تاريخ الاحتلال(3): ملحمة عُمانية

قامت القوات الإيرانية بإعادة ترتيب أسطولها الذي انهار أمام أسطول القواسم، وتم اتخاذ ميناء بندر عباس مركزاً رئيساً لإدارة عمليات الأسطول الإيراني في العام 1741. ثم قاد الفرس حملة بحرية أخرى لمهاجمة جزيرة “قيس”، مع العلم أن جزيرة قيس كانت إحدى ملحقات إمارة بني ياس، ولكن الأسطول الفارسي مُني بخسارة أخرى وانسحب من الجزيرة.

من جهة أخرى، كان أمير عُمان سيف بن سلطان اليعربي، غارقاً في الملذات، خاصة بعد أن تحررت بلاده من الفرس، فقرر العُمانيون الانقلاب عليه، ومن جديد اندلعت الحرب الأهلية العُمانية عام 1741، وتم اختيار الأمير سلطان بن مرشد اليعربي إماماً جديداً على إمامة العُمانية، ولكن سيف بن سلطان استمر في مقاومة حركة الانقلاب.

واندلعت حرب أهلية مميتة في الدولة العُمانية ذهب ضحيتها آلاف الناس من الجند والأبرياء في مدن عُمانية عدة، بينما الأعداء يراقبون الوضع المتدهور الجديد في الدولة العُمانية، وتعرضت قوات الأمير سيف بن سلطان للهزائم المتتالية ثم فرّ إلى مدينة خورفكان ومنها إلى مدينة رأس الخيمة.

لم يتعلم سيف بن سلطان الدرس السابق من خيانة الفرس له، وبدلاً من أن يتعظ من ذلك الدرس، قام بإرسال وفد عُماني إلى حاكم الفرس نادر شاه مرة أخرى يطلب منه العون العسكري لمحاربة الدولة العُمانية، مع تعهد سيف بن سلطان بأن تكون كامل أراضي إمارات الساحل وإمامة عُمان تحت الحماية المجوسية الإيرانية!

لم يصدق نادر شاه نفسه مرة أخرى وهو يتلقى هذه الكعكة الدسمة من سيف بن سلطان، وكان في غاية السعادة من عرضه السخي، ووافق على الفور متعهداً نجدة سيف بن سلطان، ثم أمر قادة أساطيله البحرية بسرعة التحضير لحرب جديدة، وتم إعداد جيش ضخم بلغ تعداد جنده 6 آلاف جندي إيراني، وانطلقت الحملة العسكرية الثانية من ميناء بوشهر الإيراني وتحديداً في شهر أكتوبر من العام 1742، وسقطت مدينة رأس الخيمة من جديد بينما كان سيف بن سلطان سعيداً للغاية بهذا السقوط، ونزل القائد البحري الإيراني من سفينته ليستقبله الخائن سيف بن سلطان استقبال الأبطال!

بمجرد سقوط رأس الخيمة، بدأ الفرس ومعهم سيف بن سلطان في إعداد العدة وترتيب جيوشهم، خاصة بعد تلقي الدولة الفارسية المزيد من الدعم الأوروبي وتزويدهم بأحدث السفن الحربية الأوروبية، هذا بخلاف المدافع الأوروبية الثقيلة ذات القدرة التدميرية القوية التي تستطيع دكّ حصون الخصوم، وبعد أن تم تشكيل الفيالق العسكرية انطلق بعضها من رأس الخيمة نحو مدينة صحار، وفيالق أخرى انطلقت نحو مسقط ومطرح.

وتعرضت مدينة صحار للخراب على أيدي الفرس وكذلك قرية قريات وتم استباحة أهلها من دون أدنى رحمة، فيما صمدت مدينة مسقط أمام العدوان، واشتبك الجيش العُماني مع الإيراني في معركة مميتة وحامية الوطيس، وكان كلا الجيشين يتبادلان قذائف المدفعية، وعندما أدرك الجيش الفارسي أنه على وشك الانهزام انسحب نحو مدينة روي واستباحها، ثم انطلق نحو مدينة بركاء واستباحها هي الأخرى.

كان قائد الجيش العُماني اسمه سيف بن حمير اليعربي وأثناء المعركة تعرض لطلقات نارية عدة، توفي على اثرها ما سبب نوع من الخلل لدى الجيش العُماني، فقام الفرس بمهاجمة مسقط من جديد بقيادة قائد اسمه “كلب علي”! لكن الدفاعات المسقطية حالت دون تمكن الفرس من احتلالها، فتم حصار المدينة بأوامر من قائد أساطيل الفرس تقي خان، الذي تم إعادة المنصب إليه من جديد، بينما كان أمير عُمان سلطان بن مرشد في حالة من الارتباك بعد مقتل قائد جيشه سيف بن حمير اليعربي، فقام بقيادة الجيش العُماني بنفسه.

واستطاعت مدينة مطرح صد الهجوم الفارسي، فقام الفرس بترك مطرح وتركيز كافة طاقاتهم بكل عزم وقوة على تدمير العاصمة العُمانية مسقط، فكان الهجوم الفارسي كاسحاً بالفعل، وتمكنوا من صعود أسوار مسقط، وذلك عبر استخدام السلالم الكبيرة، فكانت مذبحة لا مثيل لها في تاريخ مدينة مسقط، حيث كانت المدينة غارقة في أنهار من الدماء والفرس لا يكفون عن هدر دم أي كائن حي يصادفونه.

واستمرت المعارك في الشوارع وفي الأزقة بين العُمانيين والفرس، وهرب إمام عُمان سلطان بن مرشد إلى مدينة الخابورة لإعادة تنظيم صفوف جيوشه من جديد وتطهير بلاده من الفرس.

ووقف سيف بن سلطان مذهولاً أمام وحشية الفرس وهم يجزون أعناق أهله وناسه، ولم يكتفِ الفرس بذلك، بل كانوا يتلذذون في التمثيل بالجثث وقطع الرؤوس ووضعها على الرماح، بينما النساء تنتحب والأطفال يهرولون عبثاً خوفاً من الفرس الذين لم يرحموا براءة الأطفال، وأطلقوا النيران عليهم أمام أمهاتهم.

ووقف سيف بن سلطان أمام هول المنظر من جديد..ينظر بأعين دامعة إلى بلاده التي كان سبباً في خرابها، بينما كان قائد الفرس تقي خان يضحك فرحاً بما لطخته يداه من دماء الأبرياء! حينها قرر بن سلطان ترك الحياة السياسية والانسحاب، وهرب من المجوس وتوجه نحو مدينة الحزم، ودخل إحدى قلاعها وبقي فيها إلى أن مات.

في عام 1744، استمر الفرس في حملتهم العسكرية ضد عُمان بقيادة كلب علي وإشراف تقي خان، وتوجه الجيش الفارسي نحو مدينة صحار، واستمرت المعارك التي بلغت من شدتها أن تناثرت الجثث من كلا الجيشين أثناء إطلاق قذائف المدفعية من كلا الجانبين، وكان الجيش العُماني قد أُنهك كثيراً، خاصة أن الفرس كانوا يمتلكون أحدث الأسلحة الأوروبية، بينما الجيش العُماني لا يزال يحارب بأسلحة عتيقة.

حينها، أدرك إمام عُمان سلطان بن مرشد اليعربي أن حرب القذائف المدفعية غير متكافئة نظراً لتقدم وتطور المدفعية الإيرانية، وقرر الاستعانة بفرسان بادية الظاهرة من البدو الأشداء.

ولبى البدو النداء العُماني، واندفعوا نحو كتائب الجيوش الفارسية ليباغتوهم على حين غفلة، ويجزوا أعناقهم، بينما ظل الفرس عاجزين عن محاربة البدو الذين كانوا يتحركون بكل خفة ومهارة على ظهور الجياد العربية الأصيلة، وأجبروا الفرس على التقهقر.

ولكن كان عدد فرسان البادية قليلاً بالمقارنة مع آلاف الجنود الفرس، هذا بالإضافة ضخامة الأسطول الفارسي الذي كان يدك مدينة صحار من البحر، بينما القذائف البرية تدك هي الأخرى المدينة من جهة البر.

ولم يجد إمام عُمان حلاً سوى جر الجيش الفارسي ناحية الصحراء، لكسب أكبر قدر من مساعدة البدو، ولم تهدأ أصوات النيران إطلاقاً لا في النهار أو الليل.

والغريب أن الفرس بقوا مصممين على تكملة الحرب مهما بلغت الخسائر، ومع زيادة المدد من فرسان بادية الظاهرة زادت حدة المعارك وقُتل قائد الجيش الفارسي كلب علي، الأمر الذي رفع من معنوية الجيش العُماني وامتطى إمام عُمان سلطان بن مرشد جواده ورفع سيفه ليرفع من معنويات جنوده من ورائه.

ودخل سلطان بن مرشد أرض المعركة وهو يهلل من على حصانه “الله أكبر”، يضرب الجنود الفرس بسيفه حتى تكاثر عليه الفرس مشكلين حلقة دائرية لعزله عن بقية جنده وأطلقوا عليه النيران فسقط عن جواده ثم تكاثرت عليه سيوف الفرس، لكنه وقف وقاتلهم، واندفع بقية العُمانيين لنجدة مولاهم، وكان سلطان بن مرشد بالكاد قادراً على حمل نفسه، وامتطى جواده من جديد ودخل حصنه وهو مثقل بجراحه ولفظ أنفاسه الأخيرة أمام أهله وذلك في 20 يونيو/حزيران من العام 1744.

وكان سلطان بن مرشد اليعربي يعتبر آخر أمراء الدولة العُمانية من اليعاربة، وبذلك خسر الفرس قائدهم كلب علي وخسر العُمانيون مولاهم سلطان بن مرشد اليعربي، وعلى الرغم من مقتل إمام عُمان بقي الفرس غير قادرين على اقتحام مدينة صحار التي بلغ عدد القتلى العُمانيين فيها نحو 3 آلاف قتيل.

كان أحد قادة الجيوش العُمانية اسمه أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي على يديه تأسست الدولة البوسعيدية عام 1744، والتي لا تزال تحكم الدولة العُمانية حتى اليوم، حيث بمقتل سلطان بن مرشد اليعربي ووفاة الخائن سيف بن سلطان اليعربي في حصنه، وكذلك مقتل مجمل أفراد الأسرة اليعربية، لم يبق أحد من الاسرة اليعربية يحكم عُمان، فقام قائد الجيش العُماني أحمد بن سعيد البوسعيدي بتولي الحكم بصورة مؤقتة، وشعر الفرس بخيبة أمل بعد وفاة الخائن سيف بن سلطان وقرروا التفاوض مع أحمد بن سعيد على الانسحاب.

وبعد هذا العام انقسمت الدولة العُمانية إلى دولتين إحداهما تحت حكم أحمد بن سعيد البوسعيدي وعاصمته صحار، والأخرى تحت حكم بلعرب بن حمير اليعربي وعاصمته الرستاق.

اتفق أحمد بن سعيد مع تقي خان على انسحاب القوات الإيرانية من صحار، شريطة بقاء حامية عسكرية إيرانية في مدينة مسقط وأن يدفع أحمد بن سعيد جزية سنوية إلى الفرس.

وعلى اثر هذا الاتفاق غادر الفرس الأراضي العُمانية في العام 1745، مع بقاء حاميتهم العسكرية في مسقط، وبعد مرور أشهر عدة لاحظت الدولة الفارسية عدم جدوى بقاء حاميتهم في مسقط، خاصة مع دخولهم في حرب أخرى مع الدولة التركية، ووجدت أنه من الأفضل استعادة قواتهم من عُمان واستغلالها في حربهم ضد الأتراك.

حينها، فكر أحمد بن سعيد البوسعيدي في قتل جميع أفراد الحامية الإيرانية، واعلمهم أنه يود اكرامهم وإقامة مائدة طعام على شرفهم في قلعة بركاء قبل مغادرتهم إلى بلادهم عبر ميناء مدينة بركا العُمانية.

وبمجرد دخول جميع أفراد الحامية الفارسية قلعة بركاء انهالت النيران والسيوف على رؤوس الفرس، وبقي منهم نحو 200 فرد، بكوا أمام أحمد بن سعيد أن يرحمهم من القتل، فعفا عنهم أحمد بن سعيد وأمر بطردهم إلى بلادهم، وأثناء ركوبهم البحر أراد بعض أفراد الشعب العُماني الانتقام منهم فقاموا بحرق سفينة الفرس فمات أغلبهم ومن بقي على قيد الحياة مات لاحقاً غرقاً.

وبهذا، انتهى الاحتلال الإيراني للدولة العُمانية في العام 1745، ولكن هل تعلّم نادر شاه من الدرس؟

د. سالم حميد

رئيس مركز المزماة للدراسات والبحوث

نقلاً عن ميدل ايست اونلاين

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق