الهيئات الدبلوماسية المنبوذة

يعرض لنا القانون الدولي ظاهرة غريبة وإيجابية في النفس الوقت منذ عشرات بل مئات السنين مما جعلها تصبح عرفا متبعا تسير عليه الأمم. الأمر يتعلق بالسفارات والقنصليات التي تتمتع بنوع من السيادة الخاصة في البلاد المستضيفة ولها الكثير من الحقوق التي تفوق كثيرا حقوق الأفراد والمؤسسات الأخرى والشريكات وغيرها.

فعندما تندلع حرب بين بلدين لا يقدم أي من هذين البلدين على أسر الدبلوماسيين التابعين للعدو المتواجدين في بلده، بل يعطيهم الفرصة للخروج الآمن وفي بعض الحالات حتى لا يطردون جميعا بل يبقى البعض منهم همزة وصل لأداء بعض المهمات الإنسانية التي قد يضطر لتنفيذها البلدان المتحاربان. وحتى في الأزمنة القديمة جدا كان الرسول أو السفير المرسل من جهة إلى جهة أخرى محميا حسب العرف والتقاليد السائدة إلا في بعض الحالات النادرة التي قتل فيها السفراء.

اكتسبت الهيئات الدبلوماسية هذا الاحترام بسبب مهامها التي تقوم بها، وكثيرا ما توصف بالمهام الخدمية والمدنية. كتقديم التسهيلات للراغبين في السفر مثل منح تأشيرات الدخول ورعاية المصالح وأهمها خلق الأجواء المناسبة لتوطيد العلاقات بين البلاد. لكن وكما يقولون لكل قاعدة استثناء، نجد أن بعض الحالات مغايرة تماما لهذا العرف الدبلوماسي السائد. وقبل فترة كان هذا الاستثناء يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية وبالكيان الصهيوني بسبب تشعب مهام دبلوماسيي هذين البلدين التي عادة ما تتعدى المهام الخدمية المدنية لتصل إلى تنفيذ مهام تجسسية أمنية وتدخل في شؤون البلاد المستضيفة.

تعرض الدبلوماسيون الإسرائيليون باستمرار لكل هذا الكره من قبل الآخرين بالأخص الدول العربية والإسلامية بسبب احتلال إسرائيل لفلسطين وتهجير شعبها. وخرقها القوانين الدولية وعدم الالتزام بها وممارسة العنصرية والكثير من الانتهاكات اللا إنسانية ضد الشعب الفلسطيني مما جعلها دولة منبوذة.

وتتعرض الهيئات الدبلوماسية الأمريكية للكراهية نفسها بسبب دور الولايات المتحدة الأمريكية في تأجيج الصراعات واحتلال الدول الآمنة وممارسة الضغط على الدول الصغيرة وحماية المستبدين والطغاة وممارسة التجسس في الدول المستضيفة وانتهاكها لسيادة تلك الدول وأخيرا تجسسها حتى على المواطنين العاديين في الكثير من دول العالم وهي أيضا أصبحت دولة شبه منبوذة في أغلب دول العالم.

وفي الآونة الأخيرة انضمت إيران إلى خريطة المنبوذين وتعرض دبلوماسيّوها لاعتداءات ومحاولات اغتيال، لأنها جعلت من سفاراتها أوكار تجسس على الأخرين. كما إنها ومنذ فترة ليست بقصيرة وظفت سفاراتها لأداء الكثير من الأعمال التي لا صلة لها بالعمل الدبلوماسي. وخلال شهر واحد فقط تعرضت الدبلوماسية الإيرانية إلى عمليتين في لبنان وتعرض دبلوماسي إيراني آخر في اليمن إلى محاولة اغتيال وأخيرا تعرضت القنصلية الإيرانية في بيشاور الباكستانية إلى تفجير انتحاري. وهذه سابقة خطيرة، إذ لم تتعرض الهيئات الدبلوماسية لأي دولة في العالم لهذا الكم من الاعتداءات وخلال فترة وجيزة لا تتعدى الشهر الواحد.

لكن هل تنبّه الإيرانيون لهذا الأمر وهل حاولوا عبر وسائل صحيحة وسليمة تفادي وقوع مثل تلك الاعتداءات والتفجيرات ضد مصالحهم؟ أو هل يتوقع من إيران مجرد الاهتمام بأرواح دبلوماسييها؟ من يعرف إيران جيدا لا يتوقع منها تعديل سياساتها التي جلبت لها المخاطر وسوء السمعة والتعرض للكراهية في أغلب بلاد العالم.

منذ خمسة وثلاثين عاما لعبت الهيئات الدبلوماسية الإيرانية أدوارا غير تقليدية وتركت مهامها الخدمية والسياسية وخلق وسائل التواصل بين بلدها والبلاد المستضيفة وانشغلت بتنفيذ مهام أيديولوجية وأمنية تابعة لمراجع التقليد المتطرفين والاستخبارات الإيرانية. في أوروبا انشغل السفراء الإيرانيون في تهريب المواد الخاصة في مشروع إيران النووي وفي غسيل الأموال وفي التجسس على المواطنين الإيرانيين الهاربين إلى أوروبا معارضين وغير معارضين. وفي الدول المجاورة، خاصة الدول العربية اختصر العمل الدبلوماسي لهذه الهيئات على دفع الرشى وشراء الذمم وبناء الحسينيات وبناء الخلايا النائمة ونشر الطائفية وتأجيج الصراعات وتفكيك المجتمعات. وهذه الأعمال ليست من واجبات العاملين في السلك الدبلوماسي بل إنها أعمال أمنية استخباراتية وتبشيرية طائفية.

أصبح من المعروف إن المستشاريات الثقافية الإيرانية لا تؤدي الأدوار الثقافية بل هي عبارة عن هيئات تبشيرية لترويج المذهب الشيعي. والمستشاريات العسكرية لا تعمل في مجالها بل تضطلع في عمليات تجنيد جواسيس وتشكيل خلايا تخريبية تعتقد إيران أنها ستستخدمها في المستقبل.

لكي نفهم لماذا كل هذا الشذوذ الإيراني عن القواعد الإنسانية والأخلاقية والعرف الدبلوماسي ما علينا إلا أن نتذكر واقعة حدثت في بداية استلام المعممين زمام السلطة في طهران عام 1979. إذ في شهر أيار من عام 1980اقتحمت مجموعة من الأحوازيين السفارة الإيرانية في لندن بقصد التفاوض واحتجزت كل من فيها رهائن مطالبة بالإفراج عن نشطاء سياسيين أحوازيين في إيران كانوا حينها يتعرضون للتعذيب في السجون الإيرانية. لكن مفاوضات هذه المجموعة مع الوسطاء لم تصل إلى نتيجة. لأن خميني مؤسس هذا الدور غير التقليدي للهيئات الدبلوماسية في خرق الأعراف الدبلوماسية رفض التفاوض من الأساس. وقال لو قتل السفير ومن معه سيكونون جميعا في عداد الشهداء. وفشلت المفاوضات وأبرمت وقتها مارغريت تاتشر رئيسة وزراء إنجلترا صفقة سرية مع إيران استطاعت من خلالها التوصل إلى اتفاق نتج عنه تحرير الرهائن الأمريكان لدى إيران فيما بعد، مقابل اقتحام السفارة من قبل القوات البريطانية وقتل أعضاء المجموعة الأحوازية جميعا إلا واحدا منهم استطاع الخروج بمساعدة المحتجزين الذين تم تحريرهم آنذاك. حصل هذا رغم أن المجموعة لم تبد أي مقاومة ولم يطلق اعضاؤها النار على القوات البريطانية ومطالباتهم كانت سلمية.

إذن هذه العقلية التي لا تعير اهتماما لأرواح مواطنيها من دبلوماسيين وغير دبلوماسيين وتتمنى لهم الموت ليصبحوا شهداء كيف يمكن التوقع منها أن تكف عن ممارساتها اللا دبلوماسية في البلاد المجاورة، حتى وإن نفذت آلاف العمليات ضد مؤسساتها الدبلوماسية. ويبدو أن الحلول الأمنية التي تنتهجها إيران في الداخل في قمع المعارضين والنشطاء جعلها تسير في الطريق الخاطئ ولا تعرف غيره.

الآن أصبح واضحا إن إيران بحاجة إلى ارسال قوات أمنية كبيرة بالتزامن مع ارسال السفراء والموظفين الدبلوماسيين، وذلك من أجل حماية مواطنيها. فقط لأنها انتهكت حرمة العمل الدبلوماسي ولوثته. وفقط لأنها خلقت لنفسها الكثير من الأعداء نتيجة عبثها في أمن البلاد الأخرى. كما إنها أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على الدول المستضيفة إذ ترتب على الدول المستضيفة بذل المزيد من الجهود لحماية الدبلوماسيين الإيرانيين المنبوذين الذين يمارسون أدوارا غير دبلوماسية.

موسى الفاخر

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق