تاريخ الاحتلال(2): خيانات وبطولات

بسبب خيانة الحاكم الخائن المخلوع سيف بن سلطان آل عرب، مكّن الأخير القوات الإيرانية من دخول بعض مناطق إمارات الساحل، وتم تشكيل جيشين فارسين، أحدهما في منطقة خورفكان والأخرى في صحراء الظاهرة الواقعة بين حدود الإمارات وعُمان، وذلك في فصل الصيف وتحديداً شهر يونيو من العام 1736.

وحاول أمير القواسم الشيخ ارحمة بن مطر القاسمي في رأس الخيمة مواجهة تلك الألوف المؤلفة من القوات الفارسية والتي بلغت أكثر من 4 آلاف جندي، لكنه خسر المعركة في العام 1737، كما تمكنت القوات الفارسية من هزيمة القوات القاسمية في بندر عباس بسبب الدعم اللا محدود من القوات الهولندية والبريطانية للفرس.

أما في بادية الظاهرة فقد خرجت القبائل البدوية لمحاربة الفرس ومن معها من الخونة من أسرة آل عرب العمانية، لكن الفرس تمكنوا أيضاً من تحقيق الانتصار على تلك العشائر البدوية الموالية لإمام عُمان، وقام الفرس بالتنكيل وتمزيق من بقي على قيد الحياة من بدو الظاهرة، وأعدموا من استسلم، ومن نجح في الهروب من أرض المعركة هلك من العطش في صحراء الظاهرة، وتباعاً لتلك الهزيمة استمرت القوات الفارسية في التقدم نحو بقية المدن العمانية التي بدأت في التساقط، ومنها البريمي وضنك وعبري ثم عادت مرة أخرى إلى رأس الخيمة، وكان القائد الفارسي لطيف خان في غاية السعادة من ذلك الانتصار معتقداً أن المعركة قد انتهت بالفعل، وأعلن نفسه حاكماً فارسياً على إمارات الساحل (إمارة القواسم فقط) وإمامة عُمان.

ساد الهرج والمرج في إمارات الساحل وعُمان بسبب هذا الانتصار الغير المتوقع من الفرس، فلولا الدعم والسلاح البريطاني الهولندي لما تمكن هؤلاء من تحقيق أي انتصار، ثم قام الحُكام والمشايخ في إمارات الساحل وإمامة عُمان في العام 1738 بإرسال الرسائل والخطابات المنددة والمستنكرة إلى الحاكم الخائن المخلوع سيف بن سلطان اليعربي بسبب اعتماده على مرتزقه من الفرس من أجل تحقيق الانتصارات على اشقائه.

ولم يضع في حسبانه أن الفرس هؤلاء كانوا يستمتعون بجز أعناق الأبرياء في كلتا البلدين إمارات الساحل وإمامة عُمان، لكن الغريب في أمر الخائن سيف بن سلطان أنه بدلاً من أن يندم على ما فعل قام بمخاطبة حاكم الدولة الإيرانية نادر شاه يطلب منه إرسال المزيد من القوات لتدمير المزيد من المدن في إمامة عُمان!

نادر شاه كان في غاية السعادة من خطاب سيف بن سلطان اليعربي، وفكرّ جدياً في ضم إمارات الساحل وعُمان على أنهما محميات فارسية! وأصدر أوامره لإرسال حملة عسكرية ثانية بقيادة القائد العسكري تقي خان، ووصلت الحملة إلى رأس الخيمة المنهارة من الضربات الفارسية المتتالية لها.

وحاول القواسم من جديد مقاومة الحملة العسكرية الفارسية الثانية لكنهم فشلوا، ونجح الفرس في إنزال المزيد من آلاف الجنود في رأس الخيمة ومن هناك توجهوا نحو بقية المدن العمانية، ومنها مدينة بهلا ثم نزوى، وكانت الحصون العمانية تتساقط من قوة المدافع الفارسية.

وبعد كل هزيمة عُمانية كان الفرس لا يبقون أحداً على قيد الحياة، وبلغ عدد القتلى العمانيين في بهلا ونزوى أكثر من 10 آلاف قتيل، ولم يرحم الفرس طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً ضعيفاً لا حول لهم ولا قوة في ظل مباركة سيف بن سلطان الذي مكّن الفرس من أهله وناسه وهو يشاهدهم يُقتلون على يد الفرس! ثم واصل الفرس تقدمهم وسقطت مدينة أزكى العمانية.

شعر سيف بن سلطان بعدم الأمان مع الفرس وخاصة مع قائدهم لطيف خان، بعد أن قرر الأخير بالتقدم نحو مدينة مسقط، مع العلم أن مسقط كانت لا تزال موالية سيف بن سلطان فلماذا يقرر الفرس مهاجمتها؟ حينها، أدرك الخائن فداحة الخطأ الذي ارتكبه في الدخول مع الفرس كحليف، فالفرس قوم لا عهد لهم ولا أمان!

عندما خشي الخائن سيف بن سلطان على نفسه من لطيف خان، هرب الخائن نحو مدينة بركا العمانية الموالية له أيضاً، فيما كانت القوات الفارسية تتقدم نحو مسقط، وبمجرد وصولها إلى أسوار المدينة لم يتوقع أهالي مسقط الخيانة الفارسية، لأنهم كانوا يعتقدون أن الفرس موالين لحاكمهم سيف بن سلطان.

وعلى حين غفلة فوجئت مسقط بقذائف الفرس البريطانية والهولندية الصنع وهي تدك حصون المدينة والقتلى يتساقطون والمدينة تحترق حتى تمكنوا من دخولها وإشاعة الفوضى والدمار فيها، وجز أعناق الأبرياء دون أدنى رحمة، وعلى اثر هذا الانتصار انطلق الأسطول الفارسي بقيادة تقي خان نحو مسقط لتثبيت الانتصار الفارسي على مسقط، ولكن سرعان ما دب الخلاف ما بين لطيف خان وتقي خان، وقام تقي خان باغتيال القائد لطيف خان، وقيل أن تقي دس السم في طعام لطيف.

عندما وصل سيف بن سلطان إلى مدينة بركا التقى هناك بإمام عُمان بلعرب بن حمير آل عرب (اليعربي) وأبدى أسفه على خيانته وعلى ما جلبه لشعبه من خراب وقتل وتدمير، وحينها أدرك فقط مدى بشاعة خيانته، ثم طلب من قبائل بني غافر الدعم العسكري لمحاربة الفرس، كما تنازل الإمام بلعرب بن حمير عن الإمامة ليصبح سيف بن سلطان إمام عُمان من جديد.

سبق لنا أن ذكرنا في الحلقة السابقة عن حيادية إمارة بني ياس النهيانية عن الحرب الدائرة بين إمامة عُمان والدولة الفارسية المجوسية، وآثروا عدم الدخول في صراع خارج حدودهم، ولكن عندما علموا أن الفرس قاموا بتلطيخ أيديهم بدماء الأبرياء من المستضعفين قرروا تقديم المساعدة للأشقاء، واستطاع سيف بن سلطان من توحيد جيوشه من جديد، وتشكيل عدد كبير من الكتائب العسكرية بقيادة خيرة فرسان بني غافر، فيما كانت الحاميات العسكرية الإيرانية تتساقط في مختلف المدن العمانية التي سقطت سابقاً بيد الفرس، وتم قتل الآلاف منهم، ولكن الأجداد لم يفعلوا ما كان يفعله الفرس في الأسرى، فالأسير الفارسي تمت معاملته على أنه أسير حرب ولكن الفرس كانوا يقتلون الأسرى، وتم تحرير كامل الأراضي العمانية من الفرس في العام 1739، ومن تم اسره تم بيعه في سوق الرقيق.

في العام التالي 1740 كانت إمارات الساحل، وتحديداً إمارة القواسم، تعد العدة للانتقام من الدولة الإيرانية على ما ارتكبوه في السنوات السابقة من جرائم في حق الإنسانية، وكان حاكم بلاد الفرس نادر شاه على علم أنه هالك لا محالة أمام انتقام إمارات الساحل، فطلب من جديد النجدة من بريطانيا وهولندا، فقامت الأخيرة بتزويد الأسطول الفارسي بالمزيد من السفن الأوروبية العسكرية المقاتلة والمتطورة، وكذلك شحنة مدافع بحرية حديثة.

وكانت ألمانيا تعتبر من أفضل الدول في العالم القادرة على تصنيع أقوى المدافع في القرن الثامن عشر، ونظراً لحاجة الدولة الفارسية للسلاح الحديث لمواجهة إمارات الساحل، سهلّت بريطانيا وهولندا عملية توريد المدافع الألمانية إلى الفرس.

وعلى الرغم من كافة الاستعدادات الفارسية والأوروبية لمواجهة رأس الخيمة، لم يكن الحلف الفارسي البريطاني الهولندي بذلك الند العسكري الذي يستطيع مواجهة أسطول إمارات الساحل، وكان الفرس يعتقدون أنهم سينتصرون، ولكن عندما التقى أسطول رأس الخيمة مع الفارسي في 12 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1740، كانت المدافع الأوروبية الحديثة عاجزة عن صد مدافع الأجداد العتيقة.

وأطلق الأسطول الإماراتي سيلاً جارفاً من النيران وكانت السفن الإيرانية والهولندية تغرق في مياه الخليج العربي، وغرقت نحو 22 سفينة إيرانية وهولندية، وشعر قائد الأسطول الإيراني تقي خان أن لا طاقة له في اكمال المعركة، فأصدر أوامره لبقية السفن بالانسحاب نحو جزيرة “القسم” (أو الجسم حسب التسمية الفارسية).

لكن قائد أسطول رأس الخيمة مطر بن ارحمة بن مطر أصدر هو الآخر أوامره بملاحقة الأسطول الإيراني والهولندي إلى جزيرة القسم لإغراق المزيد من سفنهم، فانسحب الأسطول الإيراني مجدداً من جزيرة القسم نحو بلادهم، فيما عاد الأسطول الإماراتي بعد هذا الانتصار إلى رأس الخيمة ليستقبله الأهالي بأجمل الأهازيج والأفراح.

اثر تلك الهزيمة الفارسية، كاد أميرهم نادر شاه يموت من القهر، خاصة بعد أن تمكن الأسطول الإماراتي من الاستيلاء على عدد لا بأس به من السفن الحربية الفارسية ومنها هولنديات متطورة، وأول ردة فعل من قبل أمير فارس نادر شاه قيامه بعزل قائد القوات البحرية الفارسية وتعيين قائد جديد اسمه سردار فردي خان، واستمر حاكم فارس نادر شاه في إرسال الخطابات إلى الدولة البريطانية والهولندية يرجوهم دعمهم العسكري من خطر إمارات الساحل الذي تشكله على الدولة الفارسية.

د. سالم حميد

رئيس مركز المزماة للدراسات والبحوث

نقلاً عن ميدل ايست اونلاين

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق