تفكك النظام الإيراني: قراءة في تنامي الإشكاليات القومية

يتضح لنا يوماً بعد يوم أن علاقة النظام – جمهورية إيران الإسلامية – بالشعوب في جغرافية إيران باتت مهددة أكثر من ذي قبل، والأحداث الجارية منذ عام 2009 على الأقل، تشير وبوضوح أن الدولة الإيرانية تعاني من جملة تحديات سياسية وقومية واجتماعية واقتصادية قد تطيح بقادة النظام الحالين الذين سرقوا الثورة من أصحابها عام 1979.

وبما أن هذه العلاقة بين الدولة والمجتمع في جمهورية إيران الإسلامية بنيت على أساس هش وغير موضوعي، ودونت -علاقة الدولة بالمجتمع- في إطار الدستور الحالي، والذي يعرف في إيران بـ “قانون اساسى”، فإن هذه العلاقة في واقع الأمر، شابها الكثير من التزوير والخداع بسبب ظروف خلقها رجال الدين ليتحكموا بالمزاج العام للمواطنين الإيرانيين، وخاصة في الأيام الأولى من الثورة الشعبية التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى ثورة إسلامية.

إشكالية الدستور الإيراني:

بما أن الدستور ينظم العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة وعلاقة السلطات فيما بينها من جهة ثانية، فإن الدستور في الجمهورية الإسلامية كتبه خميني في باريس بعجالة، واعتمد دون رغبة القوى السياسية والقومية المؤثرة في الثورة، وصوت عليه في ظروف غير طبيعية.

وبناءً على استنتاجات قادة الثورة -الملالي- عن الوضع العام للبلاد بعد انتصار الثورة على أن التعليم في إيران أيام الشاه كان سيئاً للغاية، وأن أكثر من 70% من الإيرانيين غير متعلمين -أي بمعنى أخر، أن الشعب لا يقرأ ولا يكتب-، ناهيك عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية المأساوية التي كان يمر بها المواطن في البلاد بعد الثورة، هذا من جانب. ومن جانب أخر، فإن الاغتيالات والإعدامات في صفوف المعارضين والسياسيين من مختلف فئات المجتمع السياسية والقومية كانت على أشدها، وبالجملة. وفي ظل هذا الوضع الضبابي، أصبح من الصعب جداً على عموم الجماهير أن تطلع على مواد الدستور الذي كتبه شخص واحد ذو خلفيات دينية متحجرة لا يعترف لا بالعرق، ولا بالمذهب، ولا بالحقوق السياسية، ولا بالحقوق المدنية، ولا بالقوانين الوضعية.

إن هذه الإشكاليات السياسية والقومية والاجتماعية والاقتصادية في الدستور الإيراني، أحدثت شرخاً كبيراً في الدولة وعلاقتها بالمجتمعات في جغرافية إيران الحالية، والتي بالأساس هي مجتمعات ذات توجهات قومية ودينية وثقافية وسياسية تختلف عن بعضها البعض، إلا أنه تم دمجها بالقوة من قبل النظام السابق -نظام الشاه- من خلال مشروع الأمة والدولة (ملت – دولت).

ومن الضروري بمكان، أن نشير إلى مفهوم مشروع “الأمة والدولة” والغاية الحقيقية منه، بحيث سعى الشاه من خلاله بناء دولة موحدة، ولغة واحدة، وجغرافية واحدة، كما أن الغاية الأهم من هذا المشروع هي إسقاط الحكومات المحلية والمستقلة كلياً عن المركز الإيراني، والتي كانت قائمة في تلك الفترة من جغرافية إيران السياسية الحالية، وذلك لبناء الدولة الجديدة التي تعرف اليوم بإيران، والتي روج لها عام 34-1936.

 وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن الجمهورية الإسلامية، أضافت أساليب وسياسات ممنهجة أخرى لم يكن معمولاً بها من قبل النظام البهلوي البائد. ومن هذه الإشكاليات سلب الأراضي التابعة للشعوب من أصحابها، ومنعهم من ممارسة حقوقهم القومية والتاريخية والتعليم بلغة الأم، والعمل على إحداث تغيير في التركيبة السكانية للمواطنين الأصلين في موطنهم التاريخي من خلال التهجير الممنهج، ونهب ثروات الشعوب الموجودة في أراضيهم ونقلها إلى الوسط الإيراني حيث يسكن الفرس، وبناء السدود على كبرى الأنهار الواقعة في أراضي الشعوب غير الفارسية ونقل مياه هذه الأنهر إلى المدن الفارسية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نقل مياه كارون الأحوازي إلى مدينة أصفهان ويزد، وفرض سياسة الأمر الواقع على رغبات الشعوب من خلال منعهم من إيجاد المؤسسات الأهلية والنوادي الثقافية والقومية السياسية الخاصة بهم.

هذه الإشكاليات وغيرها الكثير من الممارسات الممنهجة لنظام طهران تجاه الشعوب، والمكونات الاجتماعية والسياسية والدينية الأخرى، أفرزت كيانات سياسية قومية واجتماعية كثيرة تطالب بحقوقها وبقوة. كما إن هذه الكيانات، بدأت تظهر للعلن وتنتشر كالريح في جمهورية إيران الإسلامية، وباتت تشكل أهم التحديات للنظام في طهران وقد تطيح به آجلاً أم عاجلاً، ومنها:

 

سياسياً: في الواقع، إن طبيعة النظام الإسلامي -الشيعي- ممتنعة عن قبول الأخر، إن كان كياناً سياسياً أو ثقافياً. ومنذ أن استولى الملالي على سدة الحكم في طهران وإلى يومنا هذا، لم يسمحوا أبداً بإنشاء الكيانات السياسية والثقافية التي لا تستمد أفكارها من الحوزة والإيديولوجية الطائفية التي بُنِي عليها نظام الجمهورية الإسلامية. كما أن الملالي والمؤسسة الدينية استطاعوا أن يسيروا الجماهير من الهرم -القصد هنا ولاية الفقيه-، مستفيدين من قدسية الإمام/الولي الفقيه في الفكر الشيعي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). وهذا ما يصعب التغيير الذي سعت بعض المجموعات السياسية والثقافية من داخل وخارج مؤسسات النظام فعله.

فإن هذا الوضع السائد والمعمول به منذ ثلاثة عقود، والذي استمر بقوة النار والحديد، لم يعد بعد مقبولاً لعموم الجماهير مما شاهدنا في الآونة الأخيرة الكثير من الظواهر السياسية والقومية، والتي تعتبر خارجة عن المألوف في إطار نظام الولي الفقيه، والتي تطالب بحقها في تقرير المصير.

 

قومياً، تعتبر الشعوب في جغرافية إيران هي نقطة الضعف والضربة القاضية للنظام في طهران، فإن الدولة الإيرانية التي أسست على أسس قومية مذهبية فارسية بحتة في بدايات القرن المنصرم، كان قد تجاهل مؤسسوها كافة الحقوق الطبيعية لهذه الشعوب. وبناءً على هذا الوضع، فإن الأحداث الجارية في المنطقة التي باتت تتبلور إلى طموح سياسي ذات طابع قومي يتماشى كلياً والمزاج العالم لهذه الشعوب، والتي تربطها مشتركات تاريخية وقومية وثقافية ودينية وجغرافية بجوارها العربي والتركي والبلوشي والتركماني والكردي أكثر بكثير من الوسط الفارسي. فهذا الواقع المتصاعد يعتبر أهم التحديات التي تواجه الدولة الفارسية في طهران، والتي أرخت بظلالها على الرئيس حسن روحاني، وصناع القرار في الدولة، ليعين حسن روحاني الوزير السابق لوزارة المخابرات (اطلاعات) علي يونسي مستشاراً له للقوميات والأقليات الدينية، وليحاول الأخير ورئيسه أن يعالج هذه التحديات من خلال اعتماد النظام “منشور حقوق المواطنة”، والتي لم تكن موجودة -حقوق المواطنين- من ذي قبل، في جمهورية إيران الإسلامية.

 

اجتماعياً، إن المتتبع للشأن الإيراني مطلع على حجم التناقضات الثقافية والدينية والسياسية، وبالعودة للتاريخ، نجد الكثير من القضايا السياسية والقومية والثقافية والدينية التي طبقت بالقوة في جغرافية إيران، وخاصة في الوسط الإيراني حيث موطن الفرس. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن النظام الحالي الذي يستمد من تعاليم الشريعة الإسلامية -الشيعية القومية الفارسية- شرعيته السياسية، قد فرض توجهات اجتماعية ثقافية دينية أبدعتها المؤسسات الدينية للنظام، والتي لم يكن معمولاً بها من قبل النظام القومي السابق -النظام البهلوي- الذي يستمد شرعيته من التاريخ الفارسي القديم الذي كتبه المؤرخون الغربيون وعلى رأسهم “ديويد أستروناخ”، وما ترتب على ذلك من صناعة في التاريخ السياسي، والآداب والرسوم والسنن والفلكلور، ودمجها بالروح الغربية من خلال ما يسمى بـ” انقلاب سفيد” – أي الثورة البيضاء -، بحيث أراد من خلالها النظام البهلوي معاصرة الغرب في الحداثة والتطور من جانب.

ومن جانب أخر سعي الشاه الابن أن يظهر للعالم على أن إيران دولة قديمة ضاربة في عمق التاريخ كمصر مثلاً، وزيارته للأهرامات كانت في هذا الاتجاه. فهذا التوجه الذي اعتمد من قبل النظاميين البهلوي الملكي القومي، والإسلامي الشيعي أحدث شرخاً كبيراً في روحيات المجتمع الإيراني الحالي. لذا، نرى وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود على عمر الجمهورية الإسلامية، إلا إن جيلها الثالث بات أكثر كرهاً ورفضاً لسياساتها الاجتماعية والثقافية والدينية التي لا تتماشى ومتطلبات العصر والحداثة التي تخلف النظام في طهران عن مواكبتها بعشرات السنين.

إن هذه الظواهر الاجتماعية التي نشاهدها في المجتمع الإيراني كحالات الإعدام التي وصلت خلال العام الماضي من رئاسة حسن روحاني إلى 852 حالة، وذلك بناءً على تقرير للمقرر خاص للأمم المتحدة أحمد شهيد، وحالات “رش الاسيد على الفتيات” من قبل الباسيج في شوارع إيران، وصفحة “الحرية بالتدريج للنساء الإيرانيات”، و”أبناء الأثرياء في طهران”، و”أبناء الفقراء في إيران” على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر مدى التناقض والتناحر والرفض المتنامي لسياسات نظام طهران التعسفية بحق المجتمع الإيراني الذي يعاني من ضيق في العيش بسبب الوضع الاقتصادي المزري جراء الفساد الإداري والاقتصادي لكبار الساسة في إيران.

 

اقتصادياً: لم يعد بعد بإمكان المواطن الإيراني أن يتمتع بالحياة، فحديث المسؤولين الإيرانيين على أن القدرة الشرائية للمواطنين تراجعت إلى أكثر من 20% مقارنة بالعام الماضي، وهذا دليل قاطع على حجم المعاناة اليومية للمواطن الإيراني. حيث يؤكد “موسى الرضا ثروتي” العضو في لجنة التخطيط والموازنة في البرلمان الإيراني (مجلس الشورى الإسلامي) واستناداً لتقارير المجلس أنّ 15 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني أكثر من 20% من المجتمع الإيراني يعيش تحت خط الفقر!!

ومن جانب أخر، أكد نائب رئيس الجمهورية للتنمية الإدارية والبشرية بتاريخ 16/8/2014، على أن الجمهورية الإيرانية الإسلامية يوجد فيها أكثر من 10 مليون عائلة بحاجة مستمرة إلى مساعدات، وهذا يعني في حال أخذنا بعين الاعتبار أن كل عائلة مكونة من أربعة اشخاص، فإنّ هذا يعني أنّ في إيران الإسلامية قرابة 40 مليون شخص يعيشون على المساعدات، وهو ما يعادل أكثر من نصف سكان البلاد تقريباً.

ختاماً، وبناءً على ما تقدم، نستشف أن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في جمهورية إيران الإسلامية في تراجع مستمر، وهذا الوضع، بدون أدنى شك نتيجة لتراكم السياسات الخاطئة من قبل النظام في طهران. لذا، فإن تنامي هذه الظواهر السياسية والاجتماعية الخطيرة، كرش مادة الاسيد الحارقة على الفتيات اللواتي يرفضن الحجاب، والإعدامات المتتالية التي وصلت خلال العام الماضي إلى 852 حالة، يؤكد حقيقة واحدة لا لبس فيها على أن الأمور في طهران خرجت من سلطة الملالي، والقادم أسوأ بكثير مما نشاهده اليوم.

جمال عبيدي

مركز مستقبل الشرق للدراسات البحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق