خريطة الطريق الإيرانية الجديدة حول ملفها النووي

فكرة رئيسية تترافق مع كل بدء جولة مفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني حتى بتنا نستطيع تحديد أطوارها طوراً طوراً، تبدأ المفاوضات عادة بروح إيجابية تنعكس في خطابات المسؤولين في الدول المعنية بهذا البرنامج من قبيل: “هناك اتفاق مبادئ وأن المحادثات بناءة”، ثم تبدا التفاصيل بالخروج إلى السطح ويبدأ التشكيك بنوايا إيران التي تأخذهم إلى تفاصيل فنية تكسب إيران المزيد من الوقت لتنتهي الجولات المضنية على اتفاق أو تفاهمات أطر لنبدأ من جديد في تحديد الإجراءات وكيفية تطبيقها لتدشن مرحلة من التسويفات والتأجيلات لتنتهي بتقرير لا يرضي أي من الدول الأعضاء والذي أحياناً يشير إلى تعاون إيراني في مجال ونقضها لتعهداتها في مجالات كثيرة.

غالباً ماتنتهي هذه الأطوار بحزم من العقوبات التي تراكمت على الجمهورية الإيرانية مرهقة إقتصادها وبنيتها التحتية ومرافقها الخدمية، وفيما يلي استعراض لتاريخ هذه المفاوضات والأسباب الحقيقية في تلك القدرة على تجنب المواجهة في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني وحقيقة القدرات الدبلوماسية الأسطورية التي تنبني ببساطة باللعب على التناقضات بين الدول المعنية ورغباتها في مقاربة حل الملف النووي الإيراني.

 

الملف النووي الإيراني كأزمة عالمية:

لقد بدا جلياً أن الأزمة بين إيران والمجتمع الدولي، والمتعلقة بطموحات إيران النووية، آتية لا محالة منذ العام 2002. حيث أكدت إدارة الرئيس بوش آنذاك أن إيران تسعى لامتلاك قدرات عسكرية نووية، وأنها لم تفِ بالتزاماتها التي تفرضها معاهدة العام 1968 الخاصة بالحظر النووي. وصرح الرئيس بوش، في 18 حزيران من العام 2003، بأن الولايات المتحدة لن تسمح بامتلاك إيران للسلاح النووي. وعملت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت، من خلال حلفائها، على استخدام الوسائل الدبلوماسية، مدعومة بتهديدات بفرض عقوبات دولية، في محاولة لإقناع إيران بكبح برنامجها النووي. ولم تقم الإدارة الأمريكية، في حينه بتوجيه تهديدات مفتوحة تنذر باتخاذ إجراءات عسكرية ضد برنامج إيران النووي، أو ضد أهداف أخرى.

ثم بدأت ملامح الأزمة بشأن برنامج إيران النووي تلوح في الأفق في كانون الأول من العام 2002، عندما أقرت إيران، بأنها كانت تبني موقعين نوويين إضافيين، في “أراك” و”ناتانز”، يمكن استخدامهما لصنع مادة قابلة للانشطار، قابلة بدورها للاستعمال في إنتاج الأسلحة النووية. وصعّدت إيران المخاوف الدولية في العام 2003، بسبب إحجامها عن توقيع البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الأسلحة النووية، الذي يسمح بتحسين عمليات التفتيش. لتعود إلى توقيعه في 18/كانون الأول 2003.

وفي هذا بذل وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا طوال العام 2003 جهوداً دبلوماسية مع إيران، بموافقة أمريكية.، وفي 21 تشرين الأول 2003، أصدرت الدول الثلاث وإيران تصريحاً مشتركاً، تعهدت فيه إيران بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية مقابل وعود بالسماح مستقبلاً بتصدير التقنية النووية السلمية إليها.

وعلى الرغم من غموضها، بدت الاتفاقية ناجحة. فبعد يوم من توقيع الاتفاقية، قامت إيران بتسليم الوكالة الدولية للطاقة الذرية ملفاً قالت إنه مفصل ويتناول كل أنشطتها النووية، مع ملاحظة تحفظ تيار المحافظين الإيرانيين الذين اعتبر البعض منهم ذلك استسلاماً، ثم ما لبثت الاتفاقية أن بدأت تتدهور بسرعة، بعد أن اتضح أن المجتمع الدولي سيواظب على تفتيش صارم على برنامج إيران النووي. وذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريريها الصادرين في 10 تشرين الثاني من العام 2003، وفي 24 شباط من العام 2004 ، أن إيران ارتكبت انتهاكات لتعهداتها، وأنها أخفت عمليات تخصيب اليورانيوم لفترة تزيد على 18 سنة، و أن إيران لم تفصح عن التصميمات التي وجدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أراضيها في أوائل العام 2004، وهي تصميمات لآلات طرد مركزي تستخدم في عمليات تخصيب اليورانيوم المتقدمة، وهي أجزاء صنعتها إيران بنفسها.

وفي تموز 2004، كسرت إيران أختام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، المركبة على بعض من آلاتها الطاردة النووية، و أعلنت أنها ستستأنف العمل في معدات الطرد المركزي، إلا أن إيران امتنعت عن إطلاق أي تهديد بشأن تخصيب اليورانيوم. مما أدى إلى إنهيار إتفاقية تشرين الأول 2003.

بعد ذلك عادت الدول الأوروبية الثلاث في جهود دبلوماسية جديدة مع إيران بغية الوصول إلى تسوية دائمة أو “صفقة كبرى”، تلبي إيران من خلالها المطالب الدولية لكبح برنامجها النووي جوهرياً (وقف تخصيب اليورانيوم)، مقابل وقف التهديد بفرض العقوبات، والدخول بمفاوضات دبلوماسية واسعة مع إيران (استئناف المحادثات بشأن اتفاقية التجارة الأوروبية – الإيرانية، ودعم قبول إيران في منظمة التجارة العالمية، والمساعدة في مكافحة المخدرات) ، وتقديم المساعدة للجوانب السلمية في برنامج إيران النووي (مفاعل الماء الثقيل، والوقود النووي)، والتخفيف ما أمكن من وطأة بعض العقوبات الأمريكية.

عرضت الدول الأوربية هذه المقاربة على إيران ابتداءاً من أواخر شهر تشرين الأول، لكن الاتفاق كان بعيداً بشأن فترة ومدى تعليق إيران لتخصيب اليورانيوم. ومع ذلك بدا أن إيران تلبي معظم المطالب الأوروبية من خلال موافقتها على تعليق فوري لتخصيب اليورانيوم (ابتداء من 22 تشرين الثاني)، على نحو يمكن إثبات صحته، والإبقاء على الوضع الحالي إلى أن يتم إبرام اتفاقية دائمة. وعليه أنهت إيران العمل على تخصيب اليورانيوم في نهاية المهلة المحددة بتاريخ 22 تشرين الثاني، لكن الاتفاقية أخذت تبدو مهتزة في أعقاب محاولة إيران إعادة التفاوض بشأنها، بغية السماح لها ببعض الاستعمال لمعدات الطرد المركزي.

 

المناخات الصعبة:

ترينا تلك المفاوضات مناخاً صعباً لا يتوافق ولا يستقيم مع الخيارات الإستراتيجية الأمريكية منها والإيرانية أيضاً التي استطاعت أن تناور بمهارة دبلوماسية عالية. لنتسائل بعد ذلك عن دينامية هذه المفاوضات في إطار وضع سيناريو تفاوضي لحل الأزمة النووية الإيرانية. وما هو دور الوسيط الأوروبي الذي نلاحظ بأنه يبذل جهوداً حثيثة لاحتواء الأزمة وعدم انجرارها وراء التباينات الحادة للخيارات الأمريكية والإيرانية، وما هو الدافع الحقيقي من لعب هذا الدور؟ وما الإصرار الذي نلمحه من خلال المفاوضات، وعجز الولايات المتحدة عن إقناع حلفائها الأوروبيين بتحويل الملف النووي الإيراني إلى الأمم المتحدة خصوصاً في عهد الإدارة الأمريكية الجمهورية والتعامل معه من خلال قرارات مجلس الأمن.

للإجابة عن هذا التساؤل يكفي أن نلقي بالضوء قليلاً على طبيعة العلاقات الإيرانية الأوروبية أصلاً، والتي ترينا أن المهارة الدبلوماسية الإيرانية نابعة من اللعب على التناقضات القائمة بين الولايات المتحدة وحلفائها التي تثيرهم فتنة الموارد الطبيعية الإيرانية.

ففي الوقت الذي تصعد فيه واشنطن من ضغوطها على إيران تضطر إلى ممارسة ضغوط أخرى على حلفائها لوقف التجارة غير الضرورية والاستثمار مع طهران التي تقدم كميات هائلة من النفط والغاز التي لا غنى عنها لاستمرار اقتصاديات تلك الدول، مما يوحي بخلاف ما بين واشنطن والدول الأوروبية نتيجة ذلك.

ورغم أن التقارير المالية لشركات النفط الأوروبية العملاقة لا تقدم عادة الناتج الإجمالي الكلي بكشف تفاصيل عن الأقاليم الخاصة التي تعمل بها، إلا أن نظرة سريعة تكشف أن حكومات تلك الشركات تستفيد من تلك الفوائد لكسب أسواق جديدة. فشركة شل الهولندية مثلاً التي لها حصة كبيرة في إيران بلغت عائداتها 12.3 مليار دولار في الربع الأول من العام 2006، مما قدم لجباة الضرائب مبلغ 5.3 مليار دولار منها.

يُفسر ذلك تلك الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية نووية مع طهران، إمعاناً منها في عدم تفجر الأزمة النووية وتصاعدها إلى الحد الذي لا تقبل فيه واشنطن أي تعاطٍ اقتصادي مع طهران في إطار عقوبات موسعة قد تفرضها عليها، وبالتالي فإن المناخ الدبلوماسي يعتمد على مفاضلات بين الحلفاء أكثر منه مهارة دبلوماسية كما يروج في الأوساط الإعلامية، ليبقى الرهان الإيراني اللعب على تلك التناقضات بين واشنطن والدول الأوروبية.

 

مقدمة العودة إلى المناخات الصعبة:

اليوم تطرح إيران على المجتمع الدولي وعلى الدول المعنية بملفها النووي، خطة أضفت عليها صفة السرية تتيح تحقيق اختراق لتسوية هذا الملف، ويجري الوفد الإيراني برئاسة عباس عراقجي نائب وزير الخارجية الإيراني محادثات مع وفد الدول الست G+1 برئاسة وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون في جنيف. معتبراَ أن الاقتراحات التي تقدمها إيران واقعية ومتوازنة ومنطقية جداً، وردّ الفعل الأولي (للدول الست) جيد.

تماماً كما كل الجولات منذ عام 2002 تبدأ بتصريحات عن الأجواء إيجابية حيث ذكر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بالحرف “أن الأجواء إيجابية وأنهم جديّون ولا يتواجدون في جنيف بصفة رمزية أو إضاعة الوقت ولم يعودوا يرويدون السير في ظلام وغموض، وشكوك حول المستقبل”. وشاطره هذه النظرة الإيجابية مايكل مان الناطق باسم كاثرين آشتون واصفاً الخطة الإيرانية بأنها مفيدة جداً. رغم الشكوك التي أبداها حيال عزم إيران على تنفيذها.

لكن سرعان ما نفى الإيرانيون معلومات عن تضمّن الخطة موافقة طهران على تطبيق البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الانتشار النووي، والذي يتيح عمليات تفتيش مفاجئة للمنشآت النووية. وشددوا على أن أي اتفاق نهائي يجب أن يلغي كل العقوبات على إيران، ويتيح لها مواصلة تخصيب اليورانيوم. ما يفتح الأبواب سريعاً على الاحتمالات التسويفية التي يعتزم الإيرانيون اللعب عليها مستغلين رغبة الغرب وبالأخص الولايات المتحدة الامريكية بإدارة الرئيس باراك أوباما في إعطاء الفرصة للمفاوضات حتى وفق خارطة الطريق الإيرانية.

تتضمن خارطة الطريق الإيرانية الجديدة وفق ما شرحها نائب وزير الخارجية الإيراني بثلاث خطوات عريضة:

  • حق إيران في تطوير وتحقيق وإنتاج واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية.
  • الاستفادة من خبرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتعاون الدولي لتنفيذ حقوق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية.
  • الإلغاء التام لكل العقوبات الأحادية والمتعددة الجوانب.

مشيراً إلى (مواصفات الخطوة الأخيرة للخطة)، التي أجملها بالاستفادة من فتوى قائد الثورة (المرشد علي خامنئي) باعتبارها أهم آلية لبناء الثقة، ومواصلة التخصيب في إيران واستخدام منشآتها النووية، ومن بينها مفاعلات البحث والتعاون النووي السلمي بين الجانبين، وإبداء الشفافية وإشراف الوكالة الذرية و الإلغاء الكامل لكل العقوبات، بالإضافة إلى تحديد جدول زمني لتنفيذ هذه التدابير.

لكن كل هذا لا يؤذن بسلاسة المفاوضات القادمة ولدى إيران ما يكفي من المعطيات لكي تناور بها معيدة النتائج إلى نقطة متاخرة تكسب بها الوقت وتحاول الحكومة الإيرانية تقديم نفسها من خلال حملة علاقات عامة ودعائية جاعلة الكرة في ملعب الغرب.

لكن هذه المرة المطلوب من إيران أن تثبت بسرعة أن لا طابعاً عسكرياً لبرنامجها النووي. والاكتفاء بحق إيران في التخصيب واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية فقط، حيث أن التحرك الإيراني الجديد يأتي فيما هناك قرارات دولية تطالب إيران بوقف التخصيب، أولاً وقبل كل شيء.

وصلت إيران وبالاستفادة من المماطلة خلال العقد الماضي إلى نسب تخصيب بنسبة 20 في المئة وهي كافية لتشغيل المفاعلات البحثية والسلمية ولا تحتاج دولة إلى التخصيب فوق هذه النسبة لأغراض سلمية. لذا إذا توصلت المفاوضات إلى اتفاق يثبت الطابع السلمي لبرنامج ايران، سيتوجب عليها، مثل أي بلد آخر يخضع لمعاهدة حظر الأسلحة النووية، وقف التخصيب بنسبة 20 في المئة.

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

الوسم : إيران

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق