جنيف3: العبء الدولي الزائد على الثورة

تعتبر المؤتمرات الدولية إحدى الوسائل الدبلوماسية في إدارة الصراعات والنزاعات الدولية، والتي يلجأ إليها أطراف النزاع، أو تعقدها أطراف تمتع بقدرة على الحراك الدولي من خارج أطر الصراع، وتتخذ ثلاثة مناحٍ رئيسة، فإمّا أن تكون تعبيراً عن إرادة الأطراف الأقوى (المنتصرة أو على وشك الانتصار) في الصراع كتلك المؤتمرات التي فرضتها قوات الحلفاء إبّان الحرب العالمية الثانية. أو أن تفرضها القوى الكبرى على الأطراف لإنهاء صراع يهدّد السلم والأمن الإقليمي والدولي، متّخذةً شكل مفاوضات بين الطرفين، ومن أحدث نماذجها عملية انتقال السلطة في اليمن بعد الثورة على نظام صالح.

أما النموذج الثالث، فهو يعبر عن مرحلة تأزم في العلاقات الدولية، حين يكون الهدف الأساس من المؤتمر التنصل من المسؤولية الدولية الملقاة على عاتق الدول الكبرى والمجتمع الدولي، عبر إرجاء الحلول لحين تغيّر المعادلات على أرض الصراع، حيث تتعارض حلول المسألة قيد الصراع مع مصالح القوى المتحكمة بالنظام الدولي، ومن ذلك المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية.

ولعلّ المرحلة التي اندلعت فيها الثورة السورية، قد أتت ضمن سياق تغيرات بدأت تتشكل منذ عام 2008 في البيئة الدولية، لصالح قطبية أحادية هشة تسمح لقوى جديدة بالخروج على تفرد الولايات المتحدة بأوضاع العالم. وهو ما زاد في تعقيدات المسألة السورية، وخاصة أنّها تحمل من الإشكاليات ما لم تحمله دول الثورات العربية الأخرى، بل إنّ الربيع العربي ذاته قد أتى ضمن سياق دولي مضطرب.

وعليه، فقد شكلت سورية محطة التقاء وتضادّ في المصالح الإقليمية والدولية معاً، ومحطة ارتكاز في عملية انتقال النظام الدولي من شكل لآخر، في وقت لم يكن فيه للولايات المتحدة مصلحة مباشرة ومستعجلة في الإطاحة بنظام الأسد، قبل إخراج سورية تماماً من معادلات القوة شرق الأوسطية. عدا عن عدم رغبتها في إحداث تدخل عسكري ولو كان على نمط التدخل في ليبيا، في ظل إنهاكات تحاول الولايات المتحدة تجاوزها فترة رئاسة أوباما، ويضاف إلى ذلك انخفاض القيمة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط في السياسة الأمريكية، بعد تدمير العراق، وإخراج سورية من معادلات القوة فيه، وضبط القوة المصرية منذ عقود، وهو ما يظهر في التقارب الأمريكي-الإيراني الأخير، في محاولة إلى إعادة صياغة معادلات المنطقة ككل.

فيما كانت هذه المتغيرات في سورية أساساً، وفي منطقتنا عموماً، مدخلاً رئيساً للقوة الروسية، لإثبات إمكانية عودتها إلى العمل على الساحة الدولية، وخلق خطوط تماسٍ مع مناطق النفوذ الأمريكية، تستطيع من خلالها المساومة على مصالح ذات أهمية استراتيجية. أي إنّ سورية تبقى في الحسابات الروسية مجرد آلية انتزاع مصالح في مناطق أخرى، وهو ما ثبت في أوكرانيا، حيث أدت السياسات الروسية تجاه سورية إلى إحداث مزيد من التخلخلات في البنية الدولية، ساعدتها على فرض أجندات أدت إلى اقتطاع إقليم القرم، بداية، ضمن عملية أكبر تستهدف محاولة استعادة المحيط الروسي الحيوي (تركة الاتحاد السوفييتي)، ولا تشكل سورية بالمقارنة مع هذا المحيط ذات الأهمية.

وليس للطرفين –الأمريكي والروسي- مصالح فعلية في إنهاء الصراع داخل سورية، ريثما يتمّ الحسم في مناطق ذات أهمية استراتيجية أكبر، كشرق أوروبا حالياً، ومنطقة شرق آسيا والمحيط الهادي مستقبلاً، وأيّة تسوية يسعى إليها الطرفان تبقى دون دعم حقيقي، طالما أنّ المعادلات العسكرية والسياسية داخل سورية قائمة على ما هي عليه الآن.

لذا يسعى الطرفان الروسي والأمريكي إلى استمرار حالة الاحتراب ما بين قوات النظام ومن خلفها الاحتلال الإيراني من جهة، والأطراف الثورية على تنوعها من جهة أخرى، مع تغذية كلا الطرفين بمقومات الاستمرار، في عملية إنهاك للجميع، وتدمير للجميع، قبل الدفع بقوة نحو إنهاء الصراع القائم.

وفي حين يدفع الروس والأمريكيون في ذات الوقت إلى تصعيد تصريحاتهما تجاه الموقف من سورية، وتأكيد دعمها –غير المتساوي- لأطراف الصراع، فلربما يشكل ذلك مؤشراً على دفعهما نحو مؤتمر ثالث في جنيف أو ما حولها، للتخلص من المسؤولية الدولية أولاً، ولإدارة الملفات العالقة في مناطق أخرى لاحقاً.

وإذا ما تمّ تحميل الثورة السورية، ومؤتمر جنيف القادم، الإشكاليات القائمة في شرق أوروبا (أوكرانيا)، فإنّ انعكاسات أكثر حدة ستشهدها الساحة السورية، عبر تعزيز خطوط الفصل داخل سورية بين الطرفين من جهة، والدفع نحو إعلاء قيمة الصراع العسكري، وهنا يبدو الروس أكثر التزاماً بدعم حليفهم الأسد، بينما يبقى حلفاء الشعب السوري مقيدين أمريكياً عن تقديم أي دعم عسكري حقيقي.

في المقابل، ربما تشهد الساحة السورية انقلاباً استراتيجياً في حال إعمال منظومة المفاوضات عوضاً عن المساومات القائمة حالياً بين الروس والأمريكيين، فيما يخص أوكرانيا، وفي حال تسوية الوضع في أوكرانيا لصالح روسيا، قد تتنازل الأخيرة عن دعمها المطلق للأسد، وتدفع هي بدورها إلى فرض مخارج جديدة عبر مؤتمر جنيف3. غير أنّ هذا السيناريو لم يكتمل بعد، في ظل توسيع العقوبات الغربية –غير المأثرة فعلياً- على روسيا.

وربما تتمثل إحدى إشكاليات هذا المؤتمر، في عدم إدراك بعض من القيادات الثورية المفاوِضَة، الأبعاد الدولية لإدارة الصراع في سورية، وهو ما ينعكس على فهمهم للسلوك الدولي أولاً، وللغرض من المؤتمر ثانياً، وللنتائج المرتجاة منه لاحقاً. حيث يتم دفع تلك القيادات إلى استحصال مكاسب مؤقتة آنية لا تؤثر في مجمل الصراع القائم لتحرير سورية، وهنا تضاف الإشكالية الذاتية إلى الإشكاليات السابقة.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن صحيفة البركة بالشباب

الوسم : سورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق