ثوار العراق وأكذوبة سيطرة داعش

عندما شن نوري المالكي حربه بفض الإعتصامات المدنية السلمية في محافظة الأنبار بقوة السلاح في أوآخر العام المنصرم، تحت ذريعة: إن تلك الإعتصامات صارت أوكاراً إلى عناصر “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة إختصاراً بأسم “داعش”.

فقد ثارت العشائر العربية ضد الجور والطغيان، ومن أجل حماية المدنيين الآمنين في مجابهة قوات المالكي الميليشية، إنبثق “المجلس العسكري العام لثوار العراق” في منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2014، وبعد أسبوع تم الإعلان عن “المجلس السياسي العام لثوار العراق” والذي إنعقد مؤتمر تأسيسه في أسطنبول بتاريخ 4-3-2014، ولقد حضره أكثر من 180 شخصية عراقية من شيوخ دين وعشائر وأكاديميين وسياسين من مجموع أطياف الشعب العراقي، حيث يمثل الكثير من المجالس العسكرية العشائرية التي زاد عددها عن الخمسين مجلساً موزعاً بمناطق مختلفة في أثنتي عشرة محافظة من البصرة جنوباً حتى نينوى شمالاً.

ولقد تظافرت كافة فصائل المقاومة الوطنية المسلحة مع ثوار العشائر، ومع هذين المجلسين العسكري والسياسي، لتشكل بمجموعها قوة ميدانية خطيرة الوزن والحجم، ولتشكل أيضاً منعطفاً تاريخياً مهماً في عملية التحرير التي ينشدها جميع المجاهدين والمناضلين من أبناء العراق الغيارى.

في الأسابيع الأولى من حرب المالكي على محافظة الأنبار، واجهت قواته وميليشاته مقاومة عنيفة وشرسة ألحقت فيها خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات، مما دفع بالمالكي أن ينقل الفرقة العاشرة من محافظة ميسان في الجنوب ويزجها بمعارك الأنبار، ولم يمضي وقتاً طويلاً حتى نقل الفرقة الرابعة بكافة تشكيلاتها من البصرة نحو الأنبار. إلا أن تلك التعزيزات لم تحسم المعارك لصالحه، بل إنكشفت هزالة قوات المالكي كونها قوات طائفية تفتقر إلى العقيدة الوطنية القتالية، وإلى النهج العسكري القويم في الدفاع عن الوطن لا محاربة الشعب.

ولكي يبرر المالكي حربه الطائفية ضد شريحة كبيرة من الشعب، أستمر في أكاذيبه على أنه يحارب الإرهاب ضد “داعش” وغيرهم. ومن أجل تحقيق الهدف في تقسيم العراق، كانت ومازالت طهران وواشنطن تدعم المالكي بحجة مكافحته للإرهاب.

ورغم إنتشار ثورة العشائر العربية في سبعة محافظات، حيث أنهكت وأستنزفت جيش المالكي وميليشياته، إلا أن ما حدث في محافظة نينوى يُعدّ نقله جبارة وهائلة حيث إنهارت فيها قوات المالكي بشكل كلي، خصوصاً في الموصل عاصمة نينوى، حيث أصبحت تحت سيطرت الثوار بعد قتال بدأ في فجر يوم الجمعة الموافق 6-6-2014 ولم يستمر أكثر من 48 ساعة. ومع ذلك فإن وسائل الإعلام التابعة للمالكي ولإيران ومَنْ يتبعهم في بث أخبار مغلوطة على أن “داعش” قد فرضت سيطرتها على محافظة نينوى، وهذه أكذوبة يمكن دحضها وفقاً للأسباب التالية:

أولاً: يوجد في محافظة نينوى عدة تشكيلات عسكرية وشرطية وأمنية ومنها:

أ- الفرقة الثانية، من قوات الجيش.

ب- الفرقة الثالثة، من قوات الشرطة الإتحادية.

ج- قوات سوات، من القوات الخاصة المرتبطة مباشرةً بمكتب المالكي.

د- قيادة عمليات محافظة نينوى، من القوات العسكرية المرتبطة مباشرةً بمكتب المالكي.

ه- الشرطة المحلية.

و- دائرة الأمن.

ز- مجالس الصحوات، ميليشيات مدعومة من المالكي.

ك- مقار للميليشيات الطائفية من عصائب قيس الخزعلي، ومنظمة بدر، وحزب الدعوة وغيرهم.

إن مجموع أعداد هذه القوات النظامية وغير النظامية تزيد عن 50 ألف فرداً. فهل يُعقل لهذه المنظومة الكبيرة أن تنهار وتنهزم أمام عناصر “داعش” التي قال عنهم المالكي: “إنهم قادمون من سوريا”.

ثانياً: إن نينوى ثاني أكبر محافظة بعد بغداد من حيث التعداد السكاني الذي يصل إلى 3.5 مليون نسمة، وإن مساحتها الجغرافية واسعة من ناحية، ومن ناحية أخرى إن عاصمتها مدينة الموصل مكتظة بالنفوس ودوائر الدولة والإنتشار العسكري والأمني، فكيف تفقد الدفاع عن نفسها خلال ساعات، وتستسلم لعناصر إرهابية قادمة من خارج العراق؟

ثالثاً: ومن محافظة نينوى إلى محافظة صلاح الدين التي إنسحبت قوات المالكي مذعورة من عاصمة المحافظة تكريت، ومن قضاء بيجي وغيرها، والإتجاه نحو قضاء سامراء والكثير من الأقضية والنواحي؛ بمعنى إن السيطرة على هاتين المحافظتين تتطلب أعداداً هائلة من المقاتلين الذين لهم دراية تامة بطبيعة وتكوينة تلك المناطق، فهل لعناصر “داعش” الإرهابية الدخيلة كل هذه القدرة والمقدرة؟

رابعاً: من خلال النقاط الثلاث المذكورة أعلاه نستطيع أن نستخدم “المبدأ المقارن” طالما فيه الجنس المشترك بين قضيتين مختلفتين، ومثلما نقول عن “داعش”، نقول عن القوى الوطنية المسلحة التي تتكون من المجالس العسكرية وثوار العشائر العربية، متظافرة معهم جميع فصائل المقاومة العراقية، وبالتالي وفقاً للأقيسة العقلية والمنطقية فإن من يسيطر على أرض الميدان ويحقق الإنتصارات ضد قوات المالكي الطائفية، إنما هي تلك القوى الوطنية العراقية المسلحة التي جل تشكيلاتها من منتسبي الجيش العراقي الوطني السابق، ذلك الجيش الذي جرع الخميني السم الزعاف في حرب الثمان سنوات (1980-1988)، وهم الذين شكلوا فصائل المقاومة التي ألحقت الهزيمة الميدانية بقوات المحتل الأمريكي وأجبروهم على وضع الجدول الزمني الرسمي للإنسحاب من العراق أوآخر 2011، كما وهم الآن الذين يقودون المعارك ضد حكومة الظل الإيرانية في بغداد، وليس لعناصر “داعش” الإرهابية من وزن على أرض الواقع سوى في مناطق محدودة جاؤوا عبر المواقع الخاضعة لقوات المالكي لكي تقوم بدور التشويه للثورة الشعبية المسلحة، وإرتكاب الجرائم البشعة وإلصاقها بأسم الثوار الذي يروج له الإعلام المغرض والمعادي لثوار العراق الأبطال.

في الأسبوع الثاني من حرب التحرير قال خبراء عسكريون أمريكيون: “إن الثوار في العراق يتحركون وفق توقيتات زمنية، وخطة عسكرية محكمة”. كما وإن إنسحاب السفراء الغربيين من بغداد، الألماني والإسباني نموجاً، وغلق السفارات أو إبعاد موظفيها، السفارة الأمريكية مثالاً، وضرب السفارة الإيرانية، وقف مطار بغداد (الجانب الذي تحول إلى ثكنة عسكرية بالجنود والسمتيات المقاتلة)، كلها مؤشرات وأدلة على أن حرب التحرير قوامها من القادة والمراتب العسكرية من منتسبي الجيش الوطني السابق. وإن إنهيار المنظومة الأمنية والعسكرية للجيش الحالي يعود إلى الأسباب التالية:

 أولاً: إن البُنية التي تأسس عليها هذا الجيش تقوم على البناء السياسي الطائفي، لا السياسي الوطني. مما نتج عنه تركيبة هيكلية ركيكة، حيث أن القادة العسكريين يتم إختيارهم وفق ولائهم للسلطة الطائفية الحاكمة، وبما أن السلطة ينخرها الفساد المالي والإداري، لذا إنعكس هذا الوضع على الجانب العسكري، ومنه:

أ- تم إنفاق عشرات المليارات من الدولارات (منها 25 مليار دولار من الإدارة الأمريكية كتجهيزات عسكرية)، ولقد بدأت ضحالة هذا الجيش أثناء معاركه في محافظة الأنبار، إذ على مدى ست شهور تقريباً لم تستطيع قوات الجيش: المشاة والمدفعية والراجمات والصحوات والطائرات بالسيطرة على “الكرمة” إحدى أصغر مناطق المحافظة. ناهيك عن إنهياره الكبير في محافظتي نينوى وصلاح الدين.

ب- في تقرير لوزارة الدفاع قبل أكثر من عام، يشير إلى أن 30% من منتسبي قطعات الجيش هم من الميليشيات. إذ في عام 2005 تم تأسيس “دائرة نزع السلاح ودمج الميليشيات” حيث تقوم هذه الدائرة بزج العناصر الميليشية الطائفية داخل تشكيلات الجيش والشرطة والإتحادية.

ج- ضباط الدمج، وهم من الميليشيات الذين حملوا رتباً عسكرية عالية لا يستحقونها، كونهم لم يكونوا خريجوا الكلية العسكرية أصلاً، حتى أن بعضهم أميون لا يجيدون القراءة ولا الكتابة، فطلب المالكي إدخالهم في دورات تعليمية.

د- الجنود الفضائيون، حيث أطلق العراقيون هذه التسمية على الجنود الذين لهم حضور على الورق لا على الواقع! حيث يقوم الكثير من آمري الأفواج والألوية بإستلام رواتب هؤلاء الجنود الذين لا حضور لهم في المعسكرات وساحات العرضات.

ثانياً: حصر العقود العسكرية الكبرى بدائرة المالكي، وما نتج عن ذلك من شراء معدات وطائرات مستعملة يتم إعادة تجديدها، أو شراء أسلحة ومقاتلات أقل فاعلية ومحدودة التقنية. ناهيك عن ذكر الرشاوي، سوى في فضيحة شراء الأسلحة الروسية أو غيرها.

ثالثاً: إنعدام الروح المعنوية داخل منتسبي الجيش، لأن المتطوعين لم يدخلوا صنوف هذا الجيش بدوافع الوطنية، بل بسبب الحاجة المعيشية، حيث أن البطالة في العراق تزدادا نسبتها بشكل تصاعدي، حتى أن محافظتي القادسية والمثنى (من المحافظات الوسطى) قد تجاوزت نسبة البطالة فيها 50% من مجموع الأيدي العاملة. لذلك تجد أن المتطوع، من غير الميليشيات، يدفع الرشاوي لكي يتم قبوله في قوات الجيش أو الشرطة.

صفوة القول إن ثورة العشائر العربية المسلحة التي تجلت في حرب تحرير المحافظات التي عانت من بطش وظلم المالكي قد حققت إنتصاراتها الميدانية بناءً على بعض مما سردناه وعرضناه آنفاً. كما وإن هذه الإنتصارات التحررية ستترتب عليها نتائج واقعية قادمة، لذا عندما تشير جريدة “الأندبندت” البريطانية في 14-6-2014 بأن: الخارطة السياسية في الشرق الأوسط قد تغيرت بعد أحداث الموصل. لأن هذه الثورة لن تقف إلا بإسقاط حكومة المالكي القابعة بالمنطقة الخضراء في بغداد.

إن القتال الجاري في العراق إنما هو صراع سياسي بحت بين شريحة كبيرة مظلومة، وبين سلطة حاكمة ظالمة، فلا علاقة لهذا الصراع بأية صلة مذهبية أو إجتماعية أو عشائرية. وبالتالي فإن فتوى المرجع الأعلى للشيعة في العراق علي السيستاني في “الجهاد الكفائي” ضد الثوار وإتهامهم بالإرهاب، إنما يدفع بالعراقيين نحو صراع طائفي لا يبقي ولا يذر. ثم أين كان السيستاني من جرائم “قوات سوات” التي يستخدمها المالكي في إرهاب الدولة ضد الشعب؟ ومن بين المجازر التي أرتكبتها “قوات سوات”: “مجزرة الحويجة” في 23-4-2013 بمحافظة كركوك، وقتلت جهاراً نهاراً العشرات من المعتصمين المدنيين المسالمين، وجرحت أضعاف هذا العدد؛ وكان التصوير الإستفزازي الطائفي المتعمد بعرض أفراد هذه القوات وهم يرفسون بأقدامهم رؤوس الشهداء. وبعد أقل من شهر، وعند إنتهاء صلاة الجمعة وخروج المصلين، أرتكبت نفس هذه القوات “مجزرة جامع سارية” في بعقوبة، بمحافظة ديالى، حيث سقط العشرات برصاص القناصة. وكذلك ما جرى في الفلوجة بمحافظة الأنبار، والموصل بمحافظة نينوى. ناهيك عن القصف الوحشي لقوات المالكي على المدنيين الآمني في العديد من المُدن داخل المحافظات الثائرة.. بل أين موقف السيستاني من إرهاب ميليشيات “عصائب أهل الحق” التي يقودها قيس الخزعلي أو غيرها من الميليشيات الطائفية التي تقتل وتُهجر أبناء مكون معين من العراقيين؟

إن فتوى السيستاني تسير وفق الهجمة المضادة التي تقودها إيران في وأد الثورة، والإبقاء على الكتلة المصنوعة والمدعومة إيرانياً بالإستمرار في إمساك السلطة وممارسة التعسف نحو ملايين العراقيين؛ وإن وجود رئيس فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني في بغداد، ودخول ثلاثة كتائب من الحرس الثوري الإيراني، كل ذلك في سبيل دعم المالكي وقواته الطائفية من ناحية، وإلصاق تهمة الإرهاب عنوة بحق الثوار العراقيين من ناحية أخرى.

إن “داعش” صناعة إيرانية – سورية، وإلا كيف لتنظيم يتأسس في 9-4-2013، ثم ينطلق بسرعة ليمد سطوته على مناطق شاسعة من شرق سوريا إلى غرب العراق في غضون ست شهور؟ ولقد كشف وزير العدل العراقي حسن الشمري في 6-1-2014 قائلاً: إن: رؤوساً كبيرة في الدولة سهلت هروب سجناء تنظيم القاعدة من سجني “أبو غريب” و”التاجي” في بغداد تموز/يوليو الماضي. وأن “الغرض من تسهيل عملية الهروب هذه كانت تقوية النظام السوري من خلال تقوية تنظيم ’داعش‘، وتخويف الولايات المتحدة من أن البديل القادم لنظام بشار الأسد هو ذلك التنظيم”. وتابع الشمري قائلاً: “أن قوات حماية السجنين أنسحبت قبيل أقتحام عناصر القاعدة لهما وإطلاق رفاقهم”. وأوضح: “إن تسهيل عملية الهروب جاءت قبل إتخاذ الكونغرس الأمريكي قراراً بإعطاء التخويل للرئيس الأمريكي باراك أوباما بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا في حينه والتي تم إلغاؤها لاحقاً”.

إن ما يجري في العراق منذ مطلع العام الحالي هو ثورة لملايين العراقيين، وليست هجوماً لمجموعة إرهابية قادمة من خارج العراق، وإن وجود “داعش” في بعض المناطق لا يختلف عن وجود “عصائب الخزعلي” وغيرها من المجاميع الطائفية الإرهابية المرتبطة بالنظام الإيراني التي تفتك بالنسيج الإجتماعي العراقي.

وبما أن منطق التاريخ وحقائقه تثبت إن إرادة الشعوب الحرة هي التي تنتصر في نهاية جميع الصراعات، لذا فإن هذه الثورة ستفرض إرادتها على أرض الواقع بدحر السلطة الطائفية الجائرة، وقيام دولة الحقوق والعدالة والمساواة، وإن فجر الحرية قد بزغ.

د. عماد الدين الجبوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

الوسم : العراقداعش

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق