ثقوب في الجبة الإيرانية

ماذا تعني ذبابة على كتف إنسان منسي على أرصفة المدن المدمّرة؟ من يبالي به ومن يهتم لحياته أو موته؟ وربما لا يظهر في المشهد العام للحياة، ولا يمكن أن يكون جزء من جملة مفيدة تنقذ ما تبقى منه.

أتسمر ساعات أمام شاشة التلفاز متابعا طواف الدراجات الهوائية في بلدان تسعى لتوفير البيئة الخضراء والتعريف بقراها ومدنها ونشاطها ولو للحظات، والفرق تتبارى في سباق طويل، وكل فريق يضحي ويجتهد ويتعذب ليتقدم واحد منهم على الآخرين، يعملون المستحيل لتأخير الفرق الأخرى ومزاحمتها ليمر متسابقهم منتزعا جهودهم فيظفر بالمقدمة.

السينما كانت، تصنع نجم شباكها بتهميش دور الآخرين والكل يضحون بأرواحهم ويبعثرونها لينتصر بطل الفيلم على الأشرار أو الخيرين على السواء، وهو الذي ينتصر في الحب والمعارك، وللسينما العربية حكايا مع “السنيدة” وهي شخصيات داعمة للممثل الأول، يفرشون له الدور ليبدو سيد الشاشة وخاطف القلوب والأنفاس.

أما أفلام المافيات والعصابات فهي تُسَخّرُ الأسباب ليحيا البطل الموعود رغم المؤامرات والمكائد التي تدبر له، يتكاثر الأشرار في التفاصيل ويوغلون في تكبيد الآخرين الخسائر، في الأفراد والمعدات والمنشآت، وتتعاطف النفوس مع حلفاء وأصدقاء البطل الذين يبذلون الغالي والنفيس من أجل أن ينتصر كبيرهم ليصبح أكبر الزعماء في نهاية الفيلم، حيث تقدم الطاعات والاحترامات فيفرح المتفرجون ويتناسون الآلاف من الضحايا الذين سقطوا في الفيلم وسط الخراب ليتقدم نجم الشباك الأوحد.

أقود دراجتي الهوائية على طريقة “حلومي” في معبودة الجماهير وأغني “بحبها” متمايلا، لكن فجأة اصطدم بشاحنة محملة بأشرطة من تلفزيون الواقع لمهازل شخصيات متنفّذة حولت بلدانها إلى أرض تنعق فيها الغربان والفقر، ومع ما تداعى من الحياة في إصرار عجيب على خدمة مشروع البطل الإيراني “أبو جاسم لر” وتمريره إلى مقدمة السباق، ضاربين بعرض الحائط بالقيم الإنسانية، دون أن يتوقفوا ولو للحظة أمام هول وكارثة شعوبهم ومصيرها القاتم.

يتحدثون عن أرقام بعشرات المليارات من الدولارات عن الدعم الإيراني للنظام الحاكم في سوريا، لكي يستمر ويبقى في السلطة حتى ولو على أنقاض شامنا الحبيبة، والدعم يتم في زمن العقوبات الاقتصادية، وتعدد الثقوب في الجبة الإيرانية التي تستنزف الأموال وتبعثر الموارد.

على أرض الفطنة والحسابات النهائية، دول مثل العراق وسوريا ومجموعات هنا وهناك، تعمل جميعا كما في السينما المصرية “سنيدة” لدعم البطل الإيراني، ولا يهمها الملايين من اللاجئين والنازحين والمشردين وجياع وحجم ألعاب التدمير والتفجير والموت المجاني والعذابات التي فاقت صبر الصابرين.

خطتهم، كسب المزيد من الوقت وإعطاء الفرصة للمشروع الإيراني الشامل ومنه النووي، لن تنفع المفاوضات حول المصيبة السورية في المزيد من أرقام جنيف، لأن اللاعبين الثانويين عليهم تأدية أدوار إضاعة الزمن وفتح الطريق والمناورة وتأخير الجهود الدولية وإبطاء الحل واستخدام وسائل لتبرير العنف والاستفادة من لعبة الرعب في إيجاد مناخات لزرع كل أنواع النباتات الجهنمية وسقايتها حتى تنمو، بعدها يبدو الحاكم وسلطته من الملائكة والمنقذين وحمامات سلام.

إنهم يخدمون ويتخادمون لدفع المتسابق الإيراني إلى الفوز، وجمع النقاط في مراحل السباق المتعددة، وهو لا يبذل جهدا واضحا ويتلقى ما يديم حركته من أدوات وغذاء وعناية صحية، ليحتفظ بطاقته ونظامه وجماعته بعيدا عن الأزمات الكبرى، واضعا في حسابه، الرهان الحاسم على أتباعه والشعوب التي يتحكمون فيها لتشتيت الرؤية عن الهدف الأساس المنشود في التمدد، وفرض الشروط الممكنة وتقديم الطعون في المفاوضات النووية وحتى التنازلات لأغراض التفرد بالمنطقة كحقيقة واقعة، استثمرت النزوع المذهبي والطائفي لتحقيق أغراضها.

أزمات الاقتصاد في العراق، وعبارات قضم الأرض المتبادلة وما يقابلها من فرم المجتمع ونثره إلى مجموعات بدائية تتناهبها المشاريع الكبرى وتحولها إلى إبادات موزعة الاتجاهات، تصب جميعها في صورة اللا جدوى والتمزق والضعف، مقابل هيبة وقوة بلاد فارس وحلمها الإمبراطوري.

الحصيلة مفادها الخواتيم، الأدوار الثانوية ستضمحل، الشعوب ستجد طريقها فوق حطام الكراسي الملوثة بالدم، وعاصفة حزم مقابلة، أدخلت إيران في منطقة الحقيقة لتعيد النظر في سياساتها بحسابات مغايرة.

أعتقد أنها ستكون أكثر خبثا في استثمار الحريق الهائل على أرض العروبة، وتشعل الفتن والمكائد للإيقاع بكل الأطراف ومنها التضحية حتى ببعض “السنيدة” للإبقاء على حظوظها قائمة في نهاية المطاف لتقاسم النفوذ والتسليم بدورها في المنقطة.

الحقيقة ندركها في فصل كنا من بين تلاميذه، يوم لَقَنَ العراق حكام إيران درسا في إيقاف صادراتهم من الأمراض والفايروسات التاريخية، وأجبرهم على الركوع وتوقيع وقف إطلاق النار في الحرب الإيرانية العراقية، وهو درس ينبغي تكراره لإعادة الرشد إلى الحمقى. ثمة عواصف قادمة، تطرد الذباب وتعيد لشعوبنا دورها في جملة غدها المفيدة.

حامد الكيلاني

نقلاً عن العرب اللندنية

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق