دروس بين انقلابين: من مصر إلى تركيا

شهدت ليلة السادس عشر من تموز/يوليو ترقباً -يمكن وصفه عالمياً- للانقلاب العسكري الذي حصل في تركيا، ضمن ظروف تبقى غامضة، وملابسات وأدوار تتجاوز شخص فتح الله غولن، المتهم الرئيس بالتدبير للعملية الانقلابية بالتعاون مع قيادات عسكرية داخل تركيا، بل وأدوار دولية تبقى غير واضحة تماماً في ظل تفاهمات روسية-أمريكية على إعادة صياغة آليات حماية مصالحهما في منطقة الشرق الأوسط. ليتخذ الانقلاب أحد المسارات الفريدة في التاريخ المعاصر، لناحية إسقاطه والتصدي له شعبياً وسليماً، ومواجهة الآليات العسكرية من قبل المدنيين العزل.

يعيدنا الحدث الانقلابي في تركيا، إلى أقرب نظرائه في الزمان والمكان، وهو الانقلاب العسكري في مصر في تموز/يوليو 2013، على ما بين الحدثين من تباينات في المسارات والنتائج، وتباينات في الثقافة السياسية المجتمعية لدى كل من المصريين والأتراك، أو بالأصح بين العرب والأتراك، وما بين الحدثين –من ناحية أخرى- من توافق في الداعمين إعلامياً وسياسياً.

طيلة أشهر سابقة، أو بالأدق، منذ عدة سنوات سابقة، يسعى أردوغان إلى توسيع نطاق صلاحياته في إدارة البلاد، بما يتجاوز في بعض المواقع الأطر والأدوات الديمقراطية ذاتها، وإن كانت بطرق قانونية وشرعية، في محاولة لنقل تركيا نحو الجمهورية الثانية، والخروج من عباءة الجمهورية الأتاتوركية. لكن قبل أن يعمد حزب العدالة والتنمية إلى هذا المسار، قدّم كثيراً من الإنجازات الداخلية والخارجية لتركيا، سجّلت لها مواقع متقدمة في عديد من المؤشرات العالمية، وخاصة الاقتصادية والتنموية، وإن كانت ما تزال بحاجة إلى مزيد من الاشتغال على المؤشرات السياسية ومؤشرات الحريات العامة. عدا عن أن الحزب -وحكومته- عمد طيلة سنوات وجوده في السلطة، إلى تصفية غالبية من يعتبر خطراً انقلابياً من قبل الجيش التركي، وإحراج المعارضة السياسية إعلامياً وأدائياً، من خلال أداء العدالة والتنمية من جهة، وضعف الخطاب والأداء والبرنامج المعارض من جهة أخرى.

هذا المسار التنموي التصاعدي لأردوغان وحزبه، حافظ في ذات الوقت على المؤسسات التركية التي تُعتَبر عماد الدولة الأتاتوركية، وما حصل كان عملية تنقية لها من بعض الأفراد الذين قد يشكِّلون خطراً على الدولة التركية تدريجياً. بل حافظ أردوغان على النسق العلماني العام للدولة، ولم يعمد إلى مجابته بشكل مباشر، بقدر ما حاول الالتفات التدريجي حوله، والحصول على مكاسب جزئية متوالية، عوض هدمه كلياً. وهو ما رسّخ له شرعية سياسية ومجتمعية واسعة، تجلّت في نتائج الانتخابات منذ عام 2001 حتى الآن، والتي وإن تراجعت في بعض محطاتها التاريخية، إلا أن الحزب تداركها، وأعاد لها زخمها.

النموذج الآخر، وهو نموذج مرسي وحزب الحرية والعدالة، أو نموذج جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والذين سعوا إلى تطبيق النموذج التركي في المجتمع المصري مباشرة عقب تسلمه السلطة، مع الحفاظ على تسلط الجماعة والمرشد على الرئاسة المصرية، على عكس الحالة التركية. غير أنّ النموذج المصري وقع في مطبات على مستوى التفكير والتطبيق والتنظير، دون مراعاة الاختلافات الكبرى بين النموذجين، وتحديداً:

  • رسوخ آليات النظام الديمقراطي ومؤسساته في تركيا، في حين تغييب كافة تلك الآليات عن المجتمع المصري خاصة، والعربي عامة.
  • غياب ثقافة عبادة الفرد الحاكم وتقديسه في تركيا، وخصوصاً عقب رحيل أتاتورك، في حين كان المجتمع المصري ومن خلفه العربي ما يزال خاضعاً لتأثير تلك الثقافة.
  • لم يعمد أردوغان وحزبه إلى إحداث تغييرات جذرية في البنى المؤسسية التركية، إلا عقب أكثر من عشر سنوات من الحكم، في حين عمدت الجماعة في مصر إلى محاولة إحداث تلك التغييرات مباشرة.
  • كما أن أردوغان لم يعمد إلى إحداث تلك التغييرات، إلا بعد أن حقق جملة من الإنجازات المهمة لتركيا، في حين أنّ الجماعة في مصر لم تكن قادرة بعد على ضبط أي من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
  • حرص أردوغان على تصفية معارضيه العسكريين تدريجياً، وإحراج خصومه السياسيين، حتى يستطيع ترسيخ وجوده ووجود حزبه في السلطة. في حين عمدت الجماعة في مصر إلى مواجهة المؤسسة العسكرية والخصوم السياسيين معاً ومباشرة، عقب الخروج من ثورة مجتمعية كبرى (ثورة كانون الثاني/يناير 2011)، دون امتلاك أدوات المواجهة، سوى خطاب الحشد الشعبوي الديني بشكل رئيس.

بالنتيجة، سار أردوغان على ذات النهج المؤسساتي المرسّخ في تركيا، محترماً إياه في غالبية المواضع، ما جعل قاعدته المجتمعية تتّسع وتقبل بسلوكه السياسي ونتائجه. في حين حاولت الجماعة في مصر هدم النظام المؤسساتي غير القابل للتغير مباشرة، وهدم الثقافة المجتمعية المترسّخة لعقود أو حتى لقرون، معتقدة أن نتائج الانتخابات التي حصلت عام 2012، نهائية وشرعية، لا أنّها نتائج زائفة تعبر عن لحظة أزمة في المسار السياسي المصري.

هذه النتائج أعطت في الحالة الأولى، تأييداً شعبياً ليلة الانقلاب في تركيا للسلطة السياسية الشرعية، أي سلطة أردوغان وحزبه، حتى من قِبَل معارضيه، حفاظاً على المؤسسات والثقافة والقيم السياسية التركية، وكان إسقاط الانقلاب مجتمعياً انتصاراً للثقافة السياسية التركية أكثر منه انتصاراً لأردوغان. في حين حصل الانقلاب في مصر على هذا التأييد الشعبي، ليكون تأييداً للثقافة الموغِلة في دعم الاستبداد، ورفضاً لمحاولة التغيير القسري والسريع بأدوات الخطاب الأيديولوجي، وانحصر مؤيدو السلطة في أفراد الجماعة وعائلاتهم.

لا شك أنّ الشعب التركي وفق نتائج هذه الليلة، أثبت تفوقه الثقافي والحضاري على كافة شعوب الشرق الأوسط، التي ما تزال تقع في مطبات عبادة الفرد، حتى في ظلّ ثوراتها التحررية. وفي حين رفع الأتراك في مسيراتهم المناهضة للانقلاب الأعلام التركية، دفاعاً عن الدولة التركية ومؤسّساتها، فإنّ الجموع العربية التي رفضت العملية الانقلابية في تركيا، على وسائل التواصل الاجتماعي، رفعت بدروها صور أردوغان، في حالة ارتدادية ودفاعاً عن الفرد القائد.

ولا شك أيضاً، أنّ تركيا بعد هذه الليلة، تغدو أقرب ما يكون إلى الانتقال إلى الجمهورية الثانية، من خلال تسريع عملية التحديث التي يرنو إليها مشروع أردوغان، في تحويلها إلى جمهورية رئاسية، ومن المؤكد أن فشل العملية الانقلابية مجتمعياً، سيمنح العدالة والتنمية فرصة كبيرة لتحديث الثقافة التركية، وتعزيز آليات الخروج من العباءة الأتاتوركية.

غير أنّ الإفراط بالثقة بالذات السلطوية في تركيا، والتي قد تدفع إلى تهديم سريع للجمهورية الأولى، قد يصطدم حينها بذات الإرادة الشعبية التي حافظت على الدولة. فالانتصار الحقيقي هو انتصار الشعب التركي على كل الجهات الداخلية والخارجية التي سعت إلى إرجاع تركيا إلى العصر العسكري.

عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق