حزب الله واستدراج الجيش اللبناني إلى عرسال

لا يمتلك لبنان جيشاً قوياً ينفرد بضبط الصراعات الداخلية وحماية الأراضي اللبنانية خارجياً، نتيجة اجتماع عدة عوامل منها الطبيعة الديموغرافية والجغرافية من جهة، ونتيجة الإنهاكات التي طالت البنية الدولتية في لبنان إثر الحرب الأهلية، والتي انعكست وما تزال على دور الجيش في الحياة السياسية اللبنانية، ويتشكل الدور السياسي للجيش اللبناني من عملية توافق القوى السياسية – الدينية الرئيسة على ذلك، ومنحهم له أدواراً تتفق مع الأجندات السياسية للقوى المهيمنة على الداخل اللبناني.

عملية التوافق تلك، أدت في المحصلة إلى فعل إيجابي على مستوى الجيش ولبنان، من خلال بقاء الجيش طرفاً محايداً في الصراعات الداخلية، وعدم انحيازه إلى طرف دون آخر، وسمحت بالتالي إلى استقدام رؤساء توافقيين للجمهورية، في حالات تعثر التوافق على رئيس مدني، لكنها في المقابل أدت إلى تهميش الدور الرئيس للجيش، أي الدور العسكري، وتحويله في كثير من الحالات إلى قوات حفظ أمن ونظام لا أكثر، وهي من مهام الشرطة في الدول الأخرى.

ومن معضلات الاستقلال العسكري والانفراد الوظيفي للجيش اللبناني، هو وجود قوات مسلحة خارج إطار السلطة السياسية، متمثلة في عدة ميليشيات مورثة عن الحرب الأهلية، ولعل أبرزها وأكثرها تسليحاً، ميليشيات حزب الله الإيرانية، التي تمت صناعتها منذ ثمانينيات القرن الماضي، لتكون ذراعاً تدخلياً إيرانياً في شرق المتوسط، تعمل على تصفية القوى السياسية والعسكرية المنافسة لها، وفق ما تمّ توظيفه من قبل إيران ونظام الأسد الأب والابن طيلة الأعوام الفائتة.

وإن كان وجود ميليشيات حزب الله في الجنوب اللبناني منتجاً طبيعياً للأوضاع التي كانت قائمة قبيل تحرير الجنوب اللبناني، وقبيل استعادة الدولة اللبنانية، إلا أن استمرارها عقب ذلك، ودون توافق لبناني، أدخل لبنان في دوامة من الصراعات الجديدة الداخلية والإقليمية، وأعاق إعادة بناء الجيش اللبناني وفق أطر عصرية تتناسب مع استعادة الأدوار الوظيفية للدولة اللبنانية.

وكنتيجة للعدوان الإسرائيلي عام 2006، حوّل حزب الله سلاحه إلى الداخل اللبناني، بعد استنفاذ أدواره على الحدود الجنوبية، في عملية إرهابية عام 2007، ترافقت مع عمليات الاغتيال الإرهابية لعدد من الرموز المناهضين له، ومن ثم فرض مسارات سياسية وعسكرية على لبنان، أدت إلى تغوّل حزب الله، وشبه انفراد له في إدارة غالبية الملفات الداخلية والخارجية.

من ذلك أتى جرّ لبنان إلى الساحة السورية، عبر إشراك ميليشياته في إسناد قوات الأسد في عملية إبادة الشعب السوري طيلة الأعوام الأربعة الماضية، دون أن يكون لأحد في لبنان القدرة على تطبيق مبدأ “النأي بالنفس” الذي اتخذته الحكومة شعاراً لها في مواجهة الحدث السوري، بل كان بمثابة تحضير كل لبنان إلى الانخراط في حرب إقليمية تتسع باستمرار.

وكمنعكس لهذا التدخل، شهدت قدرات حزب الله العسكرية واللوجستية وعلى مستوى الأفراد، استنزافاً يتواصل باستمرار، وخصوصاً مع توسيع الجبهات التي يشارك فيها الحزب سواء في سورية أو في العراق، أي تقليص قدرته العسكرية على فرض المنهج السياسي السابق داخل لبنان، وإفساح المجال أمام الجيش اللبناني لتحقيق بعض التوازن العسكري والعتادي مقابل هذه الميليشيات، ما يعني أدواراً جديدة ستنتج عن معادلات التوازن تلك، ستؤدي في المحصلة إلى تغيرات كبيرة في البينة السياسية اللبنانية لغير صالح الشيعة، وخاصة أن الجيش اللبناني يقوم على المسيحيين والمسلمين السنة، فيما ينخرط غالبية مقاتلي الشيعة في ميليشيات حزب الله.

إن ترافق السقوط السياسي لحزب الله عربياً وداخلياً، مع استنزاف عسكري، ربما يكون الدافع وراء استجلاب سند خارجي جديد، كان من المحتم عليه الامتداد إلى لبنان، وحيث أن لداعش وظائف إيرانية وأسدية، فإن بلوغها شرق لبنان يحمل وجهين معاً، الأول هو امتداد طبيعي للحرب الإقليمية لتشمل دولاً جديدة، سواء على يد داعش أو كعمليات عسكرية لقوات الجيش السوري الحر ضد مقاتلي حزب الله، وهو ثانياً، إشغال للجيش اللبناني واستنزاف لقدراته العسكرية، بغية استعادة التوازن مع ميليشيات حزب الله، وسلبه أية أدوار مستقلة، ودفعه جبراً إلى التخلي عن حياديته والانخراط في العمليات العسكرية التي ابتدأها حزب الله وعجز عن إتمامها وفق ما يسعى إليه.

كما يفرض ذلك على الزعماء السياسيين-الدينيين في لبنان، عملية توافقية يخطها حزب الله، تحت شعار “مكافحة الإرهاب”، في حين أنها لا تمثل سوى محاولة استعادة الدور السياسي لحزب الله، وفرض أجندات إيرانية في عملية أوسع من محاربة داعش في منطقة عرسال، وهو ما بدأ يظهر من خلال توافقات ما تزال محدودة بين أطراف لبنانية وحسن نصر الله، على إدارة الملفات السياسية، لكن مؤشرتها تدل على الاتساع قريباً.

في المقابل، فإن كان حزب الله قادراً على استقدام إرهاب داعش إلى لبنان، وعلى دفع الجيش اللبناني إلى عملية استنزاف غير مؤهل لها في الأصل؛ إلا أنه وعلى غرار عام 2006، غير قادر على ضبط النتائج، والتي قد تودي بلبنان إلى منزلق حروب داخلية أو دينية على غرار جوارها السوري والعراقي، فهو كما أثبتت التجربة “لا يعلم” نتائج مغامراته العسكرية، وغير قادر على إيقاف أية حرب يشعلها أو يساهم فيها في المنطقة.

في حين يتلقى أشد الانتقادات من حلفائه في غزة عقب نكوصه عن نصرتهم، وتكريس عملياته العسكرية ضد السوريين، ما يثبت التوظيف غير متكافئ المنافع بين إيران وحلفائها من غير الشيعة في المنطقة، وهو ما يعني كذلك أن الدفع الإيراني لإشعال قطاع غزة والمتاجرة بالدم الفلسطيني –كما هو معتاد- قد أدى وظائفه المناطة به إقليمياً ودولياً، ولا حاجة لإسناده خارجياً على غرار عام 2006.

وكنتيجة، لا يمكن التنبؤ بعملية سلمية حقيقية في كامل المشرق العربي قريباً، بل تدفع كل المعطيات إلى ترجيح توسع تلك العمليات، وإن هدأت في بعض المناطق، إلا أنها تتسع في أخرى، وبينهم عسكري أشد عنفاً، تجرّ مزيداً من الدول إلى أتونها، دون أن تبقى إيران محصنة من ارتداداها في المدى المتوسط.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق