تاريخ الاحتلال(4): الفرس يشوشون على السلام

سبق لنا أن ذكرنا أن الصراع الحزبي في إمارات الساحل وإمامة عُمان في القرن الثامن عشر تمثل في حزبين سياسيين وهما الحزب الغافري والحزب الهنائي، وبعد هزيمة الحملات الإيرانية على إمارات الساحل وإمامة عُمان عام 1745، انشقت الدولة العمانية إلى دولتين إحداهما بقت تحت حكم آل عرب (اليعربي) والأخرى لآل بوسعيد،

أما في إمارات الساحل والتي من الأساس كانت تتكون من إماراتين وهما إمارة بني ياس وإمارة القواسم، فقد تأثرا هما كذلك بالانشقاق العماني، وفي العام الذي يليه أي عام 1746 دخلت إمارة بني ياس ضمن حلف بنو هناءة وساندوا إمامة أحمد بن سعيد البوسعيدي، أما إمارة القواسم فقد دخلت ضمن الحلف الغافري وساندوا بلعرب بن حمير اليعربي.

اختلط الحابل بالنابل ودارت الحروب الأهلية من جديد في إمارات الساحل وإمامة عُمان وأصبح الحلفان الغافري والهنائي واتباعهما في صراع عسكري مستمر، هذا بخلاف التصفيات والاغتيالات التي نالت العديد من أقطابهما، ولا نودّ هنا الدخول في تفاصيل كثيرة عن الصراعات الداخلية في إمارات الساحل وإمامة عُمان لأن الموضوع الأساسي هو الصراع التاريخي مع الدولة الإيرانية.

لكن من الجدير بالذكر أن الدولة اليعربية قد تعرضت للسقوط من جديد من قبل أحمد بن سعيد البوسعيدي، وذلك بسبب العون العسكري الكبير الذي قدمته إمارة بني ياس النهيانية (الحزب الهنائي) لتعزيز حكم آل بوسعيد في الدولة العمانية، لكن إمارة القواسم (الحزب الغافري) لم ترضى بتلك الهزيمة وأعلنت الحرب ضد الدولة العمانية.واستمرت الحروب الطاحنة لسنين عديدة بين إمارة القواسم وآل بوسعيد في عُمان، خسرت خلالهما كلا البلدين الكثير من الأرواح.كما أن ظهور الوهابيين في بلاد نجد، شكّل تهديداً على إمارة بني ياس، فكان لابد لبني ياس تدعيم قوتهم بحلفاء أقوياء، فكان أحمد بن سعيد البوسعيدي أقوى حليف.

في العام 1748 تعرض حاكم بلاد فارس نادر شاه للاغتيال بسبب حركة المعارضة الشديدة التي تعرض لها على اثر هزائمه المستمرة مع خصومه سواء مع إمارات الساحل أو عُمان أو حتى الدولة التركية في العراق أو الأفغانية وأخيراً مع الهند وكأنه يريد أن يحارب جميع دول المنطقة! وقد أنهك ذلك نادر شاه بلاده بصراعاته المستمرة ورغبته في الدخول في حروب لا نهاية لها مع جميع جيرانه، وفي الأخير تم اغتياله على يد ابن أخيه عادل قولي لإراحة الشعب الإيراني من المغامرات المجنونة لنادر شاه، مع العلم أن ابن نادر شاه حاول مسبقاً التآمر على ابيه واغتياله لكن الأب اكتشف مؤامرة الابن رضا نادر شاه، فقام بسجنه وسمل عينيه.

أصبح الحاكم الجديد للدولة الفارسية هو عادل قولي شاه، ولكنه لم يكن بتلك الشخصية القيادية القادرة على السيطرة على بلاد فارس الكبيرة، بل أن مقاطعات إيرانية عديدة رفضت الاعتراف بالشاه الجديد وقاموا بتأسيس كيانات خاصة بهم، والغريب أن الدويلات الجديدة التي نتجت عن تمزق الدولة الإيرانية دخلت نفسها في حروب داخلية مع بعضها البعض، بينما الحاكم الجديد عادل شاه عاجز عن إعادة بلاده إلى رشدها، الأمر الذي دفع بالفرس إلى عزل عادل قولي شاه واختيار بدلاً عنه أحد القادة يُدعى كريم خان زندي عام 1748.

لم يتقبل حاكم مقاطعة بندر عباس الإيرانية “مُلا علي شاه” الحاكم الجديد على الدولة الفارسية كريم خان زندي، رافضاً الاعتراف به حاكماً على بلاد الفرس، وأعلن الانفصال عن الدولة وتأسيس كيان خاص به تحت مسمى دولة بندر عباس عام 1749، فقرر حاكم بلاد الفرس الجديد كريم خان زندي معاقبة ملا علي شاه.حينها، شعر الأخير بالخطر، فقام بمخاطبة إمارة القواسم يطلب النجدة من أمير القواسم الطاعن في السن الشيخ مطر بن ارحمه القاسمي، كوّن مدينة لنجة القاسمية قريبة من بندر عباس ولدى القواسم الأساطيل البحرية القادرة على مقارعة أساطيل الفرس، ووافق الشيخ مطر على طلب ملا علي شاه وارسل القطع الحربية العسكرية لحماية بندر عباس.ومن الجدير بالذكر هنا أيضاً، أن الشيخ مطر بن ارحمه قد شعر بالتعب من الحروب التي خاضها على مدى عشرات السنين السابقة ضد الفرس لتثبيت كيانه الكبير على ضفتي الخليج العربي، وقرر في العام 1749 التنازل عن العرش لصالح ابنه راشد، وذلك لبلوغ الشيخ مطر من السن عتياً.

شعر حاكم إمارة القواسم الجديد راشد بن مطر القاسمي بالضجر من الحروب المستمرة وغير المُستفاد منها مع آل بوسعيد في عُمان، وقرر فتح جبهة جديدة ضد بلاد الفرس ليعاقبهم وينتقم منهم على حملاتهم التي قاموا بها ضد بلاده، خاصة وأن مقتل الحاكم السابق نادر شاه قد أدى إلى إضعاف الدولة الفارسية، فكانت تلك الفترة الأفضل لمهاجمة الفرس وهم على ضعف.

وعقد الشيخ راشد القاسمي اتفاق تعاون مع حاكم بندر عباس ملا علي شاه لمحاربة الدولة الفارسية عام 1752، وأدى هذا التعاون أيضاً في العام التالي 1753 إلى ازدياد الهجرة العربية من إمارات الساحل إلى الساحل الفارسي لتدعيم الكيانات العربية التابعة لإمارة القواسم في بلاد الفرس، وكذلك مختلف الجزر المتواجدة في شمال إمارات الساحل خاصة جزيرة القسم (جسم) وجزيرة قيس، وذلك رغبة من الشيخ راشد بن مطر القاسمي في تعزيز الهوية العربية في تلك المناطق، كما شهدت إمارة القواسم تحسناً ملحوظاً في مجال صناعة السفن، وكان الشيخ راشد مصمماً على إعادة مجد آبائه، فأصدر أوامره بتعزيز الأسطول القاسمي بالمزيد من السفن العسكرية المعززة بأحدث المدافع.

وعلى الرغم من أن سكان جزيرة القسم هم في الأساس من العرب، يحكمها بنو معين (المعيني) إلا أنهم رفضوا أن يكونوا تحت حكم إمارة القواسم، فقام اثر هذا الرفض الشيخ راشد بن مطر بإرسال أسطوله لتخويف سكانها فقط، رغم أن سكان الجزيرة كانوا على استعداد تام لمحاربة القواسم، واكتفى الشيخ راشد القاسمي بمحاصرة الجزيرة مدة 6 أشهر، أذعن بعدها حاكم الجزيرة الشيخ عبدالله المعيني لمطالب الشيخ راشد بن مطر، بل أن الأخير قام بمصالحته وطيب خاطره وذلك في العام 1756.

ولكن المعيني لم يكن متقبلاً لحكم القواسم فطلب من حاكم عُمان، العدو اللدود للقواسم، أحمد بن سعيد البوسعيد العون ضد راشد بن مطر القاسمي، فاشتعلت الحرب من جديد بين القواسم والعمانيين عام 1758 حول مضيق هرمز.

في ظل التخبط المستمر الذي تعيشه الدولة الفارسية وفشل حاكمها كريم خان زندي، اندلعت في بلاد الفرس حركة معارضة شديدة وصلت إلى حد استخدام السلاح في وجه رجال السلطة، وعُرفت حركة المعارضة في بلاد الفرس بالحركة “الزندية”، لكن الحاكم الجديد كان عاجزاً أيضاً عن توحيد الكيانات التي انفصلت عن الوطن الأم.

وإحدى تلك الدويلات المنشقة هي ولاية “لار” التي دخلت في حرب هي الأخرى ضد ولاية بندر عباس وتمكنت من هزيمتها عام 1760، وتم سجن حاكم بندر عباس، وعندما علم حاكم القواسم الشيخ راشد بن مطر بذلك، أمر بتحريك أسطوله نحو بندر عباس، وفوجئ القواسم ببني معين في جزيرة القسم ووقوفهم مع الفرس ضد القواسم، وفتحوا نيران مدافعهم ضد أسطول القواسم لمنعهم من النزول في بندر عباس، وكان الشيخ راشد بن مطر يقود بنفسه الأسطول القاسمي.

وعندما أيقن من نقض عبدالله المعيني للاتفاق المبرم بينهما أصدر أوامره بإلقاء القذائف من على سفن “الرحماني” المقاتلة، فكانت قذائف الأسطول القاسمي تدك الحصون العسكرية في جزيرة القسم دكاً، ودمرت الحصون خلال دقائق وتم إنزال كتائب عسكرية من القوات القاسمية في الجزيرة فيما فرّ حاكمها إلى هرمز ومنها إلى عُمان ليطلب النجدة من آل بوسعيد.

وعلى اثر الانتصار القاسمي خاف الفرس وقاموا بإطلاق سراح حاكم بندر عباس ملا علي شاه الذي انطلق على الفور نحو سفينة الشيخ راشد بن مطر.

وعلى الرغم من إطلاق الفرس لسراح مُلا علي شاه إلا أن ذلك لم يثنه عن مهاجمة بندر عباس، فكانت السفن القاسمية تطلق نيران القذائف الثقيلة على حصون بندر عباس، والدفاعات الإيرانية عاجزة عن صد تلك القذائف أو الرد بمثلها، مع العلم أن عدد المقاتلين القاسميين كانوا نحو ألف مقاتل فقط، ولكنهم استطاعوا وفي يوم واحد أن يهينوا دولة بضخامة بلاد فارس.

وبينما الأسطول القاسمي كان مشغولاً بالحرب ضد الفرس في بندر عباس، قام الأسطول العماني بمهاجمة الكتائب القاسمية في جزيرة القسم، الأمر الذي دفع بالشيخ راشد بن مطر بالانسحاب من بندر عباس والتوجه نحو القسم لمحاربة الأسطول العماني، وذلك يوم 24 من شهر يونيو عام 1760.

لكن حاكم القواسم كان المهم عنده اسقاط بندر عباس، ولم يكن راغباً في الدخول في مناوشات مع العمانيين.

من جهته، كان حاكم الفرس الجديد كريم خان زندي خائفاً من قوة الأسطول القاسمي والخطر الذي يشكله على بلاده في ظل عدم امتلاكه لأسطول يضاهي قوة الأسطول القاسمي، فقام عام 1762 بفتح قنوات اتصال على دول أوروبية عدة كبريطانيا وهولندا وفرنسا، يعرض عليهم افتتاح المكاتب التجارية لهم مقابل مساعدتهم العسكرية ضد إمارات الساحل، كما أن الوجود العربي وكثرة الجاليات العربية في جنوب شرق إيران سبب الكثير من القلق له، على اعتبار أنهم خونة وسيقفون مع العرب ضد الفرس، فكان لا بد من طردهم عبر الضييق عليهم ومعاملتهم بدونية في بلاد الفرس.

كان الشيخ راشد بن مطر على وشك احتلال مدينة بندر عباس لولا تدخل الأسطول العماني الذي حال دون انتصار الأسطول القاسمي على بندر عباس.

حينها، استعمل القاسمي لغة العقل وقرر التصالح مع الجميع، فيما عاد الشيخ عبدالله المعيني إلى جزيرة القسم ليحكمها من جديد بمباركة بلاد الفرس التي اعتبرت المعيني من رعاياها، وعاد الأسطول القاسمي إلى رأس الخيمة عام 1763، بعد أن تم الاتفاق على الصلح بحيث يتم تقسيم موارد جزيرة القسم على ثلاثة حصص تذهب إلى إمارة القواسم وآل معين ومُلا علي شاه في بندر عباس، مقابل أن يفك الشيخ راشد بن مطر حصاره عن جزيرة القسم، مع السماح للسفن القاسمية بالرسو في جزيرة القسم.

وكذلك دخل أمير القواسم راشد بن مطر في معاهدة صلح مع أمير عُمان أحمد بن سعيد في العام نفسه 1763.

عندما علم حاكم الفرس كريم خان زندي بالاتفاق الذي تم بين حاكم جزيرة القسم الموالي لبلاد الفرس عبدالله المعيني مع حاكم إمارة القواسم الشيخ راشد بن مطر، قام كريم خان بمعاتبة المعيني على تلك الاتفاقية وطالبه بإلغائها من طرفه.

وبالفعل، هذا ما قام به المعيني للمرة الثانية، وألغى ثاني اتفاق له مع إمارة القواسم في العام 1764 إرضاءً لكريم خان زندي.

ومع الدعم البريطاني والفرنسي والهولندي للدولة الإيرانية، بدأ حاكمها كريم خان زندي بقرع طبول الحرب من جديد، وقام     بمضايقة السكان العرب في جنوب شرق إيران، ومضايقة السفن التابعة لإمارات الساحل في الخليج العربي في رسالة مفادها

“هل من مبارز يا إمارات الساحل؟”.

 

د. سالم حميد

رئيس مركز المزماة للدراسات والبحوث

نقلاً عن ميدل ايست اونلاين

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق