خطيئة النخب الأحوازية

نقل المعركة من ساحة الجماهير إلى حلقات النخب الضيقة كان الخطأ الأكبر الذي ساهمت به بشكل كبير النخب نفسها. وخلقت من الشعب أغلبية صامتة بعيدة كل البعد عما يدور حولها، رغم معرفة هذه النخب التامة لعدم استطاعتها بمفردها خوض مهمة مجابهة الاحتلال الصعبة.

النخب في الأحواز تتفنن في استخدام المفردات وأدوات الحوار الأخرى في الغرف المغلقة والمنعزلة ولا تجيد استخدام أدوات الصراع وفكره ومتطلباته. وقضية الأحواز مثلما حسمها التفوق في الصراع لصالح الاحتلال في بداية القرن العشرين سيحسمها أيضا التفوق في الصراع لصالح الشعب العربي الأحوازي إذا تفاعلت الجماهير مع حقوقها وتفعلت بالتالي طاقاتها، ولا تحسمها طاولة المفاوضات والحوارات مع النخب الفارسية التي لا تجيد السماع للآخرين دون ضغوط.

وتبعاً لهذا الخطأ الجسيم افتقدت القضية الأحوازية سلاحها الاستراتيجي أي الجماهير كما فقدت النخبة بدورها الاتجاه الصحيح. إذ تبدل دورها من منتج للوعي الجماهيري ومحرض لقواه إلى تجهيز النفس لحوار مرتقب مع العدو لا يوجد إلا في مخيلة النخب وأوهامها. مما لا شك فيه أن كل الشعوب بحاجة إلى نخب متعلمة وواعية ونحن أيضاً لسنا استثناء، لكن مشكلتنا أن النخب أخطأت في طريقها ولحد هذه اللحظة لا تريد العودة إلى المسار الصحيح، إذ كان من المفترض أن تقوم النخب بتوعية الجماهير وتفعيلها وألا تنشغل في تحضير نفسها لحوار موهوم متسلحة بمعلومات تاريخية مبعثرة لحقت الكثير منها أضرار التشويه والتزوير من قبل الاحتلال.

الاحتلال الفارسي وكأي احتلال آخر لن يجلس مع ضحيته على طاولة الحوار ليتنازل عما حصل عليه بقوة السلاح إذا لم يتعرض لهزة عنيفة لا يستطيع أحد فعلها إلا الجماهير إذا تفعَّل دورها وهذا ما أهملته النخب الأحوازية. أما الشعوب التي نراها الآن تتقدم في مشاريعها الوطنية وتحقق نتائج ملموسة مستغلة الظروف الدولية فهذه كانت تقاتل ولفترات طويلة واستطاعت تفعيل جماهيرها وقدمت عشرات الآلاف من التضحيات وهي الآن في فترة قطف الثمار.

لا يوجد في تاريخ الإنسانية من يحرّم حق الدفاع عن النفس والمال والأرض والعرض والأوطان والكرامة على أحد لأنه ليس متعلماً أو ليس مثقفاً. لكن هذا ما حدث ويحدث بالضبط في الأحواز حيث يتم التنظير ضد أي مشاركة وطنية أو فعل مقاوم ورافض للاحتلال إذا كان فاعله مواطناً عادياً لا يحمل شهادة، وفي الكثير من الأحيان حدث وأنْ تمت السخرية منه أو تسخيفه أو حتى التنظير ضده.

كي نقرب الصورة أكثر نطرح السؤال التالي: ما هو العدد السنوي لخريجي الجامعات من الأحوازيين؟ بالتأكيد عشرات المئات سنوياً. ماذا فعل هؤلاء الخريجون؟ هل استطاع أحدهم أن يقدم دراسة علمية واحدة لصالح شعبه وفي أي مجال؟ بالطبع لم يحدث على أقل تقدير حتى هذه اللحظة إلا بعض المحاولات الخجولة في مجال الشعر والأدب!

إذن آلاف المثقفين والخريجين، لكن المنتج الفكري والثقافي والعلمي شبه معدوم. نعم قوة القمع التي يمارسها الاحتلال قد تكون سبباً في ضعف المنتج الفكري والثقافي والعلمي الوطني. لكن أن يختفي المنتج تماما هذا أمر مؤسف لم يشهده أي شعب من شعوب العالم. ثم إذا كانت الظروف الموضوعية من مادة وأدوات بحث علمي وحرية تعبير وغيرها لا تسعف النخب الأحوازية بسبب وجود الاحتلال، لا يستطيع أحد فهم أين ذهبت المشاعر الإنسانية التي تحتم على الجميع بما فيهم النخب اتخاذ القرار في إعلان الموقف لصالح الشعب عندما تشتد عليه الأمور وتكثر الانتهاكات، خاصة بعد أن تمادى الاحتلال الفارسي كثيرا في ظلمه للشعب العربي الأحوازي إلى درجة بات يخفي جثامين الشهداء الذين يعدمهم زورا وباطلا ودون محاكمات شرعية وقانونية؛ كي لا يتسنى لذويهم زيارتهم. ناهيك عن قطع المياه وتدمير البيئة واستهداف الآثار التاريخية المرتبطة بالهوية الوطنية الأحوازية.

الحقيقة، إن النخب الأحوازية تتحمل المسؤولية الكبرى في عدم سير الأمور في اتجاهها الصحيح وما عليها الآن إلا الرجوع إلى طريق الصواب عبر تفعيل الجماهير وجعل المعركة معركة الجميع، من فلاح وعامل وعاطل عن العمل إلى أصحاب أعلى الدرجات العلمية والوظيفية، فالمواطنة ليست درجات. والإنسان يولد ومعه تولد كرامته الإنسانية. ومع العلم والثقافة لا تزيد ولا تنقص هذه الكرامة. والحقوق العامة لا تمييز فيها بين الإنسان الأميّ غير المتعلم مع المتعلم صاحب الشهادة العليا.

المؤسف أن النخب الأحوازية مارست التمييزبدراية أو دونها في النضال إلى درجة كبيرة. مارست التمييز ضد المواطن العادي الذي لم يتسن له الدراسة بسبب ظروفه المعيشية التي فرضها عليه الاحتلال. وباعتبار أن النخب مهما كثرت عددا تبقى هي الأقلية، إذن فعلها يعتبر تمييزا من قبل الأقلية ضد الأكثرية. أما اليوم ما على النخب الواعية إلا إعادة الأمور إلى طبيعتها من خلال نقل وعيها إلى الجماهير وبأي طريقة وتحريضه على المطالبة بحقوقه المغتصبة وعدم السكوت عنها وانتشاله من حالة الصمت والاتكالية إلى حالة التفاعل والنشاط.

موسى مهدي الفاخر

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق