حرب تموز كانت لإنقاذ النظام … ودولة الأقليات لن تعيش طويلاً … جاء الوحوش قتلوا الرجال والأطفال وأخذوا النساء للاغتصاب والبيع

ذهبت إلى بوابة براندنبورغ. تذكرت أنني وقفت هناك قبل 26 عاماً حين تداعى جدار برلين فاتحاً الباب لتشييع الاتحاد السوفياتي إلى مثواه الأخير. كانت التغييرات سريعة وهائلة، بدلت المشهد الدولي وموازين القوى، وأكدت هزيمة معسكر ونموذج. خاف كثيرون أن تغرق أوروبا تحت ثقل الوافدين إلى قيمها ونموذجها. لم يقع الاضطراب الكبير. تمكنت المؤسسات الديموقراطية من استيعاب التحولات. لا يمكن أن ننسى هنا الانفجار الدموي اليوغوسلافي الذي انتهى على قاعدة الطلاق بعد زواج قسري دام عقوداً. وبين اللاجئين أنفسهم من يشِبه سورية بيوغوسلافيا، على رغم الفوارق، وبينهم من ينعت بلاده بأنها «الرجل المريض».

المؤسسات. المؤسسات. المؤسسات.

ذهب العربي إلى هذا العالم المتبدل عارياً من المؤسسات. شعر بعض قادة الشرق الأوسط بحقد شديد على ميخائيل غورباتشوف لأنه فتح النافذة فدخلت العاصفة. شعر بعضهم نحوه بالاحتقار. توهموا أن أجهزة الأمن يمكن أن تلجم إلى الأبد توق الناس إلى الحرية والكرامة والازدهار والخبز غير المشروط بالانحناء. توهموا أن الشعارات الكبرى يمكن أن تحجب إلى الأبد ممارسات التسلط والفشل الاقتصادي والأرقام المزورة للخطط الخمسية ونتائج الانتخابات.

كم يبدو الحي الأوروبي من القرية الكونية بعيداً عن الحي العربي المنكوب فيها. ورث الحي الأوروبي ثمار ما عاشه. الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وأفكار عصر النهضة وفصل الكنيسة عن الدولة وازدهار الفلسفة الألمانية. ورث أيضاً دروس العيش في ظل المستبدين والمغامرين ودروس الحروب الكبرى وويلاتها.

حين تداعى الجدار كانت ألمانيا الغربية تعيش في عهدة رجل مديد القامة اسمه هلموت كول. خطف موافقة الخائفين من الوحدة وفتح صدر الشطر الغربي لألمانيا الشرقية التي ألقت نفسها في أحضان «الوطن الأم». يعيش الرجل الآن مع الشيخوخة ومتاعبها. هنا يأتي الحاكم ويذهب في انتخابات عامة أو اقتراع في البرلمان ومن دون أن تسبح بلاده في الدم. صاحب «الدور التاريخي» ينحني هو الآخر أمام الدستور ويذهب إلى مقاعد المعارضة أو التقاعد.

بعد ستة وعشرين عاماً على كول بوابة براندنبورغ أمام الهاربين من ألمانيا الشرقية فتحت المستشارة أنجيلا مركل بوابات الحدود أمام الهاربين من ظلم بلدانهم والظلام الزاحف إليها. هذه الخطوة تاريخية أيضاً. خلال سنوات سيتغير النسيج الألماني. الوافدون، في معظمهم، من ديانة أخرى وثقافات أخرى. هذا يعني أن ألمانيا وافقت على أن تكون متعددة وملونة، والأمر يتخطى موضوع توفير أيد عاملة شابة، على رغم أهميته. تصرفت ألمانيا كدولة ديموقراطية مزدهرة وواثقة ورحبة، على رغم مخاوف أجهزة الأمن من تسلل الإرهابيين في صفوف اللاجئين، وجاذبية «داعش» لدى بعض أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا.

مؤلم مشهد اللاجئين الذين كابدوا أهوال الطريق بعدما اجتذبهم المغناطيس الألماني. لكن بينهم من يتحدث عن لاجئين من فئة خمس نجوم قياساً بما يعيشه اللاجئون الذين تكدسوا في مخيمات تركيا ولبنان والأردن. هذا من دون أن ننسى أولئك الذين غادروا ولم يصلوا لأن القوارب خانتهم بعدما خانتهم أوطانهم. أمام بوابة براندنبورغ تذكرت جثة الصغير إيلان ملقاة على الشاطئ التركي. هزت صورته مشاعر العالم وفتحت الأبواب أمام اللاجئين. لنترك المقارنات المحزنة لنتابع جولتنا وسط اللاجئين في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة:

في ساحة مفوضية اللاجئين شاهدت شابين يحدقان بعيون زائغة. اقتربت منهما وسألت الأول عن سبب وجوده في هذا المكان. عاجلني برد غير ودي «ألم تتابع الأخبار؟». صباح عراقي إيزيدي من جبل سنجار. ما أصعب أن تكون عراقياً. وما أفظع أن تكون عراقياً من جبل سنجار. سألته أن يحكي لنا القصة فنظر إلى شقيقه حيدر كأنه يستغرب وجود من لا يعرف القصة. قال: «كنا نعيش في جبل سنجار. في المكان الذي عاش فيه أجدادنا وأجداد أجدادهم. فجأة وصل الوحوش (داعش). أحرقوا البيوت. قتلوا الرجال والأطفال وخطفوا النساء. ماذا تريدني أن أحكي لك؟ عن بيع الإيزيديات في المزاد أم عن تعرضهن للاغتصاب؟ قتل من قتل وهرب من هرب. لا يمكن العيش مع الوحوش».

قراءة معارض سوري

لم يأتِ المعارض السوري الخمسيني إلى ألمانيا ليهرم فيها. انه ينتظر. سيعود فور توافر بقعة «خارج بطش النظام وبطش التنظيمات المتطرفة». سيعود لاستئناف العمل ضد النظام الذي جرّب فظاعة سجونه. على رغم قسوة الوضع الحالي يحتفظ الرجل بتفاؤله. يقول: «النظام سقط في سورية منذ اللحظة التي هدم فيها السوريون جدار الخوف الذي شُيِّد على مدى عقود. أصيب النظام بالذعر حين رأى الشباب يتدفقون إلى الساحات. عاش النظام ثلاثة عقود مستفيداً من درس الترويع الذي قدّمه تدمير حماة، حيث قَتَلَ أربعين ألف شخص. كانت الرسالة واضحة. القتل هو مصير من يجرؤ على رفض النظام. بُنيت أجهزة الدولة والمؤسسات الأمنية على نتائج مجزرة حماة».

ويضيف: «حين رأى النظام مئات الآلاف يحتشدون في ساحة حماة نفسها أصيب بنوبة جنون. خاف من المشاهد المصرية، حيث نجحت الحشود السلمية في ميدان التحرير في خلع حسني مبارك. خوف النظام السوري مضاعف. الحشود في الميادين تذكّره بالحقيقة وهي أنه ممثّل لأقلية، وأن كل الانتخابات والاستفتاءات التي حاول استعارة الشرعية منها كانت مزورة. اتخذ النظام قراراً بعسكرة الثورة. بعض الأجهزة كانت تتعمّد رمي الأسلحة أمام الناس ليقول النظام لاحقاً أنه يقاتل مسلحين».

ويتابع: «النظام صاحب خبرة في تحريك الإسلاميين الإرهابيين. أرسلَ شاكر العبسي إلى نهر البارد في لبنان. أرسلهم إلى العراق بحجة مقاتلة الاحتلال الأميركي. نوري المالكي نفسه شكا من ممارسات الأسد في العراق، لكن إيران أرغمته لاحقاً على دعم النظام بالمال والميليشيات الطائفية. كان هدف النظام أسلمة الثورة وعسكرتها، ولا يمكن إنكار نجاحات حققها في هذا المجال».

ويزيد: «ما تراه اليوم في ألمانيا وأوروبا بفعل تدفُّق اللاجئين هو أول الثمن الباهظ الذي سيدفعه الغرب نتيجة امتناعه عن الضغط الجدي لإرغام الأسد على ترك السلطة. التذرُّع بهياكل الدولة السورية مجرّد وهم. لم يعد هناك دولة في سورية. دولة البعث ليست دولة أصلاً. إنها مجرد أجهزة لخدمة حزب وعائلة. لا الدستور دستور ولا القضاء قضاء. ارتكب باراك أوباما خطأ ستدفع أميركا ثمنه مضاعفاً. حصر اهتمامه باسترضاء إيران والتوصُّل إلى اتفاق معها. نجح الروس في خداعه حين وقع النظام في فخ استخدام الأسلحة الكيماوية. منذ تلك اللحظة تبين أن أوباما ليس مستعداً للتحرك جدياً لإزاحة بشار الأسد».

ويوضح: «الصورة سوداوية حالياً، لكن دعني أؤكد لك. لن يستطيع الأسد العودة إلى حكم سورية بكاملها. بقاؤه لسنوات يعني التمديد للحرب والإرهاب وزعزعة الاستقرار في المنطقة. الحديث عن «سورية المفيدة» يجب ألاّ يخدع أحداً. وجود الدويلة لن يدوم أكثر من بضع سنوات. لا التدخل الروسي ولا الدعم الإيراني يمكن أن يعيدا نظام الأسد إلى ما كان عليه. بقاء الأسد يمدد عمر «داعش» والتنظيمات المشابهة. ثم إن الحالمين بتغييرات ديموغرافية واهمون. لن ينتهي السنة في سورية. هل تعرف أن عدد السنة في الساحل حالياً يفوق عدد العلويين؟ ماذا سيفعل النظام بهم. ثم إن الذين يحاولون الآن الاستيطان في سورية وشراء العقارات سيسارعون إلى المغادرة فور تغير ميزان القوى».

ويقول: «تركيبة سورية لا تسمح أبداً بإلحاقها بإمبراطورية إيرانية. هذه دولة عربية. ساعدتني الأحداث، خصوصاً تدخل «حزب الله» في سورية، في فهم الأحداث السابقة. عندما وقعت «حرب تموز» في لبنان في 2006 كنت بين من عملوا بنشاط لإيواء النازحين اللبنانيين. مع تدخل «حزب الله» في سورية فهمنا أن تلك الحرب كانت تهدف فقط إلى خلط الأوراق وإنقاذ النظام السوري من ذيول انسحابه من لبنان، بفعل تداعيات اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. كان النظام المنسحب يشعر باقتراب الأزمة، وكاد لبنان نفسه يفلت من الطوق الإيراني فأخذه الحزب إلى الحرب وقلَبَ المعادلات. خسر «حزب الله» صورته ورصيده لدى السوريين والعرب. خسائره في سورية تفوق خسائره في «حرب تموز». لقد اصطدم بكتلة راسخة وكبيرة. أخشى أن يكون موقف إيران و»حزب الله» الآن تأييد تقسيم سورية للاحتفاظ بجزء من أراضيها قاعدة خلفية للحزب. أنا لا أبالغ إذا قلت أن الأقليات، على رغم وجود مخاوف محقة لديها، ترتكب مغامرة قاتلة إذا تجمعت في دولة أقليات. لن تقبل الأكثرية ذلك وستكون الحروب طويلة ومدمرة. لن تستطيع الأقليات وأنا منها احتمال استنزاف طويل من هذا النوع».

ويختم متفائلاً: «لا أعتقد بأن التدخل الروسي سيصل إلى حد الاشتباك البري مع مسلحي المعارضة. تعرف روسيا أن ذلك سيفسر كأنه حرب ضد السنة. سيتقاطر إلى سورية مزيد من المتطرفين. في النهاية هذا النظام سقط وستساهم روسيا في البحث عن بديل».

مصير الأقليات

الشاب السوري المسيحي جاء قبل الموجة الحالية. لا يريد نشر اسمه ولا صورته «لأن عائلتي تقيم في باب توما ذات الغالبية المسيحية ويمكن أن تتعرض لمضايقات بسبب كلامي».

قال: «لا أستطيع العيش في ظل «داعش» أو «النصرة» ولا أقبل دفع الجزية أو معاملتي كواحد من أهل الذمة. أنا سوري وعربي أصيل. لا يحق لمسلح وافد من الشيشان أو غيرها أن يبدل وضعي ويستضعفني في البلاد التي عاش فيها أجداد أجدادي. لا يمكن إنكار أن سوريين يتعاطفون مع المتطرفين لكن نسبتهم قليلة. السوريون ولدوا في بلد متعدد وتشربوا المبادئ القومية».

وأضاف: «في الوقت نفسه لا أرى مستقبلاً آمناً للأقليات المسيحية في هذا الجزء من العالم. أنظر إلى ما حدث في العراق. سقوط فكرة العروبة حرم الأقليات من آخر حماية لهم. مشكلة المسيحيين هنا أنهم لا يحبون العيش في ظل الديكتاتورية وإن وفرت لهم الحماية الجسدية. ما لا يعرفه كثيرون هو أن أعلى هجرة في صفوف المسيحيين السوريين سجلت في عهد حافظ الأسد. لم يضطهد الأقليات لكنه كان يريدها تحت جناحه في مواجهة الأكثرية. التحالف مع الشيعة في لبنان يأتي في هذا السياق. محاولة تطويع الموارنة في لبنان تصب في الاتجاه نفسه. المشكلة أن النظام يقاتل إسلاميين ويتحالف مع إسلاميين. يقاتل إسلاميين سنة ويتحالف مع إسلاميين شيعة. إيران نظام ديني في الدستور ولها برنامج واسع في المنطقة».

وتابع: «في السنوات الماضية تزايد الهمس حول تحالف الأقليات. أعتقد بأنه على هذه القاعدة غير المعلنة تم اجتذاب العماد ميشال عون إلى موقع التحالف مع «حزب الله» والنظام السوري. تصريحات بعض السياسيين المسيحيين اللبنانيين الذين كانت تحرّكهم الأجهزة السورية تؤكد ذلك. انتقلوا فجأة من شعارات الممانعة إلى المطالبة بحقوق المسيحيين. في المقابل لا أستطيع أن أنسى الدور الذي لعبه رجب طيب أردوغان في إدخال كل أنواع المتطرفين والإرهابيين إلى الأراضي السورية. ساهم في مزيد من الخراب وتشرذم المعارضة المعتدلة وافتقادها القرار وانغماس من كانوا رموزاً في ممارسات لا تليق بمن يدّعي قيادة ثورة أو حركة تغيير».

وأضاف: «أقول صراحة. لم أشارك في الاحتجاجات لأنني أعرف طبيعة النظام في سورية. لم أكن أحلم بتغيير النظام بل بتطويره تدريجاً. كان يمكن للبنان أن يشكل متنفساً للمسيحيين السوريين لكن سياسييه، خصوصاً المسيحيين منهم، أضعف من هذه المرحلة. إبقاء مركز الرئاسة الوحيد للمسيحيين في هذه المنطقة شاغراً خطأ قاتل. أعتقد بأن المسيحيين السوريين سيهاجرون بهدوء في السنوات المقبلة. أنا تعلمت الألمانية وسأبقى هنا.

ناشط حقوقي

> هل يمكن أن نعرف اسمك؟

– طارق حوكان.

> هل يمكن أن نعرف أكثر؟

– أنا محامٍ وناشط حقوقي معارض. أنا من دير الزور ومكتبي كان في دمشق التي كنتُ أقيم فيها منذ فترة طويلة.

> متى تركت سورية؟

– في الشهر الثالث عام 2013. خرجتُ إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر. خلال وجودي هناك تلقيت اتصالات تنصحني بعدم العودة لأن جهاز الأمن ينتظرني. عرفوا بمشاركتي في أكثر من مؤتمر ونشاط، على رغم محاولتي إبقاء دوري غير معروف. داهم رجال الأمن منزلي. أنا لم أشارك في التظاهرات لكن في عمليات تنظيم. أحضرتُ أهلي إلى القاهرة.

في 20/6/2013 جئتُ إلى تركيا للمشاركة في نشاط للثورة. حدث التغيير في مصر ووُضِعت قيود على دخول السوريين فاضطررتُ إلى البقاء في تركيا. حاولتُ الذهاب إلى الأردن فأعادوني من المطار. فكّرت في التوجُّه إلى لبنان لكن الأخبار عن تسليم النشطاء السوريين إلى السلطات السورية جعلتني أصرف النظر.

> متى جئت إلى ألمانيا؟

– قبل خمسة أيام. أمضيتُ 20 يوماً بين أزمير وبودروم تخلّلتها ست محاولات للمغادرة. في النهاية غادرتُ من بودروم في قارب. في اليونان حاولتُ استخدام وثائق رومانية مزوّرة للمغادرة بالطائرة لكنهم أمسكوا بي على باب الطائرة؟ كلفتني هذه المحاولة نحو 1800 دولار. عندها قررتُ المغادرة براً.

جئتُ في زورق سريع. حوالى ساعة ونصف الساعة من بودروم إلى جزيرة كاليمنوس اليونانية. الرحلة مخيفة. دفعتُ ألفي دولار. المهرّب المباشر يكون سورياً أو عراقياً، لكن، وراءه بالتأكيد مهرّب تركي يشتري الزورق ويحدد مكان الانطلاق. المهرّب المباشر كان اسمه «أبو (كذا) الحمصي».

> كم كنتم في الزورق؟

– نحو 20 شخصاً.

> من قاد الزورق؟

– رجل يوناني. هذا الزورق يحتفظون به لأنه ليس مطاطياً. أنزلنا في مكان غير مأهول. تسلقنا ثم مشينا نحو ست ساعات. أمضيتُ تسعة أيام في الجزيرة ثم حصلنا على الورقة التي تسمح بالتوجُّه إلى أثينا. كنا نحو ألف لاجئ في الجزيرة وتولى موظّفان معالجة هذا الجمع.

مكثتُ خمسة أيام في أثينا. صعدتُ إلى باص نحو الحدود المقدونية ودخلتُ سيراً على الأقدام. لم أشعر بالترحيب باللاجئين إلا حين وصلتُ إلى فيينا. في النمسا اختلف التعامل. من فيينا أعدّوا قطارات مجانية إلى ألمانيا.

المحطة الهنغارية تستحق التوقف عندها. غادرت بلغراد إلى منطقة الحدود وكان وجود الحرس الهنغاري كثيفاً. كانوا يستخدمون الشدّة لمنع الناس من الدخول. سرنا في الغابات في رحلة صعبة. منعتْ الشرطة وجود السيارات في المنطقة، فاضطررتُ للسير نحو 18 كيلومتراً حتى عثرتُ على سيارة أنا وعائلة. دفع كل فرد 300 دولار للوصول إلى ضواحي بودابست. مشاعر الناس لم تكن جيدة. سألني السائق لاحقاً من أنا، فقلت إنني لبناني كي أخفف من عدائيته. هناك تجييش ضد اللاجئ السوري. في هنغاريا تصعد إلى القطار على أساس أنه مجاني ثم يصعدون ويرغمونك على الدفع. تشبيح.

من فيينا توجّهنا إلى ميونيخ ومنها إلى برلين مباشرة. وصلتُ في 11 أيلول (سبتمبر).

> هل ترجع إلى سورية؟

– بلا تردد.

> في أي ظروف.

– فور العثور على مكان لا سلطة عليه لآل الأسد أو الكتائب الإسلامية.

> إذا أُعلِنت منطقة آمنة تذهب؟

– شرط ألا تكون الكتائب الإسلامية المسلّحة على الأرض. أنا مستهدف من النظام لأنني معارض ومستهدف من الإسلاميين لأنني علماني وديموقراطي.

> ألم تكن لك علاقات مع حزب البعث؟

– لا، أنا معتقل سابق. اعتقلوني في 1983. كنت طالباً في رومانيا ولدى عودتي إلى مطار دمشق اعتقلوني ومنعوني من العودة لإكمال دراستي في الهندسة. سجنوني في أمن الدولة – الفرع الخارجي لمدة سنة وتسعة أشهر.

> هل تعرضت للتعذيب؟

– طبعاً، كان التعذيب محدوداً لأن أحد أقاربي كان عسكرياً برتبة عالية. خدمتُ لاحقاً ثلاث سنوات في الجيش وبعدها درستُ الحقوق وانتسبت إلى نقابة المحامين.

> هذا يعني أنك جربت السجن؟

– هل هناك سوري لم يجرّبه؟ أعتقد أن كل عائلة سوريّة دخل فرد منها السجن، ومن لم يدخل يشعر وهو في الخارج أنه يقيم في السجن. سورية بكاملها معتقل كبير. معتقل وليست سجناً، ذلك أن السجن تحكمه قواعد مبدئياً.

> هل فوجئت باندلاع الاحتجاجات في سورية؟

– لا، كنا نتوقع أن يثور الناس. بعد الذي حدث في مصر شعرنا بأن المسألة صارت وشيكة. توقّعنا تجمّعات كبيرة في ساحة الأمويين. حصل سيناريو آخر. طبعاً لم نتوهّم أن النظام سيحترم إرادة الناس. دفع الجيش إلى القتل وحوَّلَهُ عصابة. الجيش وُضع في خدمة عائلة وليس في خدمة سورية.

لم أُفاجأ بسلوك النظام. فوجئتُ بسلوك «حزب الله» وأعترف بأنني كنتُ ساذجاً. في حرب 2006 كنتُ أحد الناشطين في إيواء النازحين اللبنانيين. لديّ خيبة كبيرة من الطريقة التي رد بها الحزب الجميل إلى السوريين. عمليات التطهير المذهبي معيبة فعلاً. أنظر إلى ما يجري في الزبداني وغيرها.

> هل يمكن أن تقوم دولة للأقليات في سورية؟

– نعم ولكن لفترة محدودة جداً. سنة أو اثنتان وليس أكثر. ربما أكثر من دولة. واحدة للعلويين في الساحل، وربما كانتون لكل من الأكراد والدروز. لكن ذلك سيكون مرحلياً وقصير الأمد.

أعتقد بأن العرب خانوا الثورة السورية لأنهم سمحوا للنظام وحلفائه وربما بعض خصومه بتحويلها إلى حرب أهلية. أسلمة الثورة كانت نهاية الثورة التي اعتبرناها ثورة حرية وكرامة.

> هل سترجع سورية موحدة؟

– للأسف هناك صعوبة كبيرة في العودة إلى ما كان. لا مصلحة لعدد من الدول وبينها إيران.

> هل لديك خيبة من المعارضة؟

– خيبة كبيرة. قيادة المعارضة كانت أصغر بكثير من الثورة.

> هل تخاف أن تهرم في المنفى؟

– أخاف أن أموت خارج سورية.

> مطلبك أن تموت في سورية؟

– نعم. أخاف أن أمرض وأن لا أعود إلى سورية. أنا رجل عازب.

غسان شربل

نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق