تقاطع المصالح الإقليمية في سورية

لم تعد الثورة السورية مجرد صراع بين شعب يتوق إلى التخلص من نير عبودية نظام مجرم، عمد طيلة عقود أربعة على رهن مقدرات البلاد والشعب توظيفاً للحالة الطغيانية الأسدية. بل تحولت إلى مطمع تتنافس الدول الكبرى والإقليمية على اغتنامه، والصراع من أجله، سواء بوسائل سياسية، أو حتى المساهمة في الإجرام بحق الشعب السوري.

استدعاء الخارج إلى المعادلة السورية، كان حتمياً منذ بداية الثورة، لتقاطع الملفات الدولية في الشرق الأوسط من جهة، ولدور ومكانة هذه الدولة في البيئة السياسية الإقليمية من جهة أخرى، عدا عن تعمد النظام إلى انتهاج آليات الاستدعاء لهذا الخارج، عبر فتح البلاد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، أمام الروس والإيرانيين، ليتحرك منافسوهم باتجاه استعادة حالة المبادأة.

تشكل سورية محوراً مصلحياً دولياً، يمثل اكتسابها، تثقيلاً لميزان المصلحة ومنه ميزان القوة للدولة المستحصلة عليها، فعلى المستوى الإقليمي، هي البعد التوسعي لسياسات إيران وتركيا، ومستوى انضباط قوتها هو المعادل للقوة الإسرائيلية شرقاً. في حين شكلت سورية، محور التنافس الدولي، بين قوة قطبية تتآكل (الولايات المتحدة)، وأخرى تسعى للعودة إلى الساحة الدولية (روسيا)، لتجد كلتاهما، في الملف السوري، خط تماس يكاد يشابه خطوط الحرب الباردة.

أولاً، على المستوى الإيراني، تمثل سورية بعداً استراتيجياً للتوسعية الإيرانية في المشرق العربي بعد العراق، في مرحلة من مراحل إنشاء قوة إقليمية تمتد من أواسط آسيا إلى سواحل شرق المتوسط، معتمدة على آليات عدة، تبرز منها في الحالة السورية، توظيفات الآلية الطائفية، كآلية تعبئة تخدم المجموع المصلحي، كما تشكل سورية بعداً إحيائياً للاقتصاد الإيراني المحاصر منذ عقود، عبر صفقات كشف البعض منها، وما زال البعض الآخر قيد الكتمان. كما ويشكل الاستحواذ الإيراني على النظام السوري، وتوجيهه، آلية ضغط على الغرب في مؤتمرات التفاوض الدولي، حول نووية إيران، فالبراغماتية الإيرانية المعهودة في سياساتها الخارجية، قد تدفع بها، في حال تقدم الغرب بطروحات تفاوضية (النووي مقابل سورية)، إلى التخلي عن سورية إن لم تستطع اكتسابها والنووي معاً.

ويشكل البعد القومي في الفلسفة التوسعية السياسية الإيرانية، بعداً آخر لتلك التوجهات، في مناهضة قوة إقليمية تكبر هي الأخرى في المنطقة، أي القوة التركية، وتحد من تهديدات منافس إقليمي يلجأ للتهديد بين الفينة والأخرى، أي المنافس الإسرائيلي.

ويعتمد هذا الفهم الإيراني، على مفهوم القوة الصلبة، عبر الآليات العسكرية في دعم نظام الأسد، إن كان دعماً سياسياً لجهوده العسكرية، أو مساهمة استشارية عسكرية، أو إمداداً عسكرياً، أو مساهمة مباشرة في العمليات العسكرية. حيث تم استدعاء هذا الفهم الإيراني من قبل نظام الأسد منذ الأيام الأولى للثورة السورية، نتيجة ارتباط مصلحي وسياسي يعود لعام 1979.

ثانياً، على المستوى التركي، تكاد الأبعاد المصلحية الإيرانية تتكرر على ذات المستوى التركي (البعد الاستراتيجي، الاقتصادي، القومي التوسعي)، وإن كان في طور التشكل بعد، ضمن فهم اصطلح على تسميته بالعثمانية الجديدة، وما زال في طور القوة الناعمة، وإن كان يلج القوة العسكرية تدريجياً، عبر دعم محدود لقوات المعارضة السورية، وضمن مرجعية توجهات حلف الناتو، ومرجعية التحالف التركي- الأمريكي. وقد جاء الاستدعاء التركي، نتيجة لأبعاد عدة، كان أولها تقارب النظامين التركي والسوري في الفترات السابقة، لدرجة اعتقد فيها الأتراك أنهم قادرون على توجيه سياسات الأسد (النصائح)، ونتيجة للترابط الحدودي وإمكانية لعب دور حاسم، وخاصة بعد أدوار سابقة ناجحة في الثورات العربية الأخرى، ومحاولة لموازنة الدور الإيراني، وهي سياسة كانت تركيا قد انتهجتها مؤخرا -وإن كانت ما تزال في بداياتها- في العراق أولاً.

كما يشكل الانفتاح التركي جنوباً (عربياً)، إحدى الآليات الرديفة للسياسات التركية الجديدة، في التعويض من جهة عن تعثر مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعاملاً مثقلاً للوزن التركي السياسي في تلك المفاوضات من ناحية ثانية. لذا تعتبر سورية البوابة العربية لتركيا للولوج جنوباً، في سياسة تشكيل قوة إقليمية تركية، تتلقى بعضاً من القبول في المحيط العربي، نتيجة بعد ديني تمت إعادة صياغته تركياً.

ثالثاً، على المستوى الإسرائيلي، شكل نظام الأسد منذ عام 1973، حالة استقرار أمني وعسكري على جبهة الجولان السوري المحتل، أتاحت للقوة الإسرائيلية أن تتفرغ لملفات عسكرية أخرى، سواء داخل فلسطين المحتلة، أو ضمن الحالة التوسعية في لبنان منذ عام 1982، صحيح أن الدولتين تواجهتا في لبنان، لكن كان تواجهاً تنافسياً في السيطرة الاحتلالية عليه، فكلاهما أسهم في ارتكاب مجازر بحق الشعب اللبناني (المحتل سورياً وإسرائيلياً). ومن ذلك فالأسد كان منافساً وشريكاً لإسرائيل في لبنان، اعتمد على آلية “المقاومة” في إخراج منافسه لإحكام سيطرته، لكنه أخرج ذاته منه باغتيال الحريري. لكن آلية المقاومة هذه ما كانت لتشكل خطراً استراتيجياً حقيقياً على وجود الكيان الإسرائيلي بحد ذاته، ففيما كانت تشتد المنافسة على المكسب اللبناني، كانت جبهة الجولان السوري المحتل، مضبوطة أمنياً بالجيش السوري، دون أية اتفاقيات كالتي سطرها السادات.

فانفلات الضبط الأسدي لحالة “المقاومة” في لبنان من جهة، وللحدود مع الجولان السوري المحتل من جهة ثانية، عبر إسقاطه، أو تآكل قدرته الضبطية السلطوية، قد يدفع إلى إعادة إشعال جبهة آمنة منذ عقود أربعة، وإلى مغامرات مقاوماتية جديدة، قد تدفع بالكيان الإسرائيلي إلى تكثيف عملية عسكرية جوية على كامل لبنان، تعيد حالة من الذعر في شمال فلسطين المحتلة.

فاستمرارية الأسد، وكما صرح أحد رجالاته (رامي مخلوف)، تمثل الضامن الرئيس لأمن إسرائيل في المشرق العربي، وإسقاط الأسد، هو فتح الباب لمنح مزيد من القوة لمنافس إقليمي جديد، أو نشوء قوة سورية ذاتية (قد تكون إسلامية دون أن يشترط ذلك)، تعمد إلى أولوية استعادة الجولان السوري المحتل.

ومع إدراك الفهم الإسرائيلي لاحتمالية إسقاط الأسد، فإن إشغال القوة الذاتية السورية تلك بقضايا دون الجولان السوري المحتل، يبدو الأهم لديها، لناحية دعم توجهات تدمير كامل قدرات سوريا، ودعم توجهات انفصالية لجهات بعينها، إشغالاً للداخل السوري في ملفات قد تستغرق عقوداً، بعيداً عن طرح المواجهة من جديد.

وتتطلع دول إقليمية عدة، للعب دور قادم في توظيف أموالها، في عملية إعادة إعمار سورية، والتي قدرت كلفتها حتى بداية عام 2013 بما يقارب 200 مليار دولار أمريكي.

كما أن نشوء دولة مركزية ديمقراطية في المشرق العربي (سورية)، قد يشكل تهديدا ديمقراطياً لمحيط يشهد تنازعات طائفية ودكتاتورية، إذ قد تشكل سورية الديمقراطية المستقرة، مركز استقطاب حينها للقوى التحررية الجديدة، مما قد ينعكس على جغرافية المنطقة إضافة إلى تاريخها المقبل.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن الشبكة العربية العالمية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق