تغييب الديمقراطية في الوطن العربي .. ضرورات وآليات إعادتها

إن افتقار المشهد السياسي العربي للديموقراطية، هو نتيجة فعل مقصود لفاعل معلوم، تعمد الالتفاف حول الديموقراطية خدمة لمصالحه، لذا ترى الدراسة، أن الديموقراطية ” مغّيبة “وليست” غائبة “، فالأول يعني القصد، والآخر يعني العفوية، وهذا ما استدعى استخدام تعبير “الإعادة” وليس “الاستعادة”، فآخذ الشيء يعيده لا يستعيده.

ورغم تعدد وجهات النظر حول مفهوم الديموقراطية، والذي هو مفهوم سياسي، اقتصادي، اجتماعي…، إلا أن الدراسة تعتمد هنا تعريفا سياسيا عام لها، حرصا على عدم الخوض في تفاصيل تخرج الموضوع عن مجراه، “فالديموقراطية بمعناها الواسع هي حق الشعب باختيار حكامه وممثليه، ومشاركتهم باتخاذ القرار، ومراقبة تنفيذه، والمحاسبة على نتائجه، إضافة إلى الحق بحرية الانتماء السياسي، وتشكيل أحزابه وتنظيماته”.

ومن هذا التعريف ترى الدراسة أن هناك طرفين للديموقراطية “السلطة”، و”الشعب”، فهما اللذان يشكلان الأرضية التي تنمو عليها الديموقراطية، وانتفاء أحدهما قد يعني بالضرورة انتفاء الديموقراطية.

ويرى إيليا حريق أن السلطة قضية جمع وتفريق في يدي حائزها، تماما كرأس المال، فلا بد من آلة تحول دون الشرذمة، وهدر السلطة كطاقة اجتماعية، فعندما تكون الحكومة واثقة من ذاتها، وملتزمة بالتحول نحو الديموقراطية، تتمكن من أن تشرف على عملية التحول، وتفسح في المجال أمام تنظيمات أهلية للمشاركة في الحكم، ومن المنتظر أن ينشط دور تلك التنظيمات الأهلية في إدارة دفة الدبلوماسية ويتزايد.

ويرى حريق أن النزعة الطبيعية للسلطة هي أن تتوسع، فإن لم تتوسع فلعلة لم تفعل، والذي يحد من تمادي السلطان في الحلبة السياسية، ليس الذهنية، بل تركيبة الحلبة، وبنية المؤسسة، واللاعبون فيها، وهنا يكمن الفرق بين النظام الديموقراطي، والنظام السلطوي، فالبنية السياسة في الأول تعددية تتنافس أقسامها، وتحد نفوذ بعضها بعضا، بينما البنية السياسية في النظام الثاني مركزية لا تسمح بالمنافسة الحقيقية.

من ذلك تولي الدراسة أهمية لطرفي الديموقراطية (السلطة – الشعب)، فالشعب هو صاحبها وممارسها، أما دور السلطة فيقتصر على الحماية والتنظيم لها، بحيث تحول دون تحولها إلى الفوضوية، وتطرح الدراسة سؤالها الأول: مَن مِن طرفي الديموقراطية غيب الديموقراطية، وما مصلحته في ذلك؟

وترى أن طرح عبد النور بن عنتر قد يفي بجزء مهم من الإجابة على هذا التساؤل، حيث يرى عنتر أن غياب الديموقراطية عن المشهد السياسي العربي غياب مزدوج، كما يقول محمد عابد الجابري، فهي غائبة على المستويين، السياسي (الحكم وأسسه)، والأيديولوجي (في المشروع النهضوي العربي)، فالفكر القومي برر تأجيل الديموقراطية باسم الكفاح من أجل الاستقلال والوحدة، ثم فيما بعد باسم الاشتراكية، أما التيارات الماركسية الشيوعية فوقفت ضد الديموقراطية التي رأت فيها وسيلة تستخدمها الطبقة البرجوازية لإحكام سيطرتها على الطبقات الكادحة، والتيار الليبرالي العربي المتأثر بقيم الحداثة الأوروبية، كان أيضا مع تأجيل الديموقراطية، ذلك أنه يعلم أن الأغلبية الشعبية ليست لصالحه، بل هي لسان الطرف المنافس له (السلفي) أساسا، وبالتالي فالديموقراطية عنده تفقد مسوغها، إن لم تسمح بحكم النخبة العصرية الليبرالية، أما الموقف السلفي، فهو يرفض الديموقراطية الغربية، كونها تجعل من الشعب مصدر السلطات، بينما مرجعية هذا التيار تقول بسيادة الله، والموقف التوفيقي بين السلفيين والحداثيين يدرك أنهم لن يقبلوا طرحه التوفيقي في أي استحقاق ديموقراطي…، في النهاية، كل طرف في الحكم أو في المعارضة، مع الديموقراطية بشرط واحد وأساسي، أن يكون هو الذي يحكم، هكذا أفرغت الديموقراطية من محتواها.

ويرى عنتر أن الأنظمة العربية تتفق على تأجيل الديموقراطية بحجة مجموعة من الذرائع، يذكر الأكثر رواجا منها:

  • عدم النضج السياسي.
  • حماية الوحدة الوطنية.
  • التنمية الاقتصادية.
  • الصراع العربي – الصهيوني.

ويعود عنتر ليعدد بعضا من أهم أسباب تغييب الديموقراطية في المشهد السياسي العربي:

  • بروز زعامات سياسية حظيت بتأييد واسع من قبل الجماهير، وبشعبية تعدت حدود الدولة الجغرافية، مما ساهم بشكل كبير في إطالة عمر الأنظمة الحاكمة، المبنية على الزعامات، مما أدى إلى صرف النظر عن ممارسات هذه الزعامات، وأنتج تراثا سياسيا قمعيا.
  • استبعاد مبدأ التعددية بصفة عامة من الممارسة السياسة، خوفا من استعمال الخصوصيات، وتحت ذريعة الوحدة الوطنية.
  • فشل الأنظمة وزعاماتها في تحقيق الأهداف التي وعدت بها شعوبها، وفي تحقيق الآمال التي علقت عليها، وانتشار الفساد أدخل شرعيتها في عملية التآكل، وحكمها في مزيد من التسلط.
  • لعبت الطفرة النفطية في السبعينات، دورا كبيرا في تحصين الأنظمة الريعية وغير الريعية، والتي سمح لها ارتفاع أسعار النفط، بتدعيم شرعيتها، عبر إشباع حاجيات الشعب المادية، هكذا أدت الحقبة النفطية، إلى غض النظر عن الممارسات القمعية للدولة.
  • تفشي الإدراك السلبي للديموقراطية، خلال عقود، بربطها بالانقسامات، إن لم يكن بالفتن.

في الواقع السياسي العربي، المناداة بالديموقراطية، لا تنبع دائما من قناعات سياسية حقيقية، فالبعض يطالب بها ليس لإصلاح اعوجاج الحكام، بل ليحل محلهم، وينطبق الحال على العديد من الأحزاب السياسية العربية.

  • أثر العامل الخارجي في تغييب الديموقراطية، من خلال تدخل الخارج لحماية بعض من الداخل المستبد، وهو الحامي بدوره لمصالح الخارج.

إلا أنه ومع هذا التغييب الطويل للديموقراطية، تعود كثير من الأنظمة العربية، إلى طرح صيغ منقوصة للديموقراطية، بل وأحيانا صيغا من الخارج – الولايات المتحدة –، في محاولة منها لتجنب المشهد العراقي، غير أن جميع هذه الصيغ ربما لم تبلغ بعد الحد الأدنى الديموقراطي، فهناك اليوم حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، لفتح باب الديموقراطية في الوطن العربي، فما هي ضرورات إعادة الديموقراطية؟

ترى الدراسة أن الديموقراطية من أهم عناصر حقوق الإنسان، وحقوق الإنسان وإن كانت لا توجد إلا في المجتمعات المنظمة سياسيا، إلا أنها حقوق سابقة على الدولة – كما يراها المذهب الليبرالي – ولا يحق للدولة انتقاصها أو تجميدها، وإن كانت قد سلبتها لفترة من الزمن، فقد آن أوان إعادتها لأصحابها، اعترافا لهم بإنسانيتهم أولا، والسماح لهم بالنهوض السليم بوطنهم ثانيا، هذا من باب أولى.

أما النقطة الأخرى التي تعتبرها الدراسة ذات أهمية بالغة، هي الغزو الاستعماري الجديد للمنطقة، والساعي إلى إسقاط الأنظمة العربية وتفتيت الوطن – كما يحصل اليوم في العراق –، فاليوم، الديموقراطية في صالح الوحدة، لا ضدها كما كانت بالأمس في عرف الأنظمة، خاصة وأن الأنظمة العربية قد فقدت الكثير من مشروعيتها أمام شعوبها، وبات مصيرها قاب قوسين أو أدنى من مصير النظام العراقي السابق.

ويرى الدكتور برهان غليون أنه قد أصبح من المتعارف عليه والمقبول دوليا اليوم، أن النخب العربية التي تحكم في أحد أهم المناطق العالمية حساسية، تفتقر للشرعية، وتنكر على شعوبها، أي نوع من الحقوق السياسية، بل والمدنية، وأنها بسبب تخلفها، وانعدام روح المسؤولية لدى قادة شعوبها، نحو الفقر والبؤس والانهيار، وأن مصلحة هذه الشعوب، بل من مصلحة العالم بأجمعه، استبدالها، وفرض معايير المحاسبة، والمشاركة الشعبية، أي الديموقراطية عليها، وهكذا بقدر ما أصبح أسلوب حكم هذه النخب، يفتقر إلى الأخلاقية، أصبح العمل ضدها بأي أسلوب، جاء مبررا أخلاقيا وسياسيا في نظر أعدائها، الذين هم اليوم بالدرجة الأولى حلفاؤها السابقون، أي الدول التي مهدت لها، ومكنتها من البقاء والاستمرار حتى الآن، والواقع، أن ما تعرضه الدول الكبرى الغربية، تجاه النخب العربية ونظمها الراهنة، التي ترى فيها، مثالا للفساد وفقدان الشرعية والاحترام معا، ليس شيئا آخر، سوى الاختيار بين قبول الوصاية الخارجية، ولو بصورة غير رسمية، والخضوع لقاعدة المحاسبة والمساءلة الشعبية، التي لا يمكن أن تعني شيئا آخر، سوى تنحيها عن السلطة، إن لم يكن إنزال العقاب القاسي بها، وتحويلها إلى قربان على مذبح تحالفات جديدة، بين قوى المعارضة المحلية، والقوى الخارجية.

إن المفارقة التاريخية اليوم، هي أن الأنظمة العربية مدعوة للحفاظ على مناصبها – وقد تكون المرة الأولى والأخيرة في التاريخ العربي –، من خلال إعطاء كل ذي حق حقه، ومن خلال الكشف عن آليات سلمية، يمكن من خلالها إعادة الديموقراطية إلى نصابها، وهنا يكمن السؤال الثالث للدراسة، فما هي آليات هذه الإعادة؟

فالديموقراطية قد تفرض من الخارج بقوة السلاح –حيث يدعي الخارج شرف فرضها على العرب–، وقد تأتي نتيجة لانقلابات ثورية تدرك القيمة الحقيقية للديموقراطية، إلا أن جميع ذلك –كما ترى الدراسة– يعتبر وسائل غير ديموقراطية، بل وسائل تنتقص من الإنسانية إنسانيتها، بعنفها ودمويتها، حيث أن الظرف التاريخي الذي تمر فيه المنطقة لا يسمح بأية تحركات عسكرية، تبرر للخارج تدخله في المنطقة، بحجة فرض النظام والأمن، بل من خلال آليات سلمية تكسب الأنظمة اللاشرعية شرعية، وتحفظ لها ما تبقى لها من ماء وجهها، أما م شعوبها، وأمام العالم، ومن أهم هذه الآليات، ديموقراطية المشاركة، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان.

ويرى عبد الغفار شكر أن المقومات الأساسية لديموقراطية المشاركة، هي:

  • احترام التعددية السياسية، والنقابية، والثقافية، وتوافر الحقوق والحريات المدنية، والسياسية، والأساسية، وإقرار مبدأ سيادة القانون، ودولة المؤسسات، وتداول السلطة من خلال انتخابات برلمانية، دورية، حرة، نزيهة.
  • توافر حد أدنى من الدخل، يضمن المستويات الغذائية، والصحية، والتعليمية، والسكنية، اللائقة بحياة كريمة، من خلال الالتزام بإشباع الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية.
  • حكم محلي ديموقراطي حقيقي، يقوم على انتخاب المجالس المحلية ورؤسائها، وإعطاء المحليات، على كافة المستويات، صلاحيات فعلية، في اتخاذ القرار، والتنفيذ، وتدبير موارد مالية محلية.
  • إطلاق الحرية كاملة للقطاع الأهلي، وسائر مؤسسات المجتمع المدني، طبقا لما أقرته الدساتير، من مبادئ عامة، وإنهاء الوصاية الحكومية عليها.
  • حرية وتعدد وسائل الإعلام.
  • ثقافة ديموقراطية، تقوم على قيم الحوار، واحترام الرأي والرأي الآخر.
  • تبني مفهوم جديد للتنمية، يقوم على التنمية للشعب وبالشعب.

هذه هي الآلية الأولى، أما الأخرى وهي المجتمع المدني، والذي عرفه شكر بأنه : ” مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال بين الأسرة والدولة، أي بين مؤسسات القرابة، ومؤسسات الدولة، التي لا مجال للاختيار في عضويتها “، فهذه التنظيمات، هي التي يقع على عاتقها، مسؤولية تأهيل المجتمع، وتربيته، وخلق المفاهيم السياسية، والعلمانية – بمعنى حرية الاعتقاد –، والقانونية، كل ذلك إن لم يكن أدلجته، بينما يحظر على الدول الحديثة تسييس الفكر لصالحها، والأدلجة القسرية لأفراد المجتمع، وتنحصر وظائفها في خدمة الفكر وحمايته من آليات الاستبداد والتسلط.

أما الآلية الثالثة، فهي حقوق الإنسان، والتي لا تنوي الدراسة الخوض فيها، لا لشيء، إنما للصورة السوداوية التي اصطبغت بها في الوطن العربي، وما على من سيعيد الديموقراطية إلى أصحابها، إلا أن يدرك، أن أولى وأهم خطواته، هي احترام حقوق الإنسان وصيانتها، إذ أن الإنسان العربي، اليوم – ودائما – هو حامل الفكر، وصانع النهضة، وحامي الوطن، فلا يمكن له أن يقوم بواجباته على أكمل وجه – خاصة أمام الخارج الغازي – إلا بتمتعه بحقوقه، فثقافة الدفاع عن الشيء تنفي بانتفاء الشيء، ونظام لا يحمي إنسانية مواطنيه، لن يجد من يحمي استمراريته، ووطن لا يكفل الحياة الكريمة لأبنائه، يدفع بهم للبحث عن بدائل لهذا الوطن.

وتدعو الدراسة إلى إقامة تحالف حكومي – شعبي، في محاولة للنهوض بالمجتمع العربي، من خلال مجموعة من خطوات العمل، قد تكون طرقا سلمية وسريعة لإحلال الديموقراطية، وإن كانت تمثل حلولا وسطا، إلا أن من الممكن أن تقود لحرق مراحل زمنية طويلة، ومن هذه الخطوات:

  • أن تحافظ الأنظمة العربية على مناصبها – وهذا هدفها الرئيس –، ولتكن أنظمة ملكية إن شاءت، لكن أنظمة ملكية دستورية، من خلال خلق منصب رئيس وزراء منتخب مباشرة من الشعب، وبغض النظر عن انتماءاته، وليمنح سلطات داخلية، بحيث يكون المحاسَب الأول أمام الشعب، بينما تحتفظ الأنظمة بدورها القيادي، والإشرافي، وإدارة السياسية الخارجية، والدفاع.
  • المصالحة مع المعارضة، وفتح الباب لعودتها واندماجها بالمجتمع، وإعطاؤها دورا في الإشراف على إدارة البلاد، من خلال إخراجها من الظل، حتى تكون هي الأخرى، مسؤولة مسؤولية مباشرة، أما أنصارها ومعارضيها، وقطع الطريق الخارجي عليها.
  • فتح المجال أما تجمعات المجتمع المدني – والتي هي أساسا ليست معارضة، وليست أحزابا –، لإعادة تأهيل المجتمع وتثقيفه.
  • وضع اليد على المشاكل الاجتماعية الكبرى، بدلا من محاولات التنكر لها، وذلك في محاولة لعالجها، والتي من أهمها في الوطن العربي، الطائفية، والإقليمية، والعشائرية، والعرقية، وانتقاص المرأة لدورها، ورفض الآخر، .. إلخ.
  • خلق ثقافة المصالح المشتركة، بدلا من الثقافات التي استهلكت، بدعوى التاريخ المشترك، واللغة المشتركة، والدين المشترك، ..إلخ. وذلك بربط أطياف المجتمع العربي، بمؤسسات اقتصادية أهلية، تقدم لها المساعدات الحكومية كالإعفات الضريبة وما شابهها، وذلك حين تنشأ بهدف التقريب بين أطياف المجتمع.

وفي النهاية، حين تكون الأنظمة على استعداد لولوج عالم الديموقراطية، فإنها لن تعجز عن إيجاد آليات العمل المناسبة لذلك.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن التجديد العربي

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق