بين مفهومي الأمة والدولة

أثارت استفتاءات الاستقلال الأخيرة في إقليم كردستان وإقليم كاتالونيا الإسباني والتي ستمتد إلى مناطق عديدة في العالم، قابلها ردود فعل من الحكومات المركزية، لكن يبقى هناك عدد من التساؤلات حول مفاهيم ومعاني الأمة والفرق بينها وبين مفهوم الدولة.

تظهر هناك عدد من التساؤلات ما هي الأمة؟ وهل هي القومية؟  وهل القبيلة والعشيرة يتساويان في المعنى مع الأمة؟ وهل تتساوى في المعنى مع الدولة؟ وأيهما يتساويان في معنى العولمة؟ وبدأت هناك تظهر إلى الوجود حدود السيادة والوطنية؟ أسئلة عديدة ظهرت إلى السطح بحاجة إلى البحث عن إجابات قانونية ومنطقية.

ظهر مفهوم الأمة في الدين الإسلامي في عدة مواضع منها (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)، (ولا تكونوا كالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). هذه الأمة من مختلف الشعوب والقوميات تدين بدين واحد وتوحد الله خالق هذا الكون، لكن السؤال هل هذه الأمة يجب أن تكون لها إدارة سياسية تحكمها، الفقهاء الإسلاميين من أتباع المذاهب الأربعة الإسلامية لم يستخدموا مصطلح الإدارة السياسية إلا في القرن الرابع الهجري رغم ذلك تنازعتها عوامل متعددة اختلفت باختلاف نظرتهم إلى الأمور واختلاف مذاهبهم، البعض منهم وضعه في إطار المصالح المرسلة وفي مقابل الشريعة، أي أنه ليس ضمن أسس الشريعة، لكنه أمر اجتهادي.

لكن هذه النظرة صاحبها عوار في الفهم والممارسة والتطبيق، وأصبحت متذبذبة بين مرجعية القانون والمرجعية الشرعية، لكن من أضفى عليها المرجعية الشرعية اصطدم بوجود مشكلات أهمها وجود كيانات غير مسلمة وهي جزء أصيل من النسيج الاجتماعي، وهو ما يقتضيه تأسيس الدولة على أساس مبدأ المساواة وهو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية لكنه يتناقض مع المرجعية الشرعية، لذلك من المنطقي أن تكون المرجعية القانونية هي الأساس وليس المرجعية الدينية وهو ما يجعل أن هناك فرق بين الأمة التي تمارس شعائرها والدولة التي تمارس القانون وفق مبدأ المساواة بين المسلم وغير المسلم.

برز مصطلح السياسة عند المسلمين في منتصف القرن الثالث الهجري في أيام الفلاسفة الإسلاميين كالكندي والفارابي مرورا بابن سينا وابن رشد إضافة إلى جماعة إخوان الصفا، وأبي المعالي الجويني وابن عقيل الحنبلي والماوردي وأبي يعلي الحنبلي والشاطبي والطرطوشي والقرافي وابن قيم الجوزية وابن تيمية وغيرهم وصولا إلى الإخوان المسلمين في العصر الحاضر وولاية الفقيه.

مصطلح السياسة الشرعية مرد الاختلاف حول مفهومه ومصطلحه إلى الاختلاف في التوصل إلى استنباط مفهوم للسياسة الشرعية وفق العبرة بالمقاصد والغايات والمآلات وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فقط يدعو الدين الإسلامي إلى تحقيق العدالة والمساواة.

نجد كذلك لدى الأوربيين أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي جاء بدافع ديني لذلك كتب برنت نيلسون وجيمز غوس في كتابهما ( الدين والصراع على وحدة أوربا ) الذي نشر عام 2015 جامعة جورجتاون  يطرحان أن الكاثوليك هم أهل اتحاد، بينما البروتستانت هم أهل تفرقة، وفي التجربة الأوربية البروتستانت يؤمنون بالدولة الوطنية أساسا للنظام الدولي المستقر، إذ كتب ماكس فيبر كتابه الشهير عام 1905 ( الأخلاق البروتستانتية وروح الراسمالية) الذي يعلي من قيمة العمل وأنه ضد الطائفية الكاثوليكية داخل البيت المسيحي، الآن يتبنى برنت وجيمز أفكار فيبر ولكن من خلال تطبيقها على السياسة، بينما الكاثوليك يرى أن الاتحاد ما فوق الدولة الوطنية كتجربة الاتحاد الأوربي هو عامل الاستقرار الأساسي.

واقع ولاية الفقيه تؤمن بفكرة الطائفية وما فوق الدولة والعمل الثوري من أجلها من أجل تحقيق الإمامة، فيما يؤمن الإخوان المسلمين بالخلافة فيما سبق تاريخيا، ولم يتطور مفهوم الدولة الوطنية لا عند الشيعة ولا عند السنة يبدو أن خريطة سايكس بيكو فرضت على المنطقة دون أي مشاركة من أهل المنطقة.

هي قراءة سياسية وثقافية لسلوك الأمم والدول التي تحاول تفسير مفهومي الأمة والدولة من خلال عوامل أيديولوجية يكون الدين أحد أعمدتها وهو ما ساهم في تصاعد التيارات الدينية والثقافية ساهمت في تصاعد التيارات القومية ويصور البعض أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي بسبب تصاعد التيار اليميني الديني وهو ما فشل في فرنسا بعد انتخاب كامرون ضد التيار اليميني الديني، لذلك البعض يراهن على أن هناك صراع على هوية أوربا الثقافية والدينية وقد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوربي.

هناك مساحات رمادية غامضة في تفسير ما يحدث بالعالم خصوصا في تولي القادة العسكريون في أمريكا في تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق والذي تحول إلى 15 دولة جديدة وتجزأت تشكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين مستقلتين، ثم تحولت يوغسلافيا إلى سبع دول كان مخاضها عسيرا للغاية سفكت دماء كثيرة، وهي تقع ضمن الصراعات التقليدية وهي تهديدات غير تقليدية مثلما يحدث في بقية أنحاء العالم بأن يكون التفسير ثقافيا يكون أهم عناصره الدين.

ومن يمعن النظر في التاريخ الإمبريالي الحديث حتى نفهم أن هناك رغبة ملحة لإعادة رسم ملامح خريطة جديدة، لكنها تصطدم بواقع سياسي قائم، كانت حدود كردستان ويوغسلافيا معروفة وثابتة مع انهيار الإمبراطورية العثمانية والنمساوية والهنغارية إبان الحرب العالمية الأولى، حيث لم تكن الحدود تعني شيئا بالنسبة للتطلعات الوطنية، ولكنها كانت تعبر عن مصالح الإمبراطوريات الإمبريالية التي حلت محل تلك الإمبراطوريات المنهارة كذلك مثل بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

 حيث كانت هناك تحديات تواجه الفكرة القائمة للأمة التي بدأت مع انهيار الشيوعية، ثم عادت الفكرة مع تصدع الدول الغربية بعد الأزمة المالية عام 2008، وبدأت تظهر أسئلة هل ينبغي أن تكون اسكتلندا دولة مستقلة وجاءت نتيجة الاستفتاء سلبية، ولكن هذا لم يكن نهاية المطاف لأن هناك نزعات قومية يمكن إثارتها عند الحاجة، لكن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي مثلما كانت تؤمن بذلك تاتشر بان بريطانيا نظرا لحجمها وأهميتها عليها أن تنسحب من الترتيبات التأسيسية للإتحاد الأوربي واتفاقية شنغن بالإضافة إلى العملة الموحدة.

لقد أسفرت أزمة استفتاء كاتالونيا عن طرح سؤال أخير حول مفهوم ما هية الأمة، وهل يمكن لدول أوربا الغربية أن تحافظ على ثرواتها ومستويات المعيشة المرتفعة في الاقتصاد المعولم من دون حشد الأمم صوب غاية أكبر؟، تأتي الإجابة على هذا السؤال من الماضي قبل 5 قرون قبل التدفق السياسي والاقتصادي في العودة للأصول المحلية والتي تتوافق مع بزوغ ظاهرة الشعبوية، لكن استطاع البعض أن يخلق توازنا فمثلا نظرة البرت ريفيرا الذي يقود حزب يمين الوسط في كاتالونيا المناهض للاستقلال عن إسبانيا قائلا أن كاتالونيا هي موطني، وإسبانيا هي بلدي، وأوربا هي مستقبلنا، ولكن هل تصبح أوربا أمة واحدة، وهل يمكن أن يصبح العرب أمة واحدة؟.

هناك سيولة في العلاقات السياسية حول العالم، في المقابل هناك نقاش دائم حول دور الدين في تماسك الدولة الوطنية أو تفكيكها وهو ما يجعل المسلمين والعرب يفشلون في تكوين اتحادات، بينما أوربا استطاعت تشكيل اتحاد بناء على دور الاقتصاد بعيدا عن دور ديني أو ثقافي.

من الشرق إلى الغرب عدوى الشعبوية جرس إنذار أكثر منه انفجار، ولكنه بسبب إفلاس سياسي إذ تعتمد الشعبوية على دغدغة عواطف الناس من أجل اكتساب شرعية الحكم والقرار، وهو ما وظفته ولاية الفقيه وجماعة الإخوان المسلمين التي فشلت في أول اختبار في 2013 ف يمصر في المقابل نجح حزب العدالة والتنمية الإخواني في تركيا الذي تصالح مع العصر وأعلن عن علمانية الدولة أي قبول جميع المكونات غير المسلمة وهو ما رفضه إخوان مصر زمن مرسي.

يرفض عالم السياسة الفرنسي بيير ندريه تاغييف مقابلة الشعبوية بالديماغوجية إذ يرى من الخطأ مساواتهما، فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين، بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه، ويصف البعض الآخر الشعبوية بأنها أيديولوجية قائمة على دفع الأغلبية إلى مقاومة السلطة السياسية التقليدية ومواجهة الآخرين سواء كانوا أقلية أو مهاجرين أو قوة خارجية بمبرر الحفاظ على الهوية الوطنية والدفاع عن حقوق الأغلبية الشعبية.

 وهي ما تفسر أن الدين الإسلامي رفض الخروج على الحاكم نهائيا الذي يؤدي إلى انهيار الدولة وقيام حرب أهلية، لكنه نهى عن مسايرته في الفساد والأخطاء السياسية، بل دعا إلى مواصلة الإصلاح، لذلك لم يأمر بثورة على الحاكم، لكن أمر بمواجهته في الأخطاء التي يرتكبها وعدم تأييده عليها حتى لو كانت النتيجة القتل، لذلك نرى أن أبا ذر الغفاري عندما اختلف مع الخليفة عثمان حول قضايا سياسية خرج إلى الربذة في ضواحي المدينة المنورة، ولم يؤيد أي ثورة على عثمان رضي الله عنهما بل كان ينهى عن أي ثورة ويطالب بطاعة عثمان بن عفان وهناك فرق بين الثورة على الظلم السلمية والثورة على الظلم المسلحة المنهي عنها وعواقبها انهيار الدول.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق