش أزمات هوية تكاد تفتتها، نتيجة تنوعها الإثني.

وحيث أن العراق استوحى تلك التجربة، إلاّ أن افتقار المؤسسات الحكومية إلى الفعالية المطلوبة على المستوى الفدرالي، وعدم ترسخ الفكرة ذاتها بين الفئات المجتمعية، ودفع بعضها نحو الاستقلال، وتدهور مؤشرات الاستقرار السياسي والتنمية والمساواة، أعاق تطوير تلك التجربة التي لم تنبثق عن وعي كلي بضرورتها، وخاصة لحظة الإنشاء، كما أن الإنشاء أتى فرضاً عبر القوة الأمريكية، كما وتؤدي الولاءات الفرعية الداخلية والخارجية دوراً سلبياً في بناء الهوية الفدرالية العراقية. خاصة عبر الصراع الهوياتي على المستوى العرقي (العربي-الكردي) وعلى المستوى الديني (السني-الشيعي).

لذا فإن الدفع الداخلي باتجاه توسيع المشاركة السياسية، وابتعاد الدولة عن المجال الخاص، عبر إتاحة الفرصة للمجتمعات المحلية في إدارة ذاتها، وترسيخ مبدأ المساواة داخل المجتمع بين كافة المكونات، ضرورة تفرض على الدول العربية وخاصة في ظل اضطرابات الربيع العربي، والعجز عن الانتقال سريعاً إلى حالة الاستقرار السياسي والأمني في كثير من الدول، وانعكاس ذلك على الانتماء الوطني والولاء للدولة.

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

مراجع:

(*) دستور دولة الإمارات العربية المتحدة.

(1) محمد محفوظ، الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية (بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2004)، ص 100-103.

(2) للمزيد انظر: موقع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، http://www.sheikhmohammed.com

(3) أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي .. موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد ثلجي و طارق عبد الجليل (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الثانية، 2011)، ص 51.

(4) للمزيد انظر: ديوان ولي العهد، www.cpc.gov.ae.

(5) عبد الخالق عبد الله، “تطور النظام الاتحادي في الإمارات”، المستقبل العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 311، 2005)، ص 23.

(6) للمزيد انظر: وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، http://www.diplomatie.gouv.fr

(7) صحيفة الاتحاد، 1/3/2013.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق