بلوشستان: القضية المنسية (2)

خطورة سياسة السلطات المتعاقبة على سدة الحكم في إيران:

بدأ هذا العصر المظلم من زمن السلطنة البهلوية مروراً بنظام الجمهورية الإسلامية، فالمؤسسة الإيرانية ما برحت تتخوّف من شعوب المنطقة وقواها السياسية وكذلك مكوناتها القديمة. إن النظرة الفارسية لهذه الشعوب لم يتغير طابعها الشوفيني بل تستمر وبقوة، وترى أن حراك الأطراف والشعوب غير الفارسية يسعى إلى تجزئة إيران، لذلك فالحرب مستمرة لسحق بنية الحراك الثوري، المتمثّل بهذه الحركات القومية غير الفارسية، وتجفيف منابع التهديد لوحدة إيران.

هذه السياسة الشوفينية تؤدّي، في المدى المنظور، إلى إضعاف عنصر العيش المشترك لكل هذه المكونات التي تعيش في ظل الجغرافية السياسية الإيرانية، وتضعف التقارب بين الشعوب التي تسعى السلطات المتعاقبة إلى تنفيذه، وذلك من خلال سياساتها المتبعة طيلة هذه العقود لفرضها وبالقوة على هذه الشعوب ذات التاريخ والخصوصية. إن التحول العظيم والكبير في طريقة التفكير لدى هذه المكونات لا تفهم ولا تدرك إلا بفهم وإدراك مدى أهمية التضحيات الجسام التي قدمتها هذه الشعوب بمناضليها في سبيل الحفاظ على الذات والتاريخ والهوية في ظل الأنظمة التعسفية والشوفينية التي تعاقبت على إيران الحالية.

 

ضرورة المواجهة:

بدأ الحراك منذ الأيام الأولى للسلطة البهلوية التي تميّزت بالمركزية الشديدة، والتوحّش في التمييز العنصري المتخلف. هذه الشعوب غير الفارسية ضحت بالغالي والنفيس من أجل الوصول إلى مطالبها الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. وبعد أن اكتسب هذا الحراك تأييداً شعبياً وصل إلى مرحلة لا رجعة فيها إلى الوراء، وباتت المواجهة حتمية مع كل نظام لا يحترم هذه الشعوب المضطهدة.

قامت المنظمات والحركات الوطنية البلوشية في بلوشستان، وكذلك المستقلون السياسيون المدافعون عن قضية الشعب البلوشي بالعمل الجاد على إيصال صوت الشعب البلوشي إلى المنظمات الدولية. انعكس هذا العمل الدؤوب تلقائياً على أرض الواقع، حيث ملئت السجون بالسجناء السياسيين المطالبين بحقوقهم، وصدرت الأحكام بإعدام المناضلين البلوش، فكان ذلك دليلاً على مستوى الفهم والإدراك لقضية الشعب البلوشي المناضل المدافع عن وطنه الأم. كما أن هذا الأمر يفهم منه أن النظام الإيراني الحالي قد قام بفرض وتطبيق قانون الطوارئ وقام بفرض حكم العسكر، فالأعمال العسكرية مستمرة في بلوشستان في ظل غياب الديمقراطية والتميز العنصري العلني في نظام إيران الإسلامي، “نظام ولاية الفقيه“.

 

نظام الولي الفقيه يقرر محاربة أهل السنة:

إن حملة النظام ضد أهل السنة، المدعوم من قبل التيارات المذهبية الشيعية والحوزات العلمية، مستمرة منذ مجيء هذا النظام وقد أخذت أبعاداً عديدة. فالمدارس التي يتخرج منها رجالات الدين الذين يقومون بالعمل ضد أهل السنة تقع في زاهدان. وفي ظل هذا الجو العام الذي يتسم بالصراع الطائفي يواجه أهل السنة في بلوشستان حملة شرسة ضدهم وضد اعتقاداتهم المذهبية من جانب سلطة “ولاية الفقيه“.

ونتيجة لهذه السياسة الإيرانية المبرمجة ضد أهل السنة في بلوشستان، ظهر تنظيم مسلح باسم “جندالله”، حيث أخذ على عاتقه مسؤولية العمل العسكري ضدّ المؤسسات الأمنية الإيرانية، فهذا التنظيم يصنف من الحركات العنيفة والمسلحة، وما هو إلا ردة فعل ضد الأعمال البشعة اليومية التي تقوم بها السلطات الأمنية الإيرانية بخططها المبرمجة الهادفة إلى إذلال أهل السنة في بلوشستان. وخير دليل علي هذه الأعمال الإجرامية التي تقوم بها سلطة الملالي في طهران هو هدم وتخريب مسجد “شيخ فيض” لأهل السنة في مشهد (خراسان)، وقد تم هذا العمل مباشرة بقرار من خامنئي مرشد الجمهورية، فتم هدم هذا المسجد بواسطة الجرافات وسوي المسجد بالتراب.

وبفعل هذا العمل الجنوني، انتاب أهل السنة في بلوشستان غضب شديد أدى إلى انتفاضة عارمة انطلقت بارقتها من مسجد مكي في زاهدان، لكن النظام الإيراني رد بقوة السلاح على هذه المظاهرات، وقام بضرب وقصف مسجد مكي في زاهدان وذلك بواسطة المروحيات الحربية، وجراء هذا القصف تهدم جزء من مسجد مكي. وبعد أن هدأت المواجهات بين الطرفين أُضيفت الى جرائم النظام بحق هذا الشعب صفحة جديدة من الظلم والجور لأهل السنة في بلوشستان.

وفي ظل هذه السياسة الإيرانية التي تضمر العداء لأهل السنة في بلوشستان، قام “عبد الملك الريقي” بتأسيس تنظيم “جند الله”. والغاية من هذا التنظيم ضرب الأذرع المسلحة للنظام الإيراني مثل (الحرس الثوري، قوات التعبئة، الاستخبارات وعملاء النظام الحاكم). وقد قام مسلحو هذا التنظيم بعمليات انتحارية (تاسوكي) وذلك في 16 مارس 2006 ميلادي.

 

اندماج التيارين الديني والقومي:

والجدير بالذكر هنا أن التيار المذهبي المقاوم ومناضليه، والتيار الديمقراطي البلوشي والعاملين في هذا الوسط متفقون على الدفاع التام، وبدون أي قيد أو شرط، عن الحقوق المذهبية والقومية، وذلك بتبني الطرفين لهذه المطالبات المذهبية والقومية على حد سواء.

يرى المراقب للحراك البلوشي السياسي، بشقيه المذهبي والقومي الديمقراطي، أنهما قد امتزجا بحراكهما نحو الدفاع عن كل ما يمت إلى حقوق البلوش بصلة، وهنا نشاهد جلياً هذا الاندماج بين التيارين. ومن الصعوبة أن تنفك هذه الأواصر، والدليل على هذا الالتقاء هو التضحيات التي يقدمها الشعب البلوشي على أرض الواقع، فالشهداء الذين سقطوا كانوا يمثلون رؤية التيارين، وكانوا يدافعون عن المذهب والقضايا القومية ومطالباتها الحقة، وكذلك عن الديمقراطية وأساليب تحقيقها وتطبيقها في المجتمع. ومن رموز الحركة البلوشية على سبيل المثال نذكر: مولوي عبد القدوس ملا زهي، مولوي ابراهيم سهرا بزهي، بالإضافة إلى الشباب المثقف أمثال: سعيد قنبر زهي ويعقوب مهر نهاد، وسجناء آخرون أمثال “صابر ملك رئيسي وسخي ريقي، مولوي اسماعيل ملازهي ومولوي عبد المجيد صلاح زهي” وهؤلاء هم خير دليل علي هذا العمل الذي يجمع بين الدفاع عن المذهب السني والمطالب القومية والديمقراطية. والملفت للنظر في هذا الأمر أن النظام الجمهوري الاسلامي في بداية الثورة كان يدعم ويحرض الإسلاميين البلوش السنة ضد التيارات والقوى الديمقراطية البلوشية، بل أكثر من ذلك، فالنظام لم يعرقل نشاط هذه الجماعات المذهبية كما ساعد على انتشارها في كل بلوشستان.

 

الخاتمة:

تغير المشهد حالياً بعد أن عمت المنطقة موجة عنيفة من الحراك المذهبي الطائفي، خاصة بعد أن قويت شوكة الإسلاميين والتيارات الدينية في إيران وباكستان بشقيها السني والشيعي، فقد أخذ هذا الحراك السني ضد سياسات النظام أبعاداً لا يتحملها النظام الإيراني الذي انتهج الطائفية السياسية استراتيجية له. ولمّا كانت السلطة لا تستطيع تحمل هذا الحراك في الشارع البلوشي، فقد قامت بضرب كل المجالات التي يعمل بها نخب البلوش، ومنها الجانب الاجتماعي والسياسي في بلوشستان.

وقد عمل النظام، وفي محاولة يائسة، على استقطاب الطبقة المثقفة في بلوشستان لتقوم بالنيابة عن السلطة بضرب الحراك المدافع عن الحقوق المذهبية (التيار الإسلامي) في بلوشستان، ولكن هذه الاستمالة باءت بالفشل الذريع بسبب وعى البلوش للمرحلة الصعبة التي يمرون بها، وفشل النظام يعتبر انتصاراً للشعب البلوشي، لأن السلطة الإيرانية لم تستطع أن تقوم بهذه الفتنة الرامية لضرب البلوش بعضهم ببعض، لأن الوعي لدى البلوش أصبح على مستوى عال ولذلك لم ينطلِ هذا الأمر عليهم بسهولة. فهذه السياسة باتت مكشوفة وقديمة بسبب عمق التجربة البلوشية المتمثلة بقيادتها الحكيمة، من أمثال (مولوي عبد الحميد). هذه القيادة بذكائها استطاعت أن تجسر العلاقة بين الطبقة المثقفة التقدمية في المجتمع البلوشي التي تدافع عن الحقوق القومية وعن الديمقراطية من جهة وبين طبقة المدافعين عن الحقوق المذهبية للشعب البلوشي.

هذه المؤشرات التي نتحدث عنها هي إحدى العوامل التي تبين مدى الإدراك والوعي لدى الطبقة المثقفة، وتبيين أنها طبقة مخضرمة ولها باع طويل وتجارب عميقة في التعامل مع هذا النظام. فهذه النخبة البلوشية وبالرغم من وجود عوامل غير معيارية في حقل السياسة والاقتصاد والثقافة فإنها تقوم بالعمل في داخل بلوشستان وهي تعرف كيف تعمل مع هذا النظام القمعي.

وبما أن النخب البلوشية تعرف مدى أهمية وسائل الإعلام التي يتواصلون من خلالها مع شعبهم ويقومون بنشر الثقافة العامة بين أواسط الشعب البلوشي، فإن وجودها، أي وسائل الأعلام، يعوض ذاك الفراق الثقافي الحاصل جراء الضغط المتواصل من قبل السلطة التي تقوم بالمنع القسري لنشر اللغة والثقافة والفن والأدب البلوشي. ولكن بغياب هذه الآُلة الإعلامية الهامة، في عصر بات الإعلام سلطة يحسب لها ألف حساب، ففقدانها يقض مضجع الشعب والنخب البلوشية ويحسون بهذا الفراق ويعدونه نقصاً لا يعوض، لأنه هام جداً في العملية التوعية للشعب البلوشي.

ونظراً لهذه الأهمية، فقد بات وجود جهة تقوم على تهيئة البيئة التي تمهد الطريق لتأسيس وسائل إعلام أولوية في العمل السياسي البلوشي لأنها (وسائل الإعلام) تقوم بتقوية عنصر الهوية وتقوم بتنمية النضال الشعبي، كما تقوي آليات التنسيق بين الحراك الداخلي والخارجي للشعب البلوشي.

إن الشعب البلوشيقادر على أن يتحرك بقوة لو توفر له المجال للحراك السياسي في الداخل، وإن كان على نطاق ضيق، والشاهد على ذلك هو الحراك الشعبي الموجود في بلوشستان الضارب بعرض الحائط بالتعسف الإيراني الذي يقوم بسحق وحذف العناصر الفعالة في المجتمع البلوشي، وذلك عبر الاغتيالات المبرمجة لنشطاء البلوش بغية تجفيف منابع النضال، لكن هذا الشعب مستعد بكل ما يملك من إرادة للحياة والبقاء على أرضه والثبات فيها، فهو مستعد وجاهز للنضال في سبيل الحرية والديمقراطية، وهو لا يترك طريقاً إلا ويسلكه في سبيل الوصول إلى حقوقه المذهبية والقومية، وذلك عبر قيادته السياسية والمذهبية.

 

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق