تناقضات الإسلام السياسي الإيراني

رغم أن تناقضات إيران في ممارسة السياسة الدينية داخلياً وخارجياً يعود جذورها إلى العهد الصفوي (1501-1726)، إلا أن جمهورية إيران الإسلامية (1979-) الحالية لا تمثل إمتداداً صفوياً جديداً فقط، بل أنها فاقت على أسلافها حيث دفعت ببعض المفاهيم المذهبية وجعلتها في صلب الدين نفسه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فإن “التقية” صارت أصلاً من أصول الإسلام الإيراني، ولقد أشار الخميني (1902-1989) قائلاً: “وترك التقية من الموبقات التي تلقي صاحبها قعر جهنم، وهي توازي جحد النبوة والكفر بالله العظيم”.

وما أن رحل الخميني حتى رحلت معه بعض أهم أفكاره ومنها: “الشيطان الأكبر” أميركا، و”دول الأستكبار العالمي” العالم الغربي؛ وبحجة عملية الإصلاح السياسي في أوآخر تسعينيات القرن الماضي، بدأ التقارب مع ذلك “الشيطان” والتعامل مع “الأستكبار”، والتي أثمرت بالتعاون الإيراني مع أميركا في إحتلال بلدان إسلامية، أفغانستان 2001، والعراق 2003. وما قاله محمد أبطحي وهاشمي رفسنجاني وغيرهما من أقطاب النظام السياسي الإيراني عن تعاون إيران مع أميركا، هي من جملة الأدلة الساطعة على تناقضات رجال الدين الحاكمين.

تعتبر الفترة الزمنية ما بين (1979-1989) هي مرحلة المحافظين التقليديين في سياسة النظام الإيراني الإسلامي، ولقد اتسمت هذه المرحلة في “تصدير الثورة” إلى الخارج، وتحديداً إلى العالم العربي سواء بفكرة “وحدة المذهب” أو أن إيران “حامية الشيعة” حول العالم، وبالتالي ينبغي على الشيعيين أن يقدموا الهوية الطائفية على الهوية الوطنية في بلدانهم. وبالمقابل تقدم إيران إلى الشيعة المرتبطين فيها كافة وسائل الدعم المالي والإعلامي والتسليحي وغيره. كما ويجري نفس هذا الدعم للحركات والتيارات الإسلامية السّنية التي تتخذ من النظام الإيراني نموذجاً يحتذى به، الإخوان المسلمين نموذجاً.

وهكذا من خلال هذا المدخل الديني عملت إيران في مرحلة المحافظين أو عهد الخميني على مد أذرعها وخلاياها في الوطن العربي، لا سيما في بلدان المشرق. ففي الظاهر كانت إيران عبر وسائلها الإعلامية وعقد المؤتمرات الإسلامية والإتصالات ببعض الشخصيات العربية السياسية والفكرية والأكاديمية أن تعطي للآخرين نموذجاً محفزاً على الصحوة الإسلامية مما يعني تشجيعاً ضمنيا على تغيير الأنظمة الحاكمة، أو في الأقل زرع الفتن الطائفية وخلق المشاكل داخل المجتمعات العربية؛ إذ في الخفاء تروم إيران في مشروعها الصفوي الجديد إلى إحياء الإمبراطورية الفارسية عبر إطار الإسلام السياسي.

ولقد جاء في كلمة علي خامنئي، بالمؤتمر الرابع للفكر الإسلامي في طهران 1986، حيث يقول: أن “ما يعتبره قدوة للشعوب هو النظام الجمهوري الإسلامي، وما من نظام آخر تتخذه الشعوب قدوة لها اليوم. في الماضي كانت هناك نظم أستهوت أنظار الشعوب التي كانت تريد صنع مستقبلها بنفسها، أما اليوم فلا. أن البقعة النيرة التي يتطلع إليها الشعوب وهي تناضل وتضحي وتخاطر بحياتها، هي الجمهورية الإسلامية. والمسلمون من تلك الشعوب أقرب إلى ذلك، بطبيعة الحال. لأن المسلمين يرون أن شخصيتهم الإسلامية المضطهدة المحتقرة قد برزت اليوم في صورة نظام شجاع مهاجم، مقدام، تقدمي، مجرب، ولذلك فأنهم يحسون بالعزة والفخر”.

وفعلاً أستطاع النظام الحاكم في إيران أن يخلق له أتباع يأتمرون بأوآمره كما في “حزب الله” في لبنان، الذي تغول فيما بعد حتى أصبح دولة داخل دولة، أو “جماعة الحوثيين” في اليمن الذين وصلت قوتهم أن يقاتلوا الحكومة ويصلوا إلى مشارف العاصمة صنعاء. ناهيك بالكلام عن الأحزاب الدينية (الشيعية والإخوانية) الموالية لإيران في العراق. وأيضاً تمكن النظام الإيراني من صنع أنصار ومؤيدين له، منبهرين في نجاح النموذج الإيراني في العالم الإسلامي، فتحي الشقاقي مؤسس “حركة الجهاد” في فلسطين مثالاً.

كان الخطاب الإيراني المضاد لأمريكا وللغرب ولإسرائيل قد خدع الكثير من الجماهير العربية والإسلامية. فالقضية الفلسطينية قد تكررت كثيراً في كلمات الخميني: “لتعلم الشعوب العربية، والأخوة اللبنانيون والفلسطينيون بأن كل مآسيهم إنما هي بسبب إسرائيل وأمريكا”. و”على الجميع أن يعلموا أن هدف الدول الكبرى من إيجاد إسرائيل لا يقف عند حدود إحتلال فلسطين، فهولاء يخططون –نعوذ بالله– للوصول بكل الدول العربية إلى نفس المصير الذي وصلت إليه فلسطين”. وغيرها الكثير من التعبيرات الجاذبة لقلوب ملايين العرب والمسلمين.

بيد أن “إيران غيت” أو “إيران- كونترا” في 1985 جاءت لتفضح تناقضات ما كان يقوله الخميني ونظامه السياسي الديني، حيث أن أميركا كانت تمد الخميني بالسلاح عبر إسرائيل أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). وفي مقابلة مع صحيفة “هيرلد تربديون” الأمريكية بتاريخ 24-8-1981، أعترف الرئيس الإيراني السابق أبو الحسن بني صدر أنه أحيط علماً بوجود هذه العلاقة ما بين إيران وإسرائيل، وأنه لم يكن بمقدوره أن يواجه “التيار الديني” الذي كان متورطاً في التنسيق والتعاون الإيراني الإسرائيلي.

وفي 1980 قام أحمد كاشاني، النجل الأصغر لآية الله أبو القاسم كاشاني، بزيارة إلى إسرائيل لمناقشة مبيعات الأسلحة والتعاون العسكري ضد البرنامج النووي العراقي. ولقد أيد هذا الإتصال المسؤول الإيراني المنشق محمد رضا زاده الذي هرب من إيران عام 1985.

رغم أن حرب الثمان سنوات ضد العراق التي راح ضحيتها مليون مسلم، والتظاهرات الإيرانية بموسم الحج في مكة التي تحولت إلى مشاغبات وتصادمات دموية ضد الأمن والشرطة السعودية، وغيرها من الأفعال المتعلقة بتصدير الثورة أثناء فترة المحافظين التقلديين، قد كشفت شيئاً ملحوظاً من تناقضات إيران بين ما تحاول أن تظهره إسلامياً، وبين ما تعمل عليه بالخفاء عنصرياً وطائفياً. إلا أن تعاونها مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 9 أيلول/سبتمبر 2001، قد فتح باب التناقضات الإيرانية على مصراعيها بلا خجل ولا وجل.

ففي ختام أعمال مؤتمر الخليج في أبو ظبي بتاريخ 15-1-2004 أشار محمد أبطحي، مستشار الرئيس الإيراني محمد خاتمي، قائلاً: “لولا إيران ما سقطت كابل وبغداد”.

وفي حديث مع محمد علي الشيرازي، أستاذ الحوزة العلمية في مدينة مشهد، أجرته معه صحيفة “القبس” الكويتية، نشرته بتاريخ 15-10-2004 قال فيه: “إن من حق إيران أن تتدخل في شؤون الشيعة في كل مكان، لأنها هي ولية الشيعة، ووجود عناصر أستخبارية إيرانية بالعراق ليس جريمة سياسية، لأن العراق بلد شيعي وتوجد فيه العتبات المقدسة والمرجعية الدينية”.

أن التدخلات الإيرانية السلبية في البلدان العربية صارت معروفة للقاصي وللداني، فهي تمتلك مشروعاً سياسياً تسعى بكل الوسائل على تطبيقه، ولذا عندما وقعت أحداث 9 أيلول في أميركا سارعت إيران على أنتهاز هذه الفرصة حيث وظفت نتائجها بطريقة لوذعية مكنتها من أن تمارس نفوذاً معيناً في الساحة العربية، وخصوصاً في العراق الذي سيطرت فيه على صناعة القرار السياسي بشكل كامل، وكذلك دورها في الإنقلاب الفاشل الذي حدث في البحرين، وتلاعبها في الفصائل الفلسطينية وغيرها.

وعن العبارة الأخيرة المتعلقة بالجانب الفلسطيني، فإن الحرب الإسرائيلية الجارية الآن على قطاع غزة منذ نحو شهر، والذي راح ضحيتها قرابة الألفين شهيد، وأكثر من تسعة آلاف جريح ثلثهم من الأطفال، فإن النظام الإيراني وكالعادة يصرح بالأقوال دون الأفعال في نصرة الشعب الفلسطيني.

بمعنى آخر، في شهر آب/أغسطس 1979 أصدر الخميني إعلانه المشهور داعياً المسلمين إلى إحياء “يوم القدس العالمي” في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، معتبراً إحياء هذا اليوم أساساً ومبدأً للصحوة والنهوض وتحرير الأراضي المحتلة من الكيان الغاصب. ولكن منذ ذلك التاريخ وإسرائيل شنت العديد من حروبها العدوانية ضد الفلسطينيين، حيث تقتل الأبرياء المدنيين من نساء وأطفال وتدمر البيوت والمدارس والمراكز، دونما أن تشارك إيران بمواجهة عسكرية إسلامية ضد “الكيان الغاصب”!

والأنكى من ذلك لم نسمع أية فتوى قط تحض المسلمين في إيران للجهاد والإستشهاد على أرض فلسطين التي تضم “القدس” في حناياها.  بل قرأنا ما نقلته وكالة “أنباء فارس” شبه الرسمية في أوآخر حزيران/يونيو 2014 عن آية الله ناصر مكارم شيرازي، أحد كبار رجال الدين في إيران، قوله إن إعلان الجهاد “فريضة” للدفاع عن العراق بالكامل وخاصة المراقد الشيعية التي يزورها ملايين الحجاج الشيعة سنوياً.

إن ما يقوله مكارم شيرازي يأتي تأييداً لفتوى السيستاني، ولكن على نحو أوسع وأكثر خطورة؛ فمرجع الشيعة الأعلى في العراق علي السيستاني، إيراني الأصل، أفتى بالجهاد “الكفائي” أو الجزئي المرتبط بظرفية الوضع الراهن ضد الإرهابيين الدواعش. إلا أن المرجع العراقي العربي الشيعي آية الله محمود الصرخي الحسني قد دحض فتوى السيستاني، كون أن عناصر الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ليس لهم موقعاً محدداً يتواجدون فيه، وإنما متداخلين بين الناس، وبالتالي فإن مقاتلتهم ستزهق أرواح بريئة من المسلمين وغير المسلمين، وبذا لا يجوز إصدار فتوى بالقتال في هكذا حالة.

وبموافقة خفية من المرجعية في النجف أمر نوري المالكي بإرسال قواته “سوات” لمحاربة سماحة السيد محمود الصرخي وأتباعه وأنصار بطريقة وحشية بربرية لا صلة لها بالدين والأخلاق والإنسانية، ومنها سحل جثث الموتى بالشوارع. أقول بموافقة من المرجعية الدينية، لأنه في التاريخ السياسي العراقي الحديث لم يتجرأ حاكم ما أن يفعل ما فعله المالكي ضد مرجع ديني له وزنه العلمي وثقله الإجتماعي وتشعبه الوطني وروحه العروبية. فإن لم تكن للمالكي موافقة من جهة دينية عليا، فمن المحال عليه أن يُقّدم على تنفيذ هكذا فعل دموي في منطقة “سيف سعد” بمحافظة كربلاء، يوم الثلاثاء الموافق 1-7-2014. حيث شن المالكي هجوماً عسكرياً براً وجواً بشكل أودى بحياة الكثير من أنصار ومقلدي الصرخي.

أن التناقضات التي يمارسها النظام الإيراني تظهر بوضوح لدى أتباعه ومريديه من الذين يرتبطون معه في المشروع الإيراني الصفوي بالمنطقة العربية، ولذلك ما فعله المالكي في منطقة سيف سعد هي صورة مكررة من صور القتل والدمار الذي تمارسه قواته وميليشياته الطائفية في مناطق الفلوجة وجرف الصخر وتكريت وغيرها الكثير من الأماكن في المحافظات العراقية. بل أن سلوكية الثقافة الثأرية مستمرة في النهج والمنهج الصفوي قديماً وحديثاً. ومنها ما حدث يوم الأثنين الموافق 4-8-2014 عندما قامت قوات المالكي بحرق قبر صدام حسين وكذلك قبر أمه وولديه، وأراد المالكي بهذا الفعل أن يقدم للنظام الإيراني ثأراً قبل قدوم تاريخ 8 آب/أغسطس لأن في تاريخ 8-8-1988 أنتصر العراق على إيران، وحينها قال الخميني إنه تجرع السم وهو يوافق على مرارة الهزيمة.

أن حرق القبور هي من السلوكيات التناقضية التي مارستها الصفوية سابقاً، إذ أن أسماعيل الأول (892-930 ه/1487-1524 م) عندما توجه إلى بغداد في عام 914 ه/1508 م، فقد فعل بأهلها القتل والنهب والتدمير، بل وفعل ما لم يفعله الوثني هولاكو التتري، حيث نبش القبور وأحرق عظام الموتى. وفي هذا الصدد كتب المؤرخ والفقيه بدر الدين الحسن أبن شدقم (1526-1587) في: “تحفة الأزهار وزلال الأنهار” قائلاً: “فتح الشاه إسماعيل بغداد وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشد أنواع العذاب حتى نبش موتاهم من القبور”. وهدم المساجد ونكل بالأضرحة منها أبو حنيفة وعبد القادر الكيلاني، وأعدم بطريقة شنيعة كل مَنْ ينتسب إلى ذرية خالد بن الوليد.

ومن هنا تُعتبر تناقضات الإسلام السياسي الإيراني ليس أكثر من إمتداداً طبيعياً لِما كانت عليه الدولة الصفوية، سواء في نهجها الطائفي أو سياستها مع الدول الغربية، حيث لم تخوض أي نزاع قتالي إلا مع المسلمين عموماً والعرب خصوصاً.

د. عماد الدين الجبوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق