دبلوماسية الانبطاح العربي: مشروع “الحوار مع إيران”

لم تتقن أمة معاصرة فن الانبطاح للعدو والتفريط بحقوقها كما فعلنا منذ استقلال الدول العربية، وإن كان السادات أول من أسس لتلك الدبلوماسية بشكلها العلني، إلا أن البحث عن جذورها يقودنا إلى إشكالية كبرى يعيشها الفكر العربي المعاصر، سواء أكانت دخيلة ورثها من عقدته “تفوق المُحتَل”، أم مستحدثة أقامتها الأنظمة الطغيانية التي دفعت بمجتمعاتنا إلى عبادة الفرد، وتقديس كافة مخرجاته السياسية على حساب الوطن والمصلحة القومية. على أنها تبقى غير أصيلة في الفكر العربي، بل تمّ تأصيلها منذ الاستسلام الساداتي لإسرائيل، وما بُنِي عليه من تهافت القوى الفلسطينية وأنظمة عربية للتخلي عن القضية المحورية العربية –فلسطين- مقابل استمرار تسلطها على الشعوب والقضية معاً.

ولا نبحث هنا أصل قضية التفريط أو الانبطاح في الفكر العربي المعاصر، بقدر ما نسعى لتبيّن أشكاله المستحدثة ما بعد الثورة، وخاصّة الانبطاح العربي الجديد أمام المحتل الإيراني. والذي ابتدأه نظام الأسد الأب، دافعاً إليه شقّه البعثي، ونخب استترت بشعارات قومية وبقضية تمّ التخلي الطوعي عنها، وهي نخب وإن كانت اعترضت على التطبيع مع إسرائيل بشكله المنفرد، فإن اعتراضها قائم في الأساس على عدم اكتسابها منافع مباشرة، بل وإقصائها من تلك المنافع، لصالح تطبيع من الباطن، ظهرت كثير من تجلياته عقب الثورات العربية، وإن كان ما زال التاريخ قيد الكشف.

دفعت هذه الأنظمة والنخب، بعد إدماج إسرائيل في عديد من السياسات العربية الرسمية، إلى إدماج عدو آخر لا يقل خطورة عن العدو الإسرائيلي، إن لم يكن أكثر عنفاً وحقداً، مستخدمة بروبوغاندا القضية الفلسطينية في حشد جماهير تم تجهيلها لنصف قرن، بل وإيهامها بأنها نخب ترتقي على عامة الناس. هي جماهير تفتقد فيما تفتقد، إلى هوية ذاتية وقومية، وتبحث عن وهم قوة تستر به ضعفها وهوانها، وتستقوي به على الرفض المجتمعي المتَّسِع لنهجها الانبطاحي.

وإن كانت الأنظمة العربية التي طبّعت وتنازلت لإسرائيل وإيران تسعى للحفاظ على تسلّطها وطغيانها عبر الإسناد الخارجي، إلا أنّ النخب التي تروج لتلك المشاريع، هي ذاتها نخب تمّ إفسادها سلطوياً وربطها مصلحياً بالأنظمة السياسية، وسقوط النظام يُنهِي نخبويتها وتسلّطها هي الأخرى على المجتمع، ويقضي على مكتسباتها ومصالحها، ولنا في ذلك الكثير من الأمثلة.

غير أنّ المستغرب أن تتصدّر نخب رفضت كل الاعتداءات على الهوية القومية العربية، ودعت إلى حمايتها داخلياً، إلى طرح بدائل تطبيعية مع إيران، بعد أن بلغت قواتها أربعة عواصم عربية، وتشتغل في أخرى، وتتطلّع إلى ما بقي من بلاد العرب. هذه النخب التي كادت أن تصنف ضمن التيار القومي الجديد، القائم على أنقاض الناصرية والبعثية العبثية. وخصوصاً عقب الثورات العربية، التي كانوا من روادها ونخبها.

لتطرح هذه النخب مشروعاً تحت شعار “الحوار مع إيران”، بكل ما تحمله مفردة الحوار من معانٍ إيجابية تنزع عن إيران همجيّتها التاريخية، وتحوّل الصراع معها، إلى إشكال سياسي-ديني-فقهي، يتغاضى عن مئات آلاف العرب الذين قتلتهم إيران منذ عام 1980، بل ومنذ عام 1925 مع احتلالها للأحواز العربية، وعن دمار دول بأسرها لتحقيق مشروع “الحوار”.

الحوار المقصود في هذا المشروع، بإيجابية المفردة، يعني لدى النخب التي تطرحه، الإقرار “الواقعي” بالمصالح الإيرانية في كافة إقليم المشرق العربي (العراق، سورية، لبنان، فلسطين)، امتداداً إلى اليمن والبحرين والكويت وعمان، وتغلغلاً في الدول العربية شمال إفريقيا. من منطلق عدم قدرة العرب –وتحديداً ما تبقى من أنظمة عربية- على مواجهة المشروع الفارسي والتصدي له، فكيف بإسقاطه، وهي ذات الحجة التي ابتدأها السادات مع إسرائيل.

وربّما تتعمّد هذه النخب أن تشوّه الرأي العام العربي عن مجريات الحدث السياسي، من خلال تغافلها عن حجم الخسائر التي ما زالت تُمنَى بها إيران من جهة، وعن حجم المقاومات الشعبية التي تتّسع في المدن العربية المحتلة. وكأنّ المطلوب اليوم –وفقاً لهذه النخب ومشروعها-، القبول بالاحتلالات الإيرانية، وإنهاء كل أشكال التصدي لها، بل ولربما التحالف معها لمواجهة المشروع الإسرائيلي، وكأنّ فرقاً بين المشروعين قائم، وكأنّ “واقعيتهم” قائمة على المقارنة بين قوى المحتلين، والتفضيل فيما بينها.

ربّما يبقى هذا المشروع مشروع أنظمة عربية استهلكت حجمها وقدراتها في التحكّم بمسار الحدث العربي، وفقدت قيمتها السياسية المكتسبة والطارئة، لتبحث عبر مخرج التطبيع والانبطاح لإيران، عن مدخل تسلطي جديد. ولعلّ أبرز النخب التي تقوم على هذا المشروع:

  • النخب البعثية والناصرية المتهالكة التي ما عادت تملك مكانة مجتمعية.
  • مجاميع الشبيحة والطائفيين السلطويين “المثقفين”، والذين باتوا في أمس الحاجة إلى إسناد خارجي يحمي استمرارية وجودهم ومصالحهم.
  • نخب تمت أدلجتها، وتسير في هذا المشروع دون وعي، تحت تهديد الإسلاموفبيا المنبثق عن الثورات.
  • نخب ارتبطت مصلحياً بأنظمة تدفع باتجاه التطبيع مع إيران. وهي غالباً منزعجة من الأدوار العربية الجديدة المخالفة لها أيديولوجياً.
  • قوى الإسلام السياسي المرتبط مصلحياً أو تحالفياً أو منهجياً بإيران.
  • جماعات فقدت قدرتها على انتظار تحقيق إنجاز يكون لها فيه مكانة، وتبحث في المخرج الإيراني عن بديل ذلك.

ولعل أبرز أدوات هذه المجموعات:

  • التركيز على قضية الخلاف المذهبي بين العرب وإيران (سنة/شيعة)، عوضاً عن الصراع السياسي والتاريخي.
  • ربط حالات التطرف القائمة في الدول العربية بالإسلام السني، في ترويج للنمط الشيعي (الإيراني الثيوقراطي).
  • الترويج للقوة العسكرية الإيرانية، التي لا تتجاوز حدود الوهم الإعلامي.
  • استخدام مصطلحات ما عادت قائمة في التصريحات الإيرانية ذاتها، كالعداء للولايات المتحدة وحرق إسرائيل وسواها.
  • ترسيخ حالة اليأس في المجتمعات العربية من المسار الثوري، والدفع بالمجتمعات إلى التصالح مع أنظمتها الطغيانية ومع المحتل الإيراني.
  • توظيف مداخلها الفكرية والثقافية وحواضنها المجتمعية في توسيع القبول بطروحاتها.

لم تشهد أمة معاصرة هذا الكم من النخب التي تدفع إلى وضع بلادها تحت سيطرة قوى احتلالية، ولعل المشروع المستحدث في “الحوار مع إيران”، هو فاضحة جديدة لنخب تتساقط منذ اندلاع الثورات العربية.

عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق