دلالات ” تدويل ” احتفالية تنصيب السيسي: موقع الجمهورية الثالثة وتحدياتها

بعد أدائه اليمين الدستورية، وفي حفل التنصيب الذي أخذ طابعاً دولياً، كسابقة هي الأولى من نوعها في العهد الجمهوري، أدى الرئيس المصري المنتخب عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية، أمام المحكمة الدستورية العليا، بسبب عدم وجود برلمان منتخب، في احتفالية تعيد لمصر دورها التاريخي، الدور الذي يضعها اليوم أمام حالة من التمايز والتفرد عن محيطها العربي؛ لاسيما في مراحل ما بعد ارتدادات ” الربيع العربي”.

لقد غيّرت ” المحروسة “رئيسين، دون أن تنال التغيرات الحاصلة على الساحة العربية، من كيان الدولة المصرية، وبنيان مؤسساتها الدستورية، بالرغم مما جُيِّش لها من مخططات داخلية وإقليمية.

وفي حفل التنصيب الذي شهد تدافعاً- أشبه بالولاء- للقوة القادمة،  دعت مصر من دعته، كما استبعدت من استبعدته، في مشهدية واضحة لاعتراف دولي، بدءً من القوة الأعظم ( الولايات المتحدة الأمريكية)، مروراً بدول أوروبا الغربية ( فرنسا وبريطانية)، و القارة الأفريقية ( جنوب افريقيا، وأثيوبيا، ونيجيريا، وغيرها)، وانتهاءً  بقلب الأرض الأوراسي (روسيا)،  التي تبحث عن قوة إقليمية، تكون معادلاً موضوعياً، يضمن الاستقرار في منطقة المياه الدافئة.

 تبدو مصر اليوم، وكأنها تذكر العرب، والإقليم، والعالم، بموقعها الجيوستراتيجي والجيوبوليتيكي، كصلة وصل، وعروة وثقى للعرب الممتدين على قارتين، وهي وإن جفاها – لعقود خلت- ميزة القيادة في محيطها العربي، إلا أنها  تولد اليوم من خاصرة صراع على الوجود العربي، في محاولة منها لرسم منظومة جديدة لنظام إقليمي عربي،  يؤسس لمرحلة جديدة، تنأى عن سياسات اختزال مصادر القوة بالإيديولوجيا، التي طالما انهكت الجسد العربي، واختصرته بكتلتين القومية تابعتين لمعسكريين متصارعين .

وفي دلالات ” تدويل” التنصيب، تتبدى دلالات الاعتراف بالاصطفافات العربية الجديدة، كواقعية ألقت بقسريتها على الخيار الدولي، الذي بدا ميالاً لصالح هذه الاصطفاف العربي الجديد، كحالة من إعادة التوازن بين القوى الإقليمية على أقل تقدير.

لقد أفرز التمدد الإقليمي الإيراني- التركي، تسارعاً غير مسبوق على الساحة العربية، فالحرائق التي اشعلتها ” الثورات العربية”، وضعت القوة الإيديولوجية لمصر، في خندق واحد من المواجهة مع ما يهدد الأمن القومي العربي والخليجي.

وفي تواشج بين القوتين، الإيديولوجية (مصر)، والاقتصادية (الإمارات، والسعودية، والكويت، والبحرين)، تتقاسم القوى العربية، مخاضات الخروج بنظام إقليمي عربي خالص، ما يعيد إلى الأذهان، مقولة: “ما حك جلدك مثل ضفرك”.

في خضم ذلك، يتمايز حضور دولة الإمارات العربية المتحدة، التي كسبت رهاناتها في مواجهة مخاطر الإسلام السياسي المتطرف، فقد أجهزت الدولة الإماراتية، على ما اعتبرته تهديداً حاصلاً لأمنها القومي والخليجي، واتبعت ذلك بخطوات دؤوبة لتجفيف منابعه الكائنة في قطر، بعد أن نجحت، ومنذ القرار التاريخي بسحب سفيرها وسفراء السعودية والبحرين من قطر، في خطوة اعتبرتها مصر، مقدمة لوحدة الهم، الذي أصبح هاجساً أمنياً، يهدد الآمال المشتركة، من الخليج العربي إلى البحر المتوسط.

وكما تحديات الإيديولوجيا، تتفرد المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، في خوضهما تحديات الإقتصاد المصري، الذي انهكته تداعيات السنوات الأخيرة من الفوضى وعدم الاستقرار، ما وضع البلاد أمام استحقاقات متعلقة بالإسكان، وتنمية منطقة قناة السويس، وغيرها من المشاريع التنموية، التي تضع المكانة الخليجية في صدارة الدول الأكثر احتفاءً بـ ” تدويل” احتفالية التنصيب، مقدمةً نفسها كحليف استراتيجي، تعوّل عليه مصر في الكثير من التحديات الداخلية، لاسيما تلك المتعلقة  بإحياء القطاع العام والاستثمار.

على الصعيد الإقليمي، استبعدت مصر – من الناحية الفعلية-  التواجد التركي من حفل التنصيب، بما لهذا الاستبعاد من دلالات مستقبلية في الخارطة الدولية والإقليمية، فسياسات ” العمق الاستراتيجي التركي”، وذراعه الإخواني في قطر، بات موضوعاً  محسوماً في السياسات المصرية و الخليجية، ولم يعد بعد اليوم مكاناً لها في الخارطة السياسية الجديدة.

 وكما استبعاد تركيا عن التنصيب، استُبعدت قطر، كما ودائعها في البنوك المصرية، فلا مكان – من الآن وصاعداً- لسياسات جمع المتناقضات القطرية، التي طالما دفعت ثمنها مصر، فقد حسمت ” المحروسة”، أمورها، حين أعادت ودائع المال القطري، التي بلغت قيمتها ثلاثة مليارات دولار، بعد أن أعلنت الحكومة المصرية، عن خارطة طريق لتنشيط الاقتصاد، والتأسيس لمرحلة تنموية جديدة، يكون قوامها القوة الاقتصادية لأشقاء الهم في الخليج العربي.

على الصعيد الأفريقي، يبدو الحضور الكثيف للدول الإفريقية، دلالة أخرى  لاستعادة مصر مكانتها في القارة الأفريقية، بعد أن أرسلت – وقبل أيام من فوز السيسي – رسائلها إلى القارة السوداء، عبر استعادة زمام المبادرة في الشأن الليبي، حيث اعتبرت مصر حالة الفوضى وانتشار السلاح وعدم الاستقرار، تهديداً حاصلاً لأمنها القومي،  كما أظهرت دورها المركزي في  مؤتمر روما حول الأمن في ليبيا، كما مهامها التي اضطلعت بها في جمع السلاح وتخزينه بالتعاون مع الأمم المتحدة والدولة الليبية،  واستضافت المؤتمر الوزاري الدولي حول ضبط الحدود الليبية، التي أصبحت تهديداً لأمنها، ونقطة انطلاق للجماعات المسلحة من ليبيا إلى الداخل المصري.

على الصعيد الأوروبي، يرتبط حضور دول أوروبا في حفل التنصيب، بالحاجة الأوروبية الماسة، للدور المصري القوي والفاعل في شمال أفريقيا، بعد التخوف الأوروبي من تحوّل ليبيا إلى بؤرة للهجرة غير الشرعية، التي أصبحت تهديداً فعلياً لأمن دول أوروبا، بعد أن أدى تفكك الدولة الليبية، إلى تحول هذه الظاهرة إلى مصدر هام من مصادر المال السياسي، الذي تتمول منه الجماعات المتطرفة، والتي أصبح بإمكانها الوصول بسهولة إلى قلب أوروبا.

 على الصعيد الدولي، وبما أن قدوم السيسي، كشخصية قوّضت حكم ” الإخوان المسلمين”، فإن حضور الولايات المتحدة حفل االتنصيب، يُنهي – وبما لايدعو للشك- مرحلة الحيرة والغضب المصري من السياسات الأمريكية، التي وقفت إلى جانب ” الجماعة ” خلال العقد المنصرم، الموقف الذي يرى فيه السيسي محاولة  لتهميش دور مصر في محيطها.

 إذاً، تدرك الولايات المتحدة في حضورها اليوم، ماهية ودلالات ” تدويل” حفل التنصيب، فهي وإن جربت الإخوان ودعمتهم، إلا أنها اكتشفت عدم قدرتهم على الحكم. الحال الذي وضعها أمام الأمر الواقع، فاشتغلت على مقاربة جديدة، لم تبدي من خلالها أسفاً على رحيل مرسي، ولم تطالب بإعادته، كما تجنبت وصف ما حصل بـ ” الانقلاب”، في محاولة منها لإرساء روابط جديدة مع الرئيس المقبل.

وبناء عليه، يقف الرئيس الجديد اليوم، أمام تحديات جسام، فالحالة الاقتصادية تدعو للقلق، لاسيما وأن إهمالها قد يعيد مصر إلى المربع الأول، وهنا تبرز حتمية وضع استراتيجية سياسية وأمنية واقتصادية، تساعد مصر في مهمتها الجديدة، المتمثلة بحسم الاستقطابات السياسية الإقليمية، التي أرقتها، كما أرقت المنطقة ككل،  فلن يكون هناك أي حسم خارجي بدون الحسم الداخلي، المتعلق بحاجات المواطن المصري، وفي مقدمتها إنقاذ الطبقة الوسطى من الآفات التي تعصف بالمجتمع المصري اليوم، لاسيما مسألة  التفاوتٍ المرعب في الدخل، والتفاوت الملموس في الأسعار بين منطقة وأخرى، وكأن المجتمع في مصر  بات مجتمعين، والدولة أصبحت دولتين، الأمر الذي يضع الرئيس الجديد، أمام  مهمة التوفيق بين القطاع العام و القطاع الخاص، وتشجيع الأخير بما يتناسب وحال الشباب المصري،  الذي ينتظر وضع الحلول المناسبة للبطالة المتنامية، والآفات الإقتصادية والمجتمعية، التي لن تحتمل بعد  اليوم، أي تعويم،  أو تأخير، أو غموض.

د. محمد خالد الشاكر

نقلا عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

الوسم : السيسيمصر

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق