جوهر ومسارات الاتفاق حول ملف إيران النووي

تأكيدات من واشنطن كانت قد أفادت عن وجود محادثات سرية مباشرة مع طهران خلال الأشهر السابقة للاتفاق الإيراني الغربي هي من حضرت لاتفاق بين الدول الست الكبرى وإيران يوم الأحد 24/ نوفمبر/ 2013. وكانت هذه المفاوضات بالتوازي مع مفاوضات إيران ومجموعة “5+1” على شكل مفاوضات ثنائية ومحدودة، علماً أن إسرائيل كانت على علم بها حسب أحد المسؤولين الأمريكيين.

الجدير بالذكر أن أبرز اللاعبين في هذه المفاوضات السرية كانت سلطنة عُمان حيث جرت على أرضها،وكان سلطان عُمان قابوس بن سعيد قد استضاف المحادثات السرية، وسهل دفع الكفالات لإطلاق سراح معتقلة أميركية من السجون الإيرانية عام 2010 واثنين آخرين عام 2011، مما فتح الباب لدور عُماني أكبر في اِنضاج المباحثات وصولاً لاتفاق جنيف، وهو ما يفسر زيارة سلطان عُمان لطهران الذي كان أول رئيس دولة عربية يزورها بعد انتخاب الرئيس روحاني.

تعيد هذه المتوالية من المباحثات السرية للأذهان المقاربة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما النازعة إلى المقاربة الدبلوماسية السرية، لحل المشاكل الدولية والملفات الشائكة المرتبطة بمكانة أمريكا العالمية معتبراً إياها نجاحاً يضاف إلى ذخيرته من الإنجازات في ولايته الثانية، متجنباً أي مجابهة مكلفة أو غير محسوبة التكاليف، أو بالأحرى باهظة التكاليف بالمعنى الفني للكلمة، ضارباً بعرض الحائط التكلفة الاستراتيجية الأهم على هذا الصعيد. علماً أنه هز علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفاء تقليديين في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسهم دول مجلس التعاون الخيلجي، في ما يشبه أخطاء تكتيكية متراكمة ستؤدي في حال لم يتم تداركها إلى انقلاب استراتيجي راديكالي.

تأتي هذه الاتفاقية حصيلة تراكم سنوات من العقوبات والمحفزات علماً أنه لم يكن لهذه الاتفاقية أن تتم لولا الخطوات المتشددة التي طبقها المجتمع الدولي على مدار العقد الماضي، لاسيما أن تاريخ إيران يضج بانتهاكات للاتفاقيات التي تعهدت بها في أكثر من محطة من محطات تطور الملف النووي الإيراني، ورغم ذلك فقد استطاعت إيران الوصول إلى عتبة التخصيب 20%، أي بعد ان تمكنت من امتلاك التكنولوجيا النووية بكليتها وأصبحت جاهزة للتطبيقات الصناعية والعلمية، وهنا وجه الخطورة، فالتحول من برنامج نووي سلمي إلى برنامج نووي عسكري لا يتطلب في مرحلة من مراحل التخصيب إلا لقرارٍ سياسي، استدلالاً بقدرة العديد من الدول التي تمتلك برامج نووية سلمية تحتاج إلى عدة أشهر فقط لنقل برامجها السلمية إلى عسكرية، اليابان التي تستطيع خلال مئة يوم صنع قنبلة نووية. فلنا أن نتخيل إيران مستقبلاً بإمكانيات التحول الذي نشير إليه.

في مقالة سابقة تحت عنوان “خريطة الطريق الإيرانية الجديدة حول ملفها النووي[1]” استعرضنا الخط الزمني لتطور أزمة ملف إيران النووي وعرجنا على اتفاقية أكتوبر 2003 عندما انقلبت إيران في تموز 2004 وقامت بكسر أختام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، المركبة على بعض من آلاتها الطاردة النووية، وأعلنت أنها ستستأنف العمل في معدات الطرد المركزي، مما أدى إلى انهيار اتفاقية تشرين الأول 2003، وتدحرجت أزمة صاخبة بين المجتمع الدولي وإيران آنذاك. مما أوصل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن عام 2006 إلى ذروة الحدية عندما صدر قرار مجلس الأمن رقم 1737 في ديسمبر من نفس العام وفوّض كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة “منع إمدادات وبيع أو نقل كل المواد والمعدات والبضائع والتكنولوجيا التي يمكن أن تساهم في الأنشطة المتعلقة بالتخصيب أو المياه الثقيلة”.

لحقهُ في مارس 2007 القرار رقم 1747 بهدف زيادة الضغط على إيران بشأن برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي وذلك بمنع التعامل مع البنك الإيراني الحكومي (سيباه) و28 شخصاً ومنظمة أخرى ومعظمها مرتبط بالحرس الثوري الإيراني، ونصت قرارات مجلس الأمن كذلك على منع واردات الأسلحة إلى إيران وتقييد القروض الممنوحة لها.

 

العامل الاقتصادي جوهر الاندفاعة الإيرانية نحو المفاوضات:

خلفت هذه العقوبات أزمة اقتصادية بنيوية زادت من أعباء الحكومة الإيرانية في ظل إدارة أحمدي نجاد الشعبوية وزادت نسبة التضخم لمستويات قياسية فضلاً عن تسريح عشرات الآلاف من العمال وإغلاق المصانع، وفي نوفمبر عام 2010 ذكرت وكالة “إيرنا[2]” وهي الوكالة الرسمية للأنباء أن الدولة عجزت عن دفع رواتب العديد من العمال في عموم البلاد، كما أن هناك بعض العمال لم يستلموا رواتبهم منذ أشهر، الأمر الذي دفع بعمال صناعة الأنابيب في إقليم عربستان – الأهواز – إلى التجمع والتظاهر لأنهم لم يستلموا رواتبهم منذ 20 شهراً ، كما سرحت هذه الشركة 2000 عامل من عمالها وهناك 600 عامل لم تكن أوضاعهم معروفة ، وهم في طريقهم إلى التسريح. وأن أي عامل يحاول الاحتجاج للمطالبة بحقوقه ، إما أن يفصل من عمله أو يلقى به في غياهب السجون، وأثناء تغطيتها للاتفاق الذي وقع يوم الأحد 24/نوفمبر/ 2013 قال الخبير في الشأن الإيراني، ومدير مركز الدراسات العربية الإيرانية، الدكتور علي نوري زادة في تصريحات خاصة لـ”العربية نت[3]” أن أكثر من 70% من المصانع في إيران إما متوقفة تماماً عن العمل، أو أنها معطلة بشكل أو آخر نتيجة العقوبات الاقتصادية على البلاد، كما أن العقوبات التي طالت القطاع النفطي تسببت بخسائر باهظة أيضاً، وهو ما دفع الحكومة الإيرانية إلى إرسال وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى جنيف من أجل التوقيع على الاتفاق بغض النظر عن الشروط والمطالب الغربية، أي وكما جميع دول العالم الثالث التي تأتي سياستها الخارجية على وقع ضرورات تثبيت النظم الحاكمة ودعائمها في مواجهة الضغط الشعبي المتشكل من تخبط السياسات الحكومية واستشراء الفساد، وما تتركه من آثار كارثية على المجتمع ومواطني الدولة على شكل فقر وبطالة وتضخم في الأسعار وضعف القدرة الشرائية للعملة الوطنية، أي أن العامل الاقتصادي هو بيت القصيد في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية حول ملفها النووي مؤخراً تماماً كما حدث مع ملف الأسلحة الكيماوية السورية.

لكن، يختلف الاتفاق الإيراني حول البرنامج النووي مع مجموعة الدول الست الكبرى عن مثيله السوري المتعلق بسلاحه الكيماوي من حيث النتائج المباشرة لكل من الحالتين، فالحالة السورية حصدت نتائج مباشرة في تجنب ضربة عسكرية دولية وشيكة كان يمكن أن تتدحرج لتدخل واسع في سورية، بينما كانت الحالة الإيرانية خطوة استباقية لحصد نتائج استراتيجية ولالتقاط الأنفاس بعد اختناق اقتصادي وسياسي طويل أرهق الكيان الإيراني مع ازدياد أعباءه الإقليمية نتيجة تدخله المباشر في دول المنطقة، والعقوبات الموسعة التي طالت مختلف نواحي الحياة الإيرانية. خصوصاً بعد التغيير الذي طال دولاً عربية مهمة كمصر، إذ تحاول إيران بذل جهد مضاعف لحرف التغيير لمصلحتها حتى لو كلفها ذلك التدخل بشكل مباشر كما هو حاصل في سورية اليوم.

لكنه يتشابه من حيث تكتيك البقاء، فهو تخلي جزئي أو مرحلي عن ممتلكات عسكرية أو شبه عسكرية في ضائقة سياسية واقتصادية حادة تصل لحد الوجود، لا يؤثر استرتيجياً على إمكانية استعادة المبادرة لاحقاً، وهذا ممكن وبوضوح في حالة سورية، إذ أن المعارف لصناعة الأسلحة الكيماوية مازالت موجودة ولا تستطيع أن تطالها الآليات الدولية لتدمير السلاح الكيماوي السوري، وفي الحالة الإيرانية تحتفظ إيران بالحد الأدنى من المعارف الضرورية لإنتاج اليورانيوم المخصب القابل للتطوير في بيئة سياسية دولية مواتية مستقبلاً أو عبر برامج نووية سرية جديدة.

 

قراءة في المواقف المتباينة من الاتفاق:

مهما تباينت الآراء الآنية حول الاتفاق الأخير يبقى المعنى الاستراتيجي للاتفاق حتى الآن قيد الاختبار ولا تؤخذ ردود الفعل الأولية الصادرة عن دول العالم خارج فهم كل دولة للعوائد التي تتمنى أن تعود عليها بشكل أو آخر، ويمكن تفهّم هذه الردود انطلاقاً من الآمال التي تعقدها هذه الدول على الاتفاق، وضرورات التعابير الإعلامية الدبلوماسية العائمة أحياناً أخرى، من قبيل الموقف الإماراتي عندما رحبت الإمارات العربية المتحدة باتفاق إيران النووي مع القوى العالمية، من خلال بيان مجلس الوزراء الذي عبّر عن تطلعه بأن يمثل ذلك الاتفاق خطوة نحو اتفاق دائم يحفظ استقرار المنطقة ويقيها التوتر وخطر الانتشار النووي. إدراكاً منها لصعوبة مسار حل معضلة النووي الإيراني وانسجاماً مع الموقف الإماراتي المعلن حول مقاربتها لحل المسائل الدولية والإقليمية القائمة على التفاهمات السلمية وحفظ الأمن والاستقرار الإقليميين. دون أن يعني ذلك شعورها بالارتياح التام للنوايا الإيرانية الطامحة لامتلاك التكولوجيا النووية ببرنامج عسكري يهدد أمن واستقرار المنطقة.

بينما كان الموقف السعودي أكثر تشدداً حين تحدث رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشورى السعودي عبد الله العسكر “أن النوم سيجافي سكان منطقة الشرق الأوسط بعد الاتفاق، في إشارة إلى حالة عدم الارتياح الشديد التي تسود دول الخليج بسبب التقارب بين الغرب وطهران، ولم يخفِ مخاوف السعودية من أنه إذا لم ينجح الاتفاق في منع إيران من تصنيع قنبلة نووية، فإن السعودية ودولاً أخرى ستسعى لامتلاك واحدة على الأرجح. هذا سيفتح الباب على مصراعيه للتسلح”.

اللافت بالذكر الموقفين السوري والعراقي المحتفلين بهذا الاتفاق وكأنه نصر لهما، علماً أنه يأتي في سياق الدوغما الإعلامية عديمة المغزى والمعنى سوى أنهما ملحقين بالنظام الإيراني.

 

الرد الاستراتيجي على الاتفاق:

مهما كانت النتائج الأولية للاتفاق تتبدى للمراقب ستة قضايا أمام دول المنطقة ودول الخليج عليها مواجهتها والتعامل معها كاستحقاقات استراتيجية:

  • النظر جدياً في إيجاد المعادل الموضوعي لسلاح نووي إيراني محتمل على المدى المتوسط والبعيد.
  • توسيع دائرة التحالف الإقليمي المقابل لإيران، شرقاً من خلال شدّ الحزام بين بحر قزوين وبحر العرب.
  • إظهار صلابة وحزم في المواقف العربية في ثلاث دول إقليمية لم تحسم إيران مواقعها فيها، وهي سورية ولبنان واليمن.
  • خلق منظومة عربية أمنية آسيوية مركزها منطقة الخليج العربي.
  • تجسير العلاقات الإقليمية العربية التركية، خصوصاً بعد إعلان مصر تخفيض المستوى الدبلوماسي مع تركيا.
  • مزاحمة الزحف الإيراني في أفريقيا الوسطى، وربط الدول الإقريقية باتفاقات شراكة وتعاون مع المنظومة العربية.

من شأن معالجة هذه القضايا وتوارداتها الاستراتيجية محلياً وإقليمياً أن تتصدى لمسارات الملف النووي الإيراني أينما اتجه صعوداً نحو امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية بتطبيقات عسكرية، أو الاكتفاء بما حددته هذه الاتفاقية.

إن هذه الاتفاقية وإن لم تكن تتيح لإيران التخصيب بنسب عالية فإنها لا تنزع من يدها المعارف النووية المهيئة لبرنامج عسكري نووي، وتتطلع إيران من خلاله إلى إحداث خرق في جدار العزلة الدولية التي أنهكت اقتصادها وزحزحت العلاقة بين النظام والشعب لدرجة تنبئ بانفجار لا يقل عن الانفجارات التي حدثت في المنطقة والتي ما زالت تختزن في الذاكرة الإيرانية ما سمي بالثورة الخضراء عام 2009.

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

[1]– مازن محمود علي ” خريطة الطريق الإيرانية الجديدة حول ملفها النووي” مركز المزماة للدراسات والبحوث:http://almezmaah.com/ar/news-view-2979.html

[2]– جابر أحمد، “الاقتصاد الإيراني بين وقائع الأرقام وتصريحات أحمدي نجاد”، الحوار المتمدن.

[3]– “غليان” الفقراء من العقوبات يقود إيران للاتفاق مع الغرب: طهران فتحت ذراعيها للشركات الاميركية بعد جنيف، العربية نت،25/11/2013.

الوسم : إيران

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق