تخبط أم مراوغة أمريكية في مواجهة الإرهاب

بات من المسلّم به أن إدارة أوباما هي من أكثر الإدارات الأميركية تخبطاً وتردداً في اتخاذ القرارات في الوقت الذي تواجه فيه عدداً كبيراً من المشاكل الداخلية والخارجية، في ظل انحسار واضح لدور الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، ووراثة الإدارة الحالية للمشاكل التي خلّفتها إدارة الرئيس السابق بوش الابن، وهو ما جعل الدولة الأعظم في العالم تمر بفترة أشبه بالمراهقة السياسية، وجعل من إدارة أوباما إحدى أكثر الإدارات الأميركية ضعفاً.

هذا السياق ربما يفسر لنا التصريحات الأخيرة لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي لم تكن إلا انعكاساً لهذا التخبط وحجم الضغوط السياسية التي تعانيها الإدارة، وإلا كيف نفسر التصريحات الاستفزازية لنائب الرئيس الأميركي، والتي ربط فيها بين تمويل الإرهاب ودعمه في سوريا والعراق وبين دول هي شريكة للولايات المتحدة في التحالف ضد تنظيم «داعش»، ومنخرطة عملياً في الحرب ضده إلى جانب واشنطن؟

وإن كان هذا مستغرباً في التوقيت الحالي فالأغرب منه هو الزج باسم دولة الإمارات بين أسماء هذه الدول، الأمر الذي ولّد انطباعات غير حقيقية حول دور الإمارات وسجلها في مكافحة الإرهاب، وهو سجل تعرفه الإدارة الأميركية قبل غيرها. وإذا كان نائب الرئيس الأميركي قد عاد واعتذر لدولة الإمارات عن تصريحاته، بعد إدانة الإمارات لتصريحاته، فما قيمة هذا الاعتذار وقد قدم اعتذاراً مثله لتركيا حول دورها في دعم الإرهاب، وهو دور مازال مستمراً إلى اليوم، فكيف تستوي المقارنة بين سياستين متناقضتين إزاء دعم الإرهاب لكل من دولة الإمارات وتركيا الأردوغانية، وهو أمر يقلل من مصداقية اعتذار بايدن الذي اشتهر بالإدلاء بتصريحات ونقيضها في الوقت نفسه!

آخر من يحق له الحديث عن سياسات دعم الإرهاب هو بايدن الذي كان مساهماً في إدارة الملف العراقي خلال عهد بوش، وما تسبب فيه من كوارث للشعب العراقي مازال يعاني منها إلى اليوم. فبايدن هو من أيد حل الجيش العراقي السابق، وهو صاحب فكرة تأجيج الحقد الطائفي في العراق والمسؤولة عن نشوء وتفريخ التنظيمات الإرهابية هناك، بدءاً من عصابة الزرقاوي وانتهاء بـ«داعش». وبايدن هو صاحب فكرة تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية، وهذا يؤكد أنه لم يكن هو نفسه بعيداً عن صناعة الإرهاب في المنطقة والتسبب في انتشاره.

وليس خافياً على المراقب السياسي أن تفاقم خطر الإرهاب في المنطقة كان المتسبب الأول فيه هي إدارة أوباما، من خلال سياساتها في كل من سوريا والعراق، والتي هي أشبه بالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال كي لا يراها الصياد، وإلا كيف تقرر هذه الإدارة الانسحاب من العراق عام 2011 دون أن تترك وراءها جيشاً عراقياً قوياً قادراً على الدفاع عن بلاده في وجه الأخطار المحدقة بالبلاد، وخاصة مسألة قدرته على التصدي للإرهاب الذي استشرى خلال فترة الاحتلال الأميركي؟! ألم تكن هذه الإدارة هي التي تلكأت طويلاً في تسليح الجيش العراقي وتجهيزه لفترة ما بعد الاحتلال؟! وليس أدل على تخبط السياسة الأميركية في المنطقة من طريقة تعاملها مع انتفاضات «الجحيم العربي» وتحالفها مع جماعات الإسلام السياسي، خاصة جماعة «الإخوان» الإرهابية، والتي كانت حصان طروادة لكل التنظيمات التكفيرية في البلاد العربية، في ظل حالة الفوضى العارمة التي اجتاحت عدداً من دول المنطقة.

لقد كان التعامل مع الأزمة السورية منذ بدايتها أوضح مؤشر على تخبط هذه السياسة وترددها وعدم وضوح الرؤية بالنسبة لها، خاصة بعد أن تبنت سياسة دعم المعارضة السورية بالتنسيق مع تركيا، وهو أمر أدى في النهاية بإدارة أوباما للتغاضي عن دخول التنظيمات الإرهابية إلى داخل الأراضي السورية، على أمل إمكان التغلب عليها مستقبلاً من قبل «المعارضة المعتدلة»، ولكن الذي حدث هو العكس!

السياسة الأميركية المرتبكة هي التي مكنت «جبهة النصرة» وجميع تفريعات «القاعدة» من التغلغل في الساحة السورية، وما تطور إليه الوضع من بروز لتنظيم «داعش» الإرهابي وتغوله في شرق وشمال سوريا، مما دفع أوباما للسخرية من المعارضة السورية التي وصفها بالفنتازيا لمجموعة من الأطباء والصيادلة والبيروقراطيين العاطلين عن العمل، والتي يستحيل عليها امتلاك القدرة على إسقاط نظام الأسد! وهذه المعارضة السورية التي وصفها أوباما بهذه الصفات عاد مرة أخرى ليتبناها، في إطار التحالف الدولي الجديد، وقرر اعتماد مبلغ خمسمئة مليون دولار لتدريبها من أجل مساعدة التحالف في مواجهة «داعش» على الأرض، فأي تناقض وأي تخبط أوضح من ذلك؟! وهل يمكن مقارنة هذه السياسة الأميركية المتخبطة في مواجهة الإرهاب بالسياسة الإماراتية الحاسمة والواضحة وضوح الشمس في مكافحة الإرهاب، وهي ليست سياسة جديدة، بل إن التزام دولة الإمارات بمحاربة الإرهاب، والإجراءات الناجعة التي اتخذتها في هذا المجال، لا ترقى إليها السياسة الأميركية ذاتها، خاصة ما يتعلق بملف تمويل الإرهاب، والقوانين الصارمة التي أصدرتها الدولة لمواجهة هذه الآفة وكل ما يتعلق بخطر التطرف والإرهاب، وهو حس بالمسؤولية لم تملكه أميركا ولا أي من حلفائها.

دولة الإمارات، وخلافاً لتصريحات بايدن التي اعتذر عنها، لديها استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب محلياً وخارجياً، عرضها وزير الخارجية سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتعكس عمق التزام الدولة بالوقوف في وجه التطرف ومسبباته. وبكل بساطة ووضوح، فإن الإمارات تمثل نموذجاً تنموياً وثقافياً واجتماعياً يقوم على الانفتاح والتسامح والوسطية والاعتدال والتعايش بين الحضارات والأديان والمذاهب والثقافات المتنوعة، وهو نموذج على عداء مطلق مع الفكر الإرهابي الذي يسعى لإدارة عجلة التاريخ إلى الخلف، مهدداً الإنجازات التنموية وما تتطلبه من استقرار وأمن. هذا هو موقف قيادة الإمارات التي لا تسعى إلى توظيف الإرهاب لتحقيق مصالح آنية، بل تدرك حقيقة الإرهاب وتؤمن بأنه أكبر خطر على التنمية والتطور والتقدم في العالم.

سياسة الإمارات في سوريا والعراق كانت واضحة منذ البداية، فلم تتورط الإمارات في تمويل الإرهاب على الإطلاق، رغم اختلافها سياسياً مع النظام السوري، لكنها قدمت المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين في الأردن ولبنان، وكذلك الحال بالنسبة للاجئين العراقيين في كردستان، على عكس السياسات الأميركية التي تسببت في وصول السلاح الأميركي إلى أيدي “داعش”.

ولا شك أن تصريحات بايدن، المعتذر عنها، تطرح تساؤلات كثيرة عن جدية إدارة أوباما في مكافحة الإرهاب، وإمكانية نجاح التحالف ضد «داعش»، وحول النوايا الأميركية الحقيقية من وراء قيادة هذه الحرب التي يراد لها أن تستمر سنوات طويلة، وكأن «داعش» أقوى من ألمانيا النازية، ومدى جدية واشنطن في الضغط على تركيا لوقف دعمها لـ«داعش»، وسعيها للاستثمار في هذا التحالف من أجل احتلال أجزاء من شمال سوريا!

شكوك كثيرة يغذيها تخبط سياسات واشنطن وتناقضاتها، خصوصاً أننا لم نر منذ بداية ضربات التحالف ضد «داعش» سوى تزايد في تمدد التنظيم داخل سوريا والعراق!

د. سالم حميد

رئيس مركز المزماة للدراسات والبحوث

نقلاً عن صحيفة الاتحاد الإماراتية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق