بعد صنعاء… مفتاح باب المندب والسويس بيد إيران؟

طوى الحوثيون صفحة «المبادرة الخليجية». وطووا معها صفحة «ثورة 26 سبتمبر 1962» و «ثورة فبراير 2011». دخلوا العاصمة فاتحين كما دخلها الجمهوريون قبل 52 عاماً على أنقاض دولة الإمامة. والأصح أنهم كانوا في صنعاء قبل ذلك. وما فعلوه قبل أيام أنهم وضعوا يدهم على الدولة في انقلاب ناعم وهادئ ومتدرج بلا مقاومة تذكر. وهو ما سهّل عليهم أن «يصادروا» أسلحة الجيش وعتاده، وأن يقتحموا بيوت خصومهم السياسيين والعسكريين. ما حدث شكّل صدمة لكثيرين. لكنه لم يكن مفاجأة. جاء نتيجة مقدمات، من دماج إلى عمران فالعاصمة. لم يشعر أهل صعدة طوال هذه المسيرة بأن الدولة اتخذت قراراً حاسماً بمواجهتهم. الرئيس عبد ربه منصور هادي تمسك بشعار «الصبر» بلا حدود حيال تحركهم سياسياً وعسكرياً. وظلت قيادة وزارة الدفاع والجيش تعلن تمسكها بالحياد! وظل المبعوث الأممي جمال بن عمر مواظباً على التوسط. وقبع أياما ينتظر أن يمنّ عليه عبد الملك الحوثي بشروطه في اتفاق «السلم والشراكة الوطنية». كان ثمة فراغ سياسي وعسكري، وغياب أو انشغال إقليمي ودولي بالحدث «الداعشي». كانت فرصة سانحة ليملأ الحوثي هذا الفراغ ولم يتردد.

ظن كثيرون أن الحوثيين لن يجرؤوا على اجتياح صنعاء مخافة اندلاع حرب أهلية مدمرة لن يخرج منها طرف منتصراً. لم يتوقعوا أن تكون العاصمة لقمة سهلة أمام قوة عبد الملك الحوثي وحده. لذلك وافق أهل المدينة على حديث الرئيس هادي عن مؤامرة كبيرة، وعن خيانة وطعن. كان ثمة تفاهم مهّد لسقوط العاصمة. فالجميع يعلم أن أكثرية عديد المؤسسة العسكرية من قبائل الشمال، وأن قياداتها بمعظمها أيضاً من أهل الشمال، وحاشد خصوصاً. ولا تزال غالبية فيها على ولائها للرئيس السابق علي عبدالله صالح ونجله العميد أحمد وأقربائه. وكان لافتاً أن الفرق العسكرية التي كان يقودها الأخير لم يتعرض لها الحوثيون، بخلاف ما حصل لبقية الفرق خصوصاً تلك التي كانت قريبة من اللواء علي محسن الأحمر. أما «اللجان الشعبية» التي عوّل عليها رئيس الجمهورية في المواجهة فتبخرّت. كأنما «تجمع الإصلاح» الذي أوكل إليه تولي تنشئة هذه اللجان، آثر السلامة وعدم المواجهة. أراد التجمع أن يثأر مما وصفه بتخلي الرئاسة عنه وعن عسكرييه في عمران. الطرفان إذاً، الرئيس السابق و «الإصلاح»، ثأرا من الرئيس كل على طريقته.

صبر الرئيس هادي كان محيراً بلا حدود. لم يحرك الجيش، كما كان يفعل سلفه في الحروب الست التي خاضها مع الحوثيين من 2004 إلى 2010. كان يتوقع ربما أن يُضعف القتال طرفي النزاع: الحوثيين من جهة والإصلاح ومن معه من سلفيين وقوى قبلية من جهة ثانية. لكن سياسة ضرب القوى بعضها ببعض لم يتقنها كما كان يفعل سلفه، لأنه لم يحسن الحساب والتحرك في اللحظة المناسبة. وقد يكون عدم تحركه مرده أيضاً إلى معرفته بالتركيبة العسكرية القائمة ومدى تبعيتها السياسية لهذا الطرف أو ذاك. وهذا ما أثبتته أحداث صنعاء. لذلك حاول استجداء السلام من عبد الملك الحوثي، على رغم أنه لم يكف عن التحذير من تدخل إيران في الشمال والجنوب! وهذا اعتراف بان اللعبة اكبر منه ومن الاطراف الداخلية.

سجل كثير من اليمنيين مآخذ على سياسة الرئيس هادي في إدارة المرحلة الانتقالية: شكل الهيئة الوطنية التي تتولى تنفيذ مقررات مؤتمر الحوار الوطني من دون التشاور مع القوى الفاعلة والمعنية بالقرارات. وتأخر في تشكيل حكومة جديدة بعد انتهاء أعمال المؤتمر. مثلما تأخر في توسيع مجلس الشورى بحيث يتقاسم الشماليون والجنوبيون أعضاءه مناصفة. وذهب بعضهم إلى حد تشبيهه بسلفه في الاستئثار بعيداً عن إشراك الآخرين. وهو ما اتهمه به رئيس الحكومة المستقيل محمد سالم باسندوة. صحيح أنه عمل على تفكيك مراكز القوى في المؤسسات العسكرية والأمنية، واستعان بالأميركيين والأردنيين لإعادة هيكلة الجيش، لكن هذه العملية توقفت. اكتشف هؤلاء أن التغيير والتبديل في القيادات لا يكفي لقيام جيش وطني محترف بعيداً من السياسة. لا بد من إعادة هيكلة شاملة لا تستثني حتى العسكريين العاديين الموزعي الولاءات السياسية والقبلية والجهوية.

لم يكن أحد يتوقع أن يجتاح الحوثيون صنعاء، لأن مناصريهم كانوا أصلاً فيها بأعداد كبيرة منذ اندلاع الحراك الشبابي قبل ثلاث سنوات ونيف وقبله. ظن الجميع أنهم سيتوقفون في عمران بعد هزيمتهم السلفيين و»الإخوان» وحلفاءهم. وهذا ربما ما جعل بعض القوى الخليجية تغض الطرف عما كان يحققه عبد الملك الحوثي في تقدمه على خصومه، خصومهم من «إخوان التجمع اليمني للإصلاح». ولم يقلقهم تحرك الرئيس السابق علي عبدالله صالح ودعمه الحوثيين. هو خرج من السلطة على أساس مرحلة انتقالية لم تستثنه من السلطة، بل منحته نصف أعضاء الحكومة فيما بقي حزبه «المؤتمر» يسيطر على الغالبية في مجلس النواب. لكن أحلام العودة إلى الحكم التي أُخرج منها عنوة لا تزال تراوده، فإن لم تكن له فلأبنائه. كما أنه أراد الانتقام من جميع شركائه في الحكم الذين تخلّوا عنه في اليوم الأول للحراك مطلع العام 2011. انحاز التجمع وآل عبدالله بن حسين الأحمر واللواء علي محسن الأحمر إلى الساحات والميادين، كأنهم لم يكونوا جزءاً من النظام الذي نادت الأصوات برحيله. كأنهم لم يكونوا في منظومة الحكم ومنافعه ومفاسده وشركاء في كل شيء! ولا يُخفى أن الرئيس السابق حاول عبثاً معاندة متطلبات المبادرة الخليجية وماطل وناور قبل أن يستسلم. ولم يترك فرصة للتفاهم مع الحوثيين لإحباط مؤتمر الحوار، وضرب المبادرة. ويتهمه خصومه بالتواصل مع إيران من أجل إقناع حليفها عبد الملك بالتنسيق معاً لإسقاط المرحلة الانتقالية والإمساك مجدداً بمفاصل السلطة.

لم يتوقع أصحاب المبادرة الخليجية أن يذهب الحوثيون إلى حد السيطرة على صنعاء بهذه البساطة. أخذتهم الصدمة. فليس قليلاً أن ما ترى إليه المملكة العربية السعودية خطراً على الأمن الإقليمي والدولي، تعده إيران «نصراً مؤزّراً» للجمهورية الإسلامية. وليس قليلاً أن يفرض عبد الملك الحوثي يده على العاصمة غداة مشاركة أربع دول خليجية قوى التحالف الدولي في قصف مواقع «داعش» في سورية والعراق، وهي تنادي بوجوب إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وتبدي استعداداً لدعم المعارضة وتدريب عناصرها المعتدلة. كان الرئيس هادي حذّر منذ بداية التحرك الحوثي نحو عمران ثم العاصمة من أن طهران تريد المقايضة: صنعاء مقابل دمشق. والواقع أن طهران لم ترضخ بسهولة للتغيرات التي خلّفها قيام «داعش» في بلاد الشام. وسعت ولا تزال إلى تحقيق مكاسب في جنوب شبه الجزيرة العربية تعويضاً عما خسرته وقد تخسره في شمالها. وهي تستعد للإقامة على باب المندب بعد مضيق هرمز.

المفارقة كبيرة أن يسيطر الحوثي وريث «الإمامة» على عاصمة اليمن في الذكرى الـ 52 لسقوطها في أيدي الجمهوريين (1962). لكن الظروف المحلية مختلفة تماماً اليوم. ومثلها الظروف الإقليمية والدولية. قد يكون انتصار الحوثيين شبيهاً بانتصار «حماس» في غزة أثناء الانتخابات العام 2006 وما تلاها من استقلالهم بالقطاع. أي أن السؤال اليوم هو كيف سيوظف أهل صعدة هذا الانتصار؟ هل يمكنهم هضمه وعناصرهم عاثت فساداً ونهباً وتعديات في العاصمة حتى شبّه بعضهم ما حدث بأنه «أيلول أسود»؟ يستحيل على الحوثيين أن يبسطوا يدهم على كامل اليمن. حتى في أيام الإمامة التي استمرت نحو ألف سنة لم تتجاوز سلطة الأئمة ذمار جنوب صنعاء. فيما كانوا يكتفون بالجباية من أهل الوسط. حالت الجغرافيا دون استقلال «حماس» كلياً بالقطاع. كانت مصر ولا تزال حاضرة في المشهد اليومي، فهل تسمح الجغرافيا نفسها للحوثي بالاستقلال باليمن بعيداً من أهل الخليج والسعودية خصوصاً؟ هل تكتفي دول الخليج بدعوة مجلس الأمن الى فرض عقوبات على الحوثيين والرئيس صالح؟ وهل تسكت مصر التي تعمل على توسيع القناة أن تمسك إيران بمفتاح الملاحة في البحر الأحمر والقناة؟ المنظومة الامنية لشبه الجزيرة تبدلت جذريا. ويشكل هذا التطور تهديدا مباشرا للامن القومي السعودي والمصري.

خاضت المملكة العربية السعودية حرباً مع مصر عبدالناصر في اليمن بدعمها الكبير لدولة الامامةوآل حميد الدين في مواجهة الجمهوريين الذين ساندتهم القاهرة بالعتاد والرجال. ولا يمكنها اليوم أن تلتزم موقف المتفرج بعدما باتت بين فكّي كماشة: العراق شمالاً واليمن جنوباً. ومثلها مصر التي لم يرق لها وصول النفوذ الإيراني إلى شواطئ غزة، لا يمكنها السكوت على تربع الحوثيين في صنعاء وتمددهم نحو البحر الأحمر. وهل يسمح المجتمع الدولي بأن تقيم طهران وحرسها «الثوري» على باب المندب بعد مضيق هرمز؟ وقبل هؤلاء وأولئك، هل يمكن أهل الوسط والجنوب أن يسكتوا على هذا التمدد لأهل الشمال لتعود الأمور إلى سيرتها الأولى، إلى ما قبل الثورتين؟ وماذا عن «القاعدة» التي تسرح وتمرح جنوباً ووسطاً، وقد توعدت الحوثيين بالويل والثبور؟ الظروف التي ولّدت «داعش» في العراق وسورية هي نفسها قد تولّد لليمن «داعشييه».

المهم اليوم أن تاريخاً جديداً قد بدأ في اليمن. تلاشت الدولة. بات الرئيس ومن معه تحت رحمة «أنصار الله». وقد لا يطول الأمر بعبد الملك الحوثي ليطيح هادي وفريقه بعد إطاحة الحكومة. قد ينتظر الانتخابات البرلمانية التي قد تعطيه غالبية في مجلس النواب، ما دام أنها ستُجرى تحت أسنة حرابه وخناجره ودبابته ومدافعه. عندها سيتسلح بالشرعية الشعبية لإدارة البلاد. ولكن ثمة من يرى أنه لن يكون قادراً على تحقيق هذا الحلم. فبناء سلطة بالقوة في مجتمع لم يتوقف حراكه الذي أسقط سلطة حكمته طوال ثلاثة عقود بالقوة قد يكون وهماً… إلا إذا تمكن الرئيس علي صالح الذي قالت الصحف اليمنية إن الحوثيين منحوه «الأمان» فيما هم يعيثون فساداً بممتلكات خصومهم وخصومه، من العودة عبر «أهله» إلى أروقة الحكم بتقاسم السلطة مع الحوثيين بدعم من القيادات والفرق العسكرية التي تدين له بالولاء. ومعروف أنه خرج من القصر وكان قادراً على مواجهة خصومه في الشوارع والميادين بحشود لا تقل عن حشودهم قوة وعدداً.

جورج سمعان

نقلا عن الحياة

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق