خيارات أوباما في محاربة داعش

تشتغل الولايات المتحدة في هذه الفترة على إنشاء تحالف دولي من جديد، يضم ذات الحلفاء التقليديين لمحاربة تنظيم داعش، عقب استصدار قرار مجلس الأمن 2170 تحت الفصل السابع، الذي يتيح استخدام القوة العسكرية في مواجهة تنظيم داعش وجبهة النصرة في سورية والعراق.

ليست المعطيات الإقليمية والدولية هي ذاتها إبان عام 2001، عقب أحداث سبتمبر/أيلول، لكن التحضيرات السياسية اللاحقة تكاد تتشابه فيما بينها. فمنذ اندلاع الثورات العربية، وعزف الإدارة الأمريكية عن دعم عمليات الانتقال الديمقراطية وترسيخها في عدد من الدول العربية، والتغاضي عن جملة الجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد تحديداً، مترافقة بتمدد استعماري إيراني، أنتج بالتالي حالة سيولة عسكرية في شرق المتوسط بأسره، ممتدة إلى محيطه العربي والإقليمي.

فمع توسع جرائم الأسد، واستقدامه للميليشيات الطائفية من لبنان والعراق وإيران، أنتج ذلك فعلاً مضاداً، عبر اندفاع آلاف المجاهدين الأجانب إلى الداخل السوري، في عملية بدأت كانتصار للشعب المقهور، قبل أن يتحول هؤلاء “المهاجرون”، إلى تنظيمات متطرفة تستخدم الإرهاب سبيلاً لتعزيز وجودها، وليتم توظيفها ضمن أدوات قمع المجتمع السوري والعراقي، في حرب إبادة واسعة أخرى.

تنظيم داعش، أو الدولة الإسلامية في العراق والشام، أحد المفرزات الفكرية والتنظيمية للقاعدة، التي كانت قد مُنِيت بخسائر كبيرة خلال العقد الماضي، وانخفض نشاطها إلى أدنى حدوده إبان اندلاع الثورات العربية، فيما وجدت في المسألة السورية منقذاً لها من جديد. وكانت الإدارة الدولية للملف السوري بمثابة إعادة إحياء أو استدعاء لهذا التنظيم من كافة بقاع العالم، وحصره في سورية والعراق، بغية التحضير لعمليات تصفية جديدة له، وربما نهائية، وخاصة بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وتشتت الزعامات داخله.

عام واحد يفصل بين حدثين إرهابيين عالميين، ففيما تغاضت الولايات المتحدة عن الهجوم الكيماوي الإرهابي لنظام الأسد على غوطتي دمشق صيف 2013، مقابل صفقة الكيماوي، التي أعلنت عن انتهاء برنامجها منذ أيام، حيث لم تتجاوز الولايات المتحدة حدود التهديد باستخدام القوة، فيما سارعت روسيا إلى طرح بدائل أدت إلى تلك الصفقة، حفاظاً على نظام الأسد. تسارع اليوم إدارة أوباما الخطى لإنشاء تحالف دولي للقضاء على تنظيم داعش عقب تمدده في العراق وسورية عبر جملة عمليات إرهابية في كليهما.

وفيما تتوالى الضربات الجوية الأمريكية على داعش، فإن سياسة أوباما تبقى عالقة بين خيارين فرضتهما على ذاتها، فإمّا الحفاظ على الوعود الانتخابية بتخفيض حالة العسكرة الأمريكية للنشاط الخارجي إلى أدنى حدوده، وبالتالي فقدان مناطق نفوذ وهيمنة دولية رسختها خلال عقود، وإما العودة إلى منطق القوة الذي عهده العالم عنها، من خلال عملية عسكرية أخرى، وخاصة أنّ لكل رئيس أمريكي حربه الخاصة به.

وإن كان أوباما يحضر لهذه الحرب، فإن مقدماتها الإعلامية والسياسية باتت جاهزة، مع إيجاد حدث يستقطب الرأي العام الأمريكي، وهو تصوير ذبح الصحفي الأمريكي على يد داعش بطريقة هوليودية، والزخم الإعلامي الذي رافقه، حتى بات أشبه بقضية السلاح الكيماوي العراقي عام 2003، والتشريع القانوني الدولي من خلال قرار مجلس الأمن، عدا عمّا يطلقه التنظيم ذاته من تصريحات متسارعة يهدّد فيها العمق الأمريكي والأوربي ومواطني هذه الدول.

إن القضاء على هذا التنظيم يبقى هدفاً لكافة الجهات الإقليمية والدولية، لكن القضاء عليه يتطلب أكثر من حملات جوية، إلى حملات برية موسعة تطال العراق وسورية معاً، في عملية أشبه باحتلال أمريكي جديد. دون أن يعني ذلك حملة موسعة تمتد لسنوات طويلة، بل ربما تكون حملة عسكرية برية خاطفة، لإعادة ترتيب أوراق المنطقة بما يضمن المصالح الأمريكية، كحلّ توافقي بين الخيارات التي يواجهها أوباما.

فقد حذّرت وزارة الدفاع الأميركية من خطر تنظيم داعش، معتبرة أنّ القيام بعمليات في سورية قد يكون ضرورياً، بعد أن كبحت الضربات الجوية في الأسابيع الأخيرة تقدم المجموعة المسلحة الناشطة في العراق، وهو الأمر الذي يتقاطع مع ما كان البيت الأبيض أعلنه، أنه قد يكون من الضروري القيام بضربات جوية في سورية.

ووفقاً لمساعد مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي بن رودس “إذا رأينا مؤامرة ضد الأميركيين، وتهديداً للولايات المتحدة من أي جهة كانت فإننا مستعدون لاتخاذ تدابير ضد هذا التهديد”، مضيفاً “كررنا ذلك مرات عدة: إذا هاجمتم أميركيين فسنطاردكم أينما وجدتم، وهذا ما سيقود تخطيطنا في الأيام المقبلة”. وقال بن رودس إنّ “قتل الصحفي جيمس فولي بهذه الطريقة الوحشية هو بمثابة هجوم مباشر علينا”. وأضاف “لا نستبعد احتمال شن غارات جوية في سورية إذا اقتضت الضرورة”.

ونقلت وكالة “رويترز” عن وزير الخارجية الهولندي فرانس تيمرمانز تأكيده في تصريح للصحفيين في لاهاي 22أغسطس/ آب أنّ: “كل من يدعو حالياً لاتخاذ مسار أكثر حزماً ضد الدولة الإسلامية في العراق يجب أن يدرك أنه سينجح فقط إذا كان مستعداً للقتال ضد هذا التنظيم في سورية أيضاً، مضيفاً: “إذا لم نفعل ذلك لن يكون لأي تحرك أية فائدة؛ لأنّ التنظيم سينتقل ببساطة إلى سورية. لن تدوم الحلول في العراق إذا لم نجد حلاً لسورية.”

فيما أكدّ الجنرال مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ووكالة الأمن القومي، أنّ قيام تنظيم داعش بشن هجوم على الولايات المتحدة والغرب مسألة وقت. وعند سؤاله حول إمكانية التعاون مع خصوم الولايات المتحدة بالمنطقة، بمن فيهم النظام السوري قال هايدن: “لا أعرف ما إذا كان هذا الأمر قد حصل، ولا يمكنني على الأرجح استبعاده بشكل كلي، المرء قد يعيد التفكير بذلك في المستقبل .. ما يمكنني قوله إنّه بمقدار ما قد يبدو الأمر مقنعاً ومفيداً حالياً لكنه على المستوى الاستراتيجي سيكون أمرا مدمراً جداً، وأنا ما كنت لأقدم على مثل هذا العمل”.

إذ يسعى كل من النظام الإيراني ونظام الأسد، لأن يكونا أطرافاً مشاركة بشكل مباشر وعلني في هذا التحالف، لضمان مصالحهما، واعتبارهما جزءاً من المنظومة السياسية للشرق الأوسط، ومنه يمكن المساومة على ملفات عالقة مقابل المساهمة العسكرية المباشرة في التحالف الدولي.

إذ نقلت وكالة أنباء “مهر” عن ظريف قوله: “إذا قبلنا بالاضطلاع بدور ما في العراق، فعلى الجانب الآخر تقديم شيء في المفاوضات (حول النووي)، فضلاً عن أن المطلوب منا (في بلاد الرافدين) غير واضح بعد، وكذلك المطلوب من مجموعة خمسة زائداً واحداً، وهنا تكمن الصعوبة”. وجدّد المطالبة برفع “كل العقوبات” الاقتصادية الدولية والأميركية والأوروبية.

فيما طالب وزير خارجية الأسد وليد المعلم، أن تكون الضربات داخل سورية بالتنسيق مع النظام. وقال في مؤتمر صحافي عقده في دمشق: “إن الضربات الجوية بمفردها لن تكون ملائمة للتعامل مع داعش التي سيطرت على مساحات كبيرة من سوريا والعراق”. في تأكيد منه على قبول التدخل البري للجيش الأمريكي داخل سورية. وقال المعلم “نحن جاهزون للتعاون والتنسيق مع الدول الإقليمية والمجتمع الدولي من أجل مكافحة الإرهاب”. وعما إذا كانت هذه الجاهزية تشمل التنسيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا، قال “أهلا وسهلا بالجميع”.

إن الجهد الدولي المقبل لمحاربة التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق، لن يثمر عن نتائج حقيقية، طالما لم تتبلور استراتيجية متكاملة بإقصاء نظام الأسد عن السلطة في سورية، وتحضير البدائل المقبولة مجتمعياً وإقليمياً له، وهو وإن كانت عدة قوى غريبة وعربية ترى فيه ضرورة حتمية لحماية السلم والأمن الدوليين، إلا أنّ مقدماته ما تزال بحاجة إلى كثير من العمل الدولي.

ولربما تكون هذه المهمة من المهام الأخيرة الموكلة لنظام الأسد دولياً، عقب تسليمه سلاحه الكيماوي، وتدمير غالبية البنية التحتية السورية، وتحضيرها مجتمعياً وسياسياً لتقبل خطوط تقسيم جغرافي، والقضاء على مقومات أي تهديد قد يشكلّه النظام المقبل في سورية لإسرائيل، لكن ذلك يبقى مرهوناً في الولايات المتحدة بعمليات المساومة التي تعقدها مع نظام طهران، وخاصة أنها استطاعت إقصاء المالكي بالتوافق معها، ليغدو احتمال إقصاء الأسد ممكناً بعد ذلك، في حال توفر بديل توافقي على نمط الحل العراقي.

في المقابل، لا يمتلك نظام الأسد ما يقدمه هذه المرة للقوى الغربية على غرار ما حصل من مساومات وتقارب في الفترة 2008-2010، فهو يفتقد السيطرة على كثير من الأراضي السورية، وبات جيشه أشبه بميليشيات متصارعة مفتتة ومنهكة، وسقطت من يده كافة الملفات الإقليمية التي كان لاعباً رئيساً فيها، وفي حالة شبه إفلاس اقتصادي، خاصة بعد وقوع معظم مناطق إنتاج النفط في يد تنظيم داعش.

ربما تملك إيران عدة معطيات تسمح لها بالمناورة والمساومة مع الولايات المتحدة حالياً، لكن نظام الأسد وبسعيه الحثيث إلى الانخراط في الجهد الدولي المقبل، راجياً محاولة تأهليه وقبوله من جديد، فإنه لم يعد يمتلك مكانة تؤهله لذلك، وتدرك إدارة أوباما أبعاد إشكالية تلك الملفات، بل والإشكاليات المترتبة على بقاء الأسد ذاته، لذا إن سعت إلى تجنيده في حربها المقبلة، فسيظل تجنيداً استنزافياً، يؤدي بالمحصلة إلى خلق كيان (أو كيانات) سورية سياسية جديدة.

وما يدفعنا إلى الاعتقاد بانتهاء الوظائف المنوطة بنظام الأسد على المستوى الدولية والإقليمي، ما يجري حالياً من ترتيبات هي الأخرى جديدة، ومنها توقيع اتفاق السلام الدائم بين حماس وإسرائيل، وإعادة تشكل محاور عربية برعاية خليجية والدفع نحو إيجاد صيغ توافقية للعلاقات الإقليمية الجديدة، والتوافق الأمريكي-الإيراني-الإقليمي على استبعاد المالكي عن السلطة في العراق لصالح مرشح توافقي، ويضاف إلى كل ذلك، ما يخفى من تقارب أمريكي-إيراني منذ قرابة عام، ضمن إطار مساومات إقليمية كبرى.

إلا أنّ الولايات المتحدة، والقوى المتحالفة معها، لن تقدم على كل هذه التغيرات، إن لم تكن قد حضرت بدائل سياسية، تضمن لها مصالحها من جهة، وتكون قادرة على بسط سيطرتها على كافة المواقع المضطربة من جهة ثانية، وقادرة على إحلال نمط من العلاقات السلمية مع كافة الأطراف الحلفاء ثالثاً.

وإن كانت الحرب على تنظيم داعش هي المقدمة الدولية لحل تلك الملفات، فإن تضخيم قوة داعش وتصويرها بهذه القوة “المنصورة بالرعب”، يؤكد حتمية المواجهة المقبلة، مع تنظيم لا يتعدى الآلاف، يفتقد إلى الفكر الاستراتيجي والدولتي التنظيمي، ولا يملك من السلاح إلا ما لا يحتاج إلى إدارة تقنية عالية. وعليه، يمكن استشراف آفاق تلك الحملة الدولية، بأنها حملة تطهيرية أكثر منها حرباً بين طرفين شبه متكافئين.

لكن الأسئلة التي تظل عالقة، كيف ستكون الخريطة الجيوسياسية لشرق المتوسط عقب تلك الحملة، لناحية الأكراد في شمال العراق، ولناحية الانقسام الداخلي السوري، وعلى مستوى لبنان؟

وما هو الدور الذي ستناله إيران ضمن تلك الترتيبات مستقبلاً؟

وما هو مصير الميليشيات الشيعية التي يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني، والتي لا تقل خطراً عن تنظيم داعش، وأبرزها حزب الله؟

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

الوسم : أمريكاداعش

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق