حرب النفط وتداعياتها على سياسة إيران التوسعية

شهدت المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل حروبا متنوعة، على رأسها الحروب العسكرية وأخرى إعلامية واستخباراتية واقتصادية وغيرها وخضعت بعضها لمؤامرات قد أحكيت بدقة. ويشهد العالم اليوم حربا جديدا وعرف بحرب البترول أو خفض أسعار البترول، حيث فقد سعر البترول خلال ستة أشهر الماضية أكثر من نصف قيمته بإرادة سياسة لتحقيق مآرب استرتيجية.

تناول العديد من الكتاب والمحللين “حرب البترول” کما طرح في وسائل الإعلام، والأسباب والخفايا والأهداف الحقيقة وراء ذلك، بغية الوصول للمعلومة الدقيقة والتحليل الواقعي، بحثا عن إجابة أسئلة واستفسارات تناولها العديد من المختصين والمحللين في الشأن الإقتصادي والسياسي.

لم تتفق الآراء التي تناولت هذا الموضوع، بل اختلفت كثيرا عن الأسباب التي أدت الى انخفاض الأسعار والجهات المسؤولة عنه. كما اختلف المحللون حول الجهات المتضررة والمستهدفة منه. هناك رأيان أساسيان عند المحللين حول الأسباب الحقيقية لهبوط أسعار البترول، أو استثماره في هذه المرحلة لتحقيق أهداف سياسية.

 الأول، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية تشنان “حرب النفط” ضد روسيا وإيران بإعتبارهما أكثر الدول تضررا من هبوط أسعار النفط. ويأتي ذلك من أجل الضغط على روسيا بما يتعلق بسياسات الأخيرة في أوكرانيا. وكذلك الضغط على إيران من أجل أن تتراجع عن مواقفها في الملف النووي من جهة وتكف عن تدخلاتها في الدول العربية من جهة أخرى. ويتزامن هذا الضغط على إيران في الأشهر الأخيرة من انتهاء الفترة المقررة (المؤجلة) للوصول لحل نهائي في موضوع الملف النووي. ويعتبر التحكم بأسعار منخفضة من قبل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، الورقة الأخيرة لإرغام طهران على التنازل من مواقفها النووية وتدخلاتها الإقليمية. قال السيناتور الأمريكي جون ماكين “إن المملكة العربية السعودية مسؤولة عن انهيار الإقتصاد الروسي وعلينا تقديم الشكر للسعودية التي سمحت لسعر برميل النفط بالهبوط لدرجة توثر بصورة كبيرة على الاقتصاد الروسي”. واعتبر الرئيس الإيراني حسن روحاني هبوط أسعار النفط، مؤامرة سياسية تستهدف إيران وروسيا من قبل بعض الدول في إشارة إلى المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.

الثاني، وصفه الآخرون بأنه وجه من وجوه التحالفات الجديدة ضد الولايات المتحدة الإمريكية من قبل المملكة العربية السعودية بتحالف مع فرنسا ودول إقليمية أخرى، بعد ما شهدت العلاقات الإيرانية الأمريكية تطورا ملحوظا في عدة قضايا على حساب أمن واستقرار المنطقة العربية بما فيها المملكة العربية السعودية. بعد ما ظهر التنسيق العسكري والأمني بين طهران وواشنطن في العراق وسوريا تحت مسمى “الحرب على الإرهاب” بشكله العلني. ويمكن وصف سكوت واشنطن على ما تفعله طهران من تدخلات سافرة من احتلالات واجتياح عسكري في العراق وسوريا على يد الحرس الثوري الإيراني أو بواسطة المليشيات التابعة لها في اليمن وفي مناطق أخرى، هو تتويج لذلك التعاون والتقارب بين البلدين. وما يؤكد هذه النظرية التقارب السعودي القطري المصري والذي تمثل بزيارة وفد سعودي قطري رفيع المستوى الى مصر واللقاء بالرئيس المصري وأعقبه إغلاق مكتب “الجزيرة مصر مباشر”. وهذان الامران يدلان على جهود المملكة العربية السعودية في بناء تحالف اقليمي وإنهاء الخلاف العربي -العربي المتمثل بدعم الإخوان المسلمين في مصر وليبيا من قبل قطر الذي أنهك الدول العربية وأدخلها في صراع داخلي، كان لحد هذا اليوم المستفيد الأول والأخير منه القوى الأجنبية الطامعة بالسيطرة على الدول العربية. بعد ما أظهرت واشنطن تحمسا ورغبة غير عادية للتقارب مع طهران والوصول لحل نهائي لملف إيران النووي. وفي الوقت ذاته ظهر تصلب في مواقف فرنسا والذي اتفق هذا الموقف مع مواقف الدول العربية التي رأت ما يجري بين واشنطن وطهران أشبه بصفقة سياسية على حساب أمنها واستقراها الداخلي. ويعتقد بعض المحللين أن سبب مواقف فرنسا المتشددة في المفاوضات النووية ترجع لعلاقاتها وتحالفات بالدول العربية خاصة الخليجية. وبناء على ذلك يمكن القول بأن ثمة تحالفا جديدا بدأ يلوح بالأفق ينافس التحالف الأمريكي -الإيراني في المنطقة وهو تحالف عربي بقيادة المملكة العربية السعودية مع فرنسا التي تطمح أن تلعب دورا يوازي دور الولايات المتحدة الأمريكية على أقل التقدير، خاصة بعدما خرج العالم من أحادي القطب إلى تعدد الأقطاب والتحالفات.

رغم الدعاية الواسعة خاصة من قبل الإعلام الإيراني ضد المملكة العربية السعودية وتحميلها مسؤولية انخفاض أسعار النفط، في إطار التحريض عليها وشيطنتها بهدف إدخالها في أزمات أمنية وسياسية، على غرار ما يحصل في العراق وسوريا واليمن، لإكمال مشروع تقسيم الدول العربية والسيطرة عليها. لكن المتتبع يستطيع أن يرى بأن هناك أسبابا لا علاقة لها بالمملكة العربية السعودية في هبوط أسعار النفط. وهي كالآتي:

أولا: زيادة إنتاج النفط (الزيت) الصخري من قبل أمريكا وكندا وضخه في الأسواق العالمية مما أدى إلى زيادة العرض مقابل الطلب.

ثانيا: انخفاض الاستهلاك عما هو متوقع نتيجة تراجع النمو الاقتصادي بسبب الحروب والأزمات السياسية والأمنية في العالم.

ثالثا: منافسة النفط في السوق العالمي من قبل أنواع وقود بديلة، كالطاقة النووية وتطور التكنولوجيا.

بغض النظر عن الأسباب الحقيقية وراء عملية “هبوط أسعار النفط” وخلفياتها وهل هي نتيجة مخطط إقليمي دولي لتحقيق أهداف سياسية أو غير ذلك من هذه الجهة أو تلك، فرضت في المحصلة النهائية واقعا جديدا في الصراع الإقليمي والدولي القائم. وسيكون لاستمرار هبوط الأسعار تداعيات خطيرة على بعض الدول اذا ما استمر الوضع بهذا النحو حتى نهاية عام ٢٠١٥. المستفيد الأول سياسيا هي الدول العربية عامة والخليجية خاصة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الخاسر الأكبر من هبوط أسعار البترول هي إيران.

ويشكل هبوط أسعار البترول فرصة ذهبية للدول الخليجية وأداة ضاغط على إيران لإرغامها على التراجع عن سياسة التدخل والتوسع في المنطقة العربية، من خلال التمسك بتصدير حصتهم في الأسواق النفط العالمية. وتمثل السعودية الحصان الرابح، لأنها الأكثر إنتاجاً والأقل استهلاكا وهي تملك مفتاح التحكم بالأسعارعن طريق رفع أو خفض انتاجها، على أساس العرض والطلب في السوق العالمي. لا يستطع النظام الإيراني تحمل هذا الوضع لفترة طويلة، خاصة أن اقتصادها يمر بظروف صعبة للغاية ويعاني تدهورا مستمرا جراء الفساد الإداري المنتشر في جميع مؤسسات النظام من جهة والصراع السياسي القائم بين الأجنحة والتيارات السياسية والدينية من جهة أخرى، إضافة على العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي. ونتيجة لذلك تراجع الدخل الإيراني من النفط من ١١٤ مليار دولار عام ٢٠١١ إلى ٦٧ مليار دولار عام ٢٠١٣. وهبط عام ٢٠١٤ إلى ٣٠ مليار دولار لنفس الأسباب المذكورة، زائد هبوط أسعار البترول.

ومن المتوقع ونتيجة لهبوط أسعار النفط بشكل مستمر سيكون الدخل الايراني من النفط هذا العام أقل من دخلها في السنين الماضية. وإذا بقي سعر البترول حتى نهاية هذا العام بمعدل ٦٠ دولار للبرميل ستدخل للميزانية الإيرانية من بيع النفط نحو ٢١ مليار دولار فقط وهذا بحد ذاته مؤشر خطير على تدهور الاقتصاد الإيراني بشكل عام، وعلى سياساتها في المنطقة بشكل خاص. ودلالة على خطورة الأمر بالنسبة لطهران نقل موقع “فرارو” التابع للنظام الإيراني، بأن كابوس أسعار النفط بدأ يتحول الى حقيقة بعد ما وصل سعر النفط للخطوط الحمراء بالنسبة لإيران حيث باعت طهران النفط في الأيام الماضية بقيمة ٤٠ دولار للبرميل فقط بعد التخفيضات التي قدمتها من أجل منافسة النفط الخليجي في الأسواق العالمية. وهذا يعني أن إيران ستضطر لإعادة النظر في قطع دعمها المالي للمليشيات والشبكات التابعة لها في الدول العربية. ولعل أبرز النتائج السريعة لهذا الأمر هو إعلان إيران عن إغلاق مكاتب ١٧ فضائية شيعية كانت موجهة ضد الدول العربية تبث الفتن الطائفية والتحريض على الكراهية والتخريب في المجتمعات العربية. وإعلان طهران بغلق تلك المكاتب يدل على أمرين مهمين، الأول والأهم هي رسالة للدول العربية عامة وللمملكة العربية السعودية خاصة، بأن إيران قامت بخطوة إيجابية نحو الدول الخليجية مقابل تدخل تلك الدول لمعالجة أسعار النفط. والأمر الثاني يدل دون شك على عدم قدرة إيران في دعم تلك الفضائيات والمليشيات التابعة لها والتي تكلف الميزانية الإيرانية الخاوية في الوقت الحاضر مليارات الدولارات سنويا.

ستشهد الفترة المقبلة مفاجئات مقرونة بالتنازلات والتراجع للخلف في الساحة الإيرانية الداخلية والإقليمية، نتيجة لعدة عوامل أهمها الصراع الداخلي على السلطة وتدهور الوضع الإقتصادي. وهذا ما دفع الرئيس الإيراني حسن روحاني أن يطرح مسئلة استفتاء الشعب بشكل مباشرعلى قرارات مصيرية من شأنها أن تخرج النظام الإيراني من أزماته ووضعه المزري. ونظرا لخطورة الموقف قد خير الرئيس الإيراني المسؤوليين ما بين سقوط النظام أو تقديم تنازلات جوهيرية في ملفها النووي بغية الخروج من أزماتها العديدة وعزلتها الإقليمية والدولية، وردا على الحلول التي طرحها حسن روحاني، لحل الأزمة الإقنصادية المستعصية على النظام، قد خير الأخير من قبل المتشددين بين الوقوف مع النظام أو مع الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى للإطاحة بالنظام بالأدوات الناعمة (العقوبات الاقتصادية) على حد زعمهم. وهذا الأمر إن دل على شيء فهو يدل على عمق الأزمات الداخلية من جهة وعدم وجود رؤية موحدة داخل النظام لمواجهة ومعالجة تلك الأزمات من جهة أخرى، وهنا تكمن خطور وضع النظام الإيراني، ناهيك عن تنامي وتطور نضال الشعوب غير الفارسية الذي أخذ منحا خطيرا ليس فقط على مستقبل النظام فحسب، بل على مستقبل خارطة إيران الحالية.

حسن راضي

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق