النفوذ الإيراني في إفريقيا: السودان مرتكزاً

يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الإستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية إفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية، فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الافريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة.

ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني-السوداني تعكس تبايناً واضحاً في الرؤى والتوجهات، فثمة من يقف عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي، وهناك من يقف عند حدود التوجه الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في إفريقيا. ولا شك أن هناك أبعاداً ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو السودان.

 

أهمية السودان الاستراتيجية بالنسبة لايران:

تنبع أهمية السودان الاستراتيجية من موقعها الجيواستراتيجي، فهي قريبة من (قلب) العالم العربي، وبخاصة مصر. فهناك اعتماد متبادل بين السودان ومصر، بمعنى أن ما يحدث لأي طرف يتأثَّر به الطرف الآخر، ووقوع السودان بين أهم معبرين للتجارة العالمية والنفط في المنطقة، وهما قناة السويس وباب المندب، حيث تعْبر يومياً نحو مائة سفينة و120 ألف برميل من نفط الخليج (1)، وما يحتويه السودان من ثروات طبيعية كالذهب واليورانيوم، كما يمكن للسودان أن يكون البوابة الخلفية للقارة الإفريقية.

بالإضافة إلى أن السودان أصبح أرض المعركة الجديدة بين إيران وإسرائيل في صراعهما الخفي، ويرجع ذلك إلى خشية اسرائيل من طبيعة العلاقات السودانية-الإيرانية التي شهدت تقدماً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، والذي انعكس على مجالات التعاون المختلفة، والذي بات يهدد أمن ومصالح إسرائيل في المنطقة العربية والافريقية معاً، فعن طريق السودان يتم بيع صفقات الأسلحة الإيرانية إلى المسلحين في القارة الافريقية، كما يتم تصنيع الأسلحة على الأراضي السودانية، وما قصف إسرائيل لمصنع اليرموك للأسلحة في العاصمة السودانية في منتصف ليل 23 أكتوبر2012 إلا دليل على ذلك. ويرجع أسبابه إلى وجود وثائق إسرائيلية تؤكد أن السودان يمثل حلقة الوصل بين إيران وحماس، وعن طريقه يتم تهريب الأسلحة إلى غزة ـ والجدير بالذكر أنه سبق وأن وجهت اسرائيل أكثر من ضربة لمجموعات سودانية داخل الحدود السودانية، واتهمتهم بأنهم مهربو سلاح إلى قطاع غزة عبر سيناء المصرية، منها في مايو عام 2012 حيث قصفت طائرة إسرائيلية سيارة ناصر عوض اللهفي في منطقة بورسودان والاتهامات له بالتعاون مع إيران بإنتاجه صواريخ أرض-أرض الإيرانية طراز «شهاب»، و للصواريخ الباليستية الإيرانية واستخدامها في حال نشوب حرب في المنطقة (2).

وفي هذا السياق ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن هناك معلومات تشير إلى أن الرئيس السوداني عمر البشير وافق على إقامة قاعدة عسكرية إيرانية على البحر الأحمر داخل العمق السوداني، وتوقعت أن ينصب الإيرانيون في القاعدة صواريخ قادرة على إصابة أهداف في جنوب ووسط إسرائيل، فيما نفت وزارة الخارجية السودانية بشدة هذه المعلومات(3).

وبصرف النظر عن الرؤية الإسرائيلية حول مدى وعمق العلاقة الإيرانية–السودانية، وعن مزاعم تحول هذه البوابة الإفريقية الإستراتيجية إلى مقر وممر للأسلحة التي تصل إلى قطاع غزة، فإن ما ينبغي تأكيده هو أن إسرائيل تعتبر السودان البلد العربي الأكثر خطورة بسبب ثرواته وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر. لذا ساهمت إسرائيل بفعالية في تقسيم السودان، ونجحت في نسج علاقات عسكرية وأمنية واقتصادية مع دولة الجنوب التي تحولت إلى ممر أساسي للإستراتيجية الإسرائيلية نحو إفريقيا جنوب الصحراء.

 

تطور العلاقات بين البلدين “نظرة نقدية “:

كان السودان ولا يزال محط أنظار إيران خاصة بعد انفصال الجنوب، فمنذ استيلاء نظام الإنقاذ على السلطة في عام 1989 سمى الانقلاب ثورة تيمناً بالثورة الإيرانية. وأحدث تغييرات عميقة في بنية المجتمع السوداني، كما أظهر النظام نفسه كما لو أنه يسير بقيادة الدين. وكل ذلك كان أسوة بالثورة الخمينية، التي لم تتوان الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن محاولة تصديرها إلى بعض الدول العربية.

ويعتبر السودان من أكثر الدول مواءمة مع السياسة الإيرانية من حيث البعد الديني، لتوجه الدولة بالرغم من الاختلاف المذهبي، وزادت هذه الخصوصية في العلاقات بعد تحول السودان إلى دولة تستقطب الإستثمارات العربية والعالمية بعد اكتشاف النفط ففي تسعينيات القرن الماضي وفي عهد الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني قدمت إيران دعمًا مالياً للسودان، وتواصل الدعم في عهد خلفه الرئيس محمد خاتمي، تبع ذلك دعم عسكري أقامت به إيران مصنعاً للأسلحة والذخيرة لتعزيز معاهدة التعاون العسكري الذي لم يغفل عن التركيز على استعداد إيران لعرض مشاريع للشراكة التكنولوجية النووية.

وفضلاً عن تصنيف الدولتين (إيران والسودان) دولتين راعيتين للإرهاب من قبل واشنطن، فإن العلاقة بينهما قد شهدت تطورات في المجالين العسكري الإستراتيجي والإقتصادي على مر سنوات نظام الإنقاذ.

 

على المستوى الدبلوماسي: توالت فيه الزيارات المتبادلة بين أعضاء حكومتي البلدين عام 2009، وتم فيه تبادل التصريحات، فقد أدان رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني أثناء زيارته للخرطوم مذكرة الاعتقال التي صدرت من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير واعتبرها إهانة مباشرة للمسلمين وبادلته الحكومة السودانية بإعلانها عن دعمه. وفي سبتمبر 2011 قام الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بزيارة إلى السودان، تناول فيها مسار العلاقات بين البلدين وقضايا المنطقة، وفي مقدمتها  قضية  العراق  وفلسطين  ولبنان  ودارفور بجانب  الملف النووي الإيراني، وأكدا على ضرورة تطوير وتنمية مختلف مجالات التعاون ذات الاهتمام المشترك على أساس مبدأ الاحترام المتبادل والسيادة الوطنية في إطار المبادئ والقواعد الدولية، وضرورة متابعة وتنفيذ الإتفاقيات الموجودة، والسعي من أجل البحث عن سبل تطوير العلاقات الثنائية، لاسيما في المجالات الاقتصادية والصناعية والتقنية.

 

أما على المستوى الاقتصادي، فقد أجريت في العاصمة السودانية الخرطوم المباحثات الإيرانية-السودانية في مايو 2012 برئاسة نافع علي نافع مساعد الرئيس السوداني ونائب رئيس الجمهورية الإيرانية علي سعيد لو، حيث بحث الجانبان سبل تحقيق تطلعات بلديهما في التطوير والتنمية في مواجهة محاولات الغرب لإعاقة النمو الاقتصادي، وقد وقعا عددا من الاتفاقيات الاقتصادية بقيمة 400 مليون دولار (4).

وخاصة فيما يتعلق بتبادل الخبرات في مجالات الزراعة، عن طريق إنشاء مزرعة نموذجية مشتركة، وتصدير بعض المحاصيل والمنتجات الزراعية إلي إيران، وتعزيز الصناعة بإنشاء مصانع سكر وألبان ومصنع للسيارات والجرارات والمقطورات، إضافة إلى إبرام اتفاق للتعاون في كل من المجال العلمي الجامعي والنفط والتعدين والعمل المصرفي بما يصب في مصلحة البلدين، وعقد تعاون بين جمعيتي الهلال الأحمر في الدولتين مع وجود بند يتيح استيراد الأدوية من إيران.

 

وفي المستوى العسكري، وقع البلدان عدة اتفاقيات في المجال العسكري بهدف ترسيخ التعاون بينهما، والذي تضمن مساعدة إيران للسودان عسكرياً والمساهمة في تحول الجيش السوداني من استخدام السلاح الروسي والصيني إلى استخدام السلاح والذخيرة الإيرانية، وأقام الحرس الثوري الإيراني مصنعا لإنتاج الأسلحة في الخرطوم يعرف باسم “مصنع جياد” تنفيذاً لبند في اتفاقية الدفاع التي وقعت بين البلدين عام 2008، والتي صاحبها وصول 169 خبيراً إيرانياً في سلاح الطيران والدفاع الجوي والحرب الصاروخية، إلي السودان للعمل في إدارة قاعدة الخرطوم العسكرية الجوية لتجهيز الطائرات وتقديم الخدمات الفنية (5).

كما اتفق الجانبان على القيام بمهام التدريب وكذلك إرسال مرشدين عسكريين لتدريب وحدات الجيش السوداني العاملة في دارفور، حيث تشير عدة تقارير أنه لا تزال عمليات نقل الأسلحة والذخائر والمعدات المتصلة بها إلى دارفور مستمرة لأغراض العمليات العسكرية التي ترتكب فيها انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني من قّبل الحكومة السودانية والميليشيات المدعومة منها، وأيضاً من جماعات المعارضة المسلحة، وذلك من العديد من الدول في مقدمتهم إيران، علي الرغم من قرارات مجلس الأمن بإحكام حظر الأسلحة على جميع أطراف النزاع في دارفور.

 

القوة الناعمة الإيرانية كأداة نفوذ إيرانية في السودان:            

تقوم ايران باستخدام القوة الناعمة  -القدرة على صياغة خيارات الآخرين، والحصول على ما تريد عبر الجاذبية أو السحربدلاً من القهر أو الإكراه أو الدفع القسري (6)–  كداعم لسياستها الخارجية في المنطقة. و يرى الباحث الإيراني عباس مالكي أن مصادر القوة الناعمة الإيرانية تتمثل بثلاثة عناصر أساسية، هي:الثقافة والقيم السياسية  والسياسة الخارجية.وهذه المصادر يتم نشرها عبر قنوات يتم من خلالها وعبرها ممارسة وتوجيه القوة الناعمة للبلاد.

ومن هذه القنوات الأدوات الثقافية:تمتلك إيران ترسانة هائلة من الأدوات الثقافية التي تساعدها على توجيه مصادر القوة الناعمة في الاتجاه المراد. والذي يحقق في نهاية المطاف مصالح البلاد العليا وأهدافها الإستراتيجية. وتتوزع هذه الأدوات على مستويات متعددة من المواضيع داخل البناء الثقافي، ونذكر منها على سبيل المثال المركز الثقافي الإيراني بالخرطوموهو بمثابة العقل المدبر لنشر الفكر الشيعي في السودان، ويحتوي على مكتبة لأشرطة الفيديو، وأشرطة الكاسيت، والجرائد الإيرانية. ومن أخطر أنشطة هذا القسم تقديم المنح الدراسية للجامعات الإيرانية، وأكثر المنح تكون لجامعة الإمام الخميني؛ لأن هذه الجامعة تقوم بتدريس ما يعرف بالفقه الجعفري، وقد تم خلال السنوات التسع الأخيرة إرسال عدد كبير جداً من الطلاب إلى تلك الجامعة، وخاصة الطالبات، وقد تخرج من تلك الجامعة عدد كبير، وتم تعيين أغلبهم في المراكز الثقافية الإيرانية، وبعضهم في السفارة الإيرانية بالخرطوم، وتعطى تلك المنح للطلاب الذين سبق التحاقهم بإحدى الدورات التي ينظمها المركز.

كما عمدت المستشارية الإيرانية في الخرطوم بإنشاء مراكز لتعليم اللغة الفارسية، وإنشاء عدد من المدارس والمعاهد في مناطق شعبية أملاً في إقبال الطلاب عليها؛ نظراً للظروف الإقتصادية الصعبة التي يمر بها أكثر الناس.

كما قامت بإنشاء المكتبات العامةالتي تمثل في السودان مأوى لكل الطلاب، وقد حققوا نجاحاً في استخراج إعفاءات جمركية (عبرالإتفاقيات بين السودان وإيران والأنظمة والأعراف الدبلوماسية بين الدول) لإدخال الكتب والأشرطة المسموعة والمرئية، وقد أدخلوا 8 ملايين نسخة من الكتب المختلفة التي تدعو إلى فكر الشيعة، وقد نشرت منها كميات ووزعت على المتصوفة والطلاب والمعاهد الدينية بالسودان عبر مشرفي المعهد الإيراني بالخرطوم.

 

الأدوات الدينية (التشيع الإيراني ومبدأ الولي الفقيه):

يشكل الشيعة في العالم باختلاف فرقهم ما بين 7,6% إلى 13%   كحدٍ أقصى من مجموع المسلمين أجمعين (7).وعليه ، فإن إيران تشكّل مركز الجاذبية لهؤلاء ليس على المستوى المذهبي فقط، وإنما على المستوى السياسي أيضاً على اعتبار أن السياسة والدين متمثلان  في نظام الولي الفقيه، وهو المرشد الأعلى الذي يمتلك قوة ناعمة هائلة بحكم الموقعَيْن (الديني والسياسي) لدى أتباعه المنتشرين ليس داخل إيران فقط وإنما خارجها أيضاً، والذين يقومون بشكل طوعي إرادي بخدمة مصالح الدولة الإيرانية نظراً لطبيعة العلاقة الدينية التي تربطهم بتبعية الولي الفقيه، وذلك لارتباط الديني بالسياسي بشكل وثيق، نظراً لكون الأخير قائداً سياسياً لإيران إلى جانب كونه مرجعاً دينياً.

وذكرت عدة تقارير أن للشيعة في السودان نحو 15 حسينية، أغلبها في العاصمة الخرطوم، ينظم فيها منتدى دوري يتناول الأمور الخاصة بالطائفة الشيعية.

فيما تؤكد التقارير على أن عمل الحسينيات أقرب إلى السرية، ليس تخوفاً من السلطات السودانية، حيث تغمض عينيها حيال نشاطها، ولكن تخوفاً من الجماعات السلفية في البلاد. ويرجع بعض المحللين انتشار التشيع في السودان إلى التعاطف السوداني مع الثورة الإيرانية، ومساندة إيران لحكومة الإنقاذ السودانية وتعميق العلاقات بين البلدين، والى استغلال التعاطف السوداني بحكم انتشار التصوف في السودان المعروف عنه الحب الشديد لآل البيت.

ويؤكد المحللون على أن هذا النفوذ الشيعي تزايد مع تزايد التعاطف الشعبي مع حزب الله الشيعي، إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، ما رفع التعاطف مع زعيم الحزب حسن نصر الله دون النظر أيضاً إلى عقيدته ومذهبه ورأيه في أهل السنة والجماعة.

وتسعى طهران لتوحيد الأقليات الشيعية أينما وُجدت تحت رايتها، وتستخدم أيضاً المصطلحات التي تساعد على توسيع نفوذها في هذا الإطار لنشر التشيع في بيئات أخرى كالوحدة الإسلامية، والتضامن الإسلامي، والتسامح والحوار بما ينعكس مكسباً سياسياً.

 

الأدوات الإعلامية: تمتلك إيران إمبراطورية إعلامية هي الأكبر على مستوى المنطقة وهي مؤسسة حكومية تشرف على السياسات الإعلامية الخاصة بجميع المحطات التلفزيونية وإذاعات الراديو في البلاد بما يتناسب مع توجهات الدولة.

وترتبط الوكالة بعدد من الوزارات بالثقافة والخارجية ويتم استخدامها لخدمة الرسائل التي تصدر عنهم فيما يتعلق بالترويج للثورة الإسلامية والثقافة الإيرانية والدبلوماسية العامة.

كما تستخدم إيران مجموعة من أدوات القوة الناعمة في سياستها الخارجية لتوسيع قاعدة نفوذها وتأثيرها على الصعيد الإقليمي، ومنها:

– التشيع السياسي: يُستخدم التشيع في إطار علاقات إيران الخارجية على نطاق واسع وهو عنصر مهم لتوليد القوة الناعمة الإيرانية على مستوى الحاضنة الشيعية الموالية للولي الفقيه في الحد الأدنى بما يخدم المشروع الإيرانيفي المنطقة.ويرى الباحث الإيراني كيهان برزكار أن استخدام التشيع في السياسة الخارجية قديم، لكنه أصبح أكثر فاعلية بعد أزمة العراق عام 2003 حيث دخل التشيع في إنتاج السلطة والسياسة في الشرق الأوسط، مما أدى إلى تقوية دور ونفوذ إيران، فعنصر التشيع أدى إلى تحويل العراق إلى دولة صديقة ومتحالفة مع إيران، وأعطى الحضور الفعال والمصيري في قضايا العراق ولبنان، والشرق الأدنى (8). وهذا ما تحاول القيام به في السودان في ظل خوفها من سقوط نظام الأسد حليف ايران في المنطقة؛ لضمان مصالحها في حوض البحر الأحمر وفي القارة الافريقية.

 

الخطاب الثوري المعادي لأمريكا والغرب: استطاعت ايران من خلال هذا الخطاب أن تكسب قطاعات واسعة من الرأي العام لصالحها وخاصة في السودان، واستغلت حساسية هذه القاعدة تجاه أمريكا والغرب ووظفتها في إطار سعيها لتعزيز قوتها الناعمة في المنطقة.

 القضية الفلسطينية: وتهدف من خلال خطاب دعم القضية الفلسطينية إلى تخطي حزام من شملتهم في العنصرين السابقين، وكسب قطاعات واسعة لدى الرأي العام لصالحها، واستقطاب الشارع لخلق بيئة مناسبة لتقبل الدور الإيراني الإقليمي عبر هذا الباب.

النفوذ الايراني في السودان وتأثيره على الأمن العربي والخليجي خصوصاً:

ليس ثمة شك فى أن الوضع فى السودان يقترب من مرحلة الخطر ليس فقط على سيادة السودان ووحدة أراضيه، ولكن كذلك بالنسبة لمصالح دول الجوار الجغرافى وفى مقدمتها مصالح مصر ودول الخليج. حيث تسعى إيران الى تطويقها وفرض واقع جديد فيها، يكون من أبرز ملامحه الرضوخ للمشروع الإيراني، وإفساح المجال أمام أفكار الثورة الخمينية الشيعية الفارسية.

هذا فضلا عن محاولة إيران فرض سيطرة ما على طريق الملاحة الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وأيضاً تسهيل عملية الدعم العسكري السريع لأنصارها وخلاياها النائمة في حال حدوث أي اضطرابات سياسية في أي من هذه الدول الثلاث، وهو ما تراهن عليه إيران منذ زمن، بعد أن عجزت عن تحقيق الاختراق المطلوب لها بالوسائل الثقافية والسياسية والدبلوماسية أو مايسمى بالقوة الناعمة، لاسيما في مصر والسعودية. حيث ترى الدوائر السياسية فى إيران أن حضورها القوي في السودان عنصر ضروري للضغط على مصر وتفتيت جهودها وتهديد أمنها القومى، عبر دعمها لعناصر الإرهاب والمحاولات الفاشلة لإشاعة الفوضى والارتباك فى المجتمع المصري، بعد القطيعة التي استمرت منذ عام 1980 احتجاجاً على إبرام مصر معاهدة سلام مع إسرائيل.

وأعربت إيران أكثر من مرة منذ إطاحة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في 11 فبراير 2011 عن تطلعها لتطبيع العلاقات مع مصر، وسعت إلى ذلك أيام حكم الرئيس السابق محمد مرسي من خلال تبادل الزيارات الرسمية، إلا أن العلاقات جمدت مع عزل الرئيس السابق محمد مرسي من الحكم.

ونذكر أن سعي إيران الحثيث لتوطيد العلاقة مع القاهرة؛ هو لنشر التشيع بين الشعب المصري السني لتكون أداة ضغط على أي نظام سياسي مقبل في حال توجهه ضد مصالح طهران. وتعتبر أيضاً فرصة سانحة لاختراق مصر استخباراتياً، ووضع تصور كامل عن أدق تفاصيل الحياة فيها، وكيف يمكن لإيران بمؤسساتها الأمنية أن تضع برامج اختراق تمهيداً لتقبل الكثير مما يتعارض مع التعاليم السنية.

لذلك فإن سقوط النظام السودانى الحالي مع احتمال عودة العلاقات الطبيعية مع مصر يشكل نكسة سياسية واستراتيجية كبرى لطهران، وبالتالي ترى إيران ضرورة استمرار دعم النظام السودانى بشتى الوسائل لمنع سقوطه، وذلك من خلال مواصلة تعزيز العلاقات الثنائية وتكريس الوجود الإيرانى فى السودان.

ومن الصعب فصل سياسة إيران تجاه دول الخليج عن مجمل رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة العربية ودورها فيها، تلك الرؤية التي لم تختلف سواء في عهد “الشاه” أو عهد الجمهورية الإسلامية، وتقوم على اعتبار إيران قوة إقليمية مهيمنة، وأن منطقة الخليج ودولها تدخل في نطاق نفوذها، وترتبط ارتباطًاً مباشرًا بالأمن القومي الإيراني، وظهرت تجلياتها بوضوح من خلال تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، مستخدمة في ذلك أساليب ووسائل كثيرة، منها المال السياسي، والمتاجرة بآلام ومشكلات الشعوب، واللعب على وتر الشعارات البراقة مستغلة وضعاً اجتماعيّاً يتفاوت بين دولة وأخرى، ويحاول الخطاب الإيراني استغلال الاستقطاب السياسي باللعب على الوتر الديني، لتكريس تواجده في الدول العربية والخليجية بشكل خاص، معتمدة على وجود أقليات مذهبية، ومحاولتها إثارة مشاكل مع دول الخليج العربي والضغط عليها خاصة الإمارات، بهدف عدم التزامها بالعقوبات الأمريكية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي.

ومن ذلك تصعيدها مشكلة الجزر الإماراتية، بصورة ملحوظة حين زار الرئيس السابق “أحمدي نجاد” في 11 إبريل 2011 جزيرة “أبو موسى”، ولأن السعودية، هي القوة الرئيسة المنافسة في المنطقة، فإنها نالت نصيباً وافراً من الاستفزازات الإيرانية، كمحاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن “عادل الجبير”، وضلوعها في العملية التي كشفت عنها قطر في نوفمبر 2011، والتي استهدفت مقر السفارة السعودية في البحرين، ودعمها احتجاجات البحرين إعلامياً وسياسياً وماديًا، واكتشاف شبكتي تجسس تابعتين للحرس الثوري بالكويت في مايو 2010 وأبريل 2011 تستهدفان البنية الأساسية، هذا غير تفكيك خليتين إرهابيتين في البحرين في سبتمبر 2010 وأبريل 2011 كانتا تتآمران لقلب نظام  الحكم، هذا غير اكتشاف خلية تجسس  لصالح  إيران يقودها  بحريني مع إيرانيين  حيث بدأت محاكمتهم  في أبريل 2012 (9).

كما أن عملاءها في العراق وسورية واليمن أصبح من الأمور المسلم بها، وفي الحالة السورية تحاول إيران الدفاع عن “الأسد” حتى آخر نفس، وتكوين دويلة “علوية” ملتصقة بالحدود مع “حزب الله” في حال سقوطه، ومنع قيام نظام قوي في سورية؛ من خلال زرع الفوضى في حال فشل خيار الدولة العلوية، من خلال تكوين ميليشيا إيرانية، على غرار “حزب الله” في لبنان، للدفاع عن موطئ قدم في سورية ما بعد “الأسد”.

وتسعى إيران من وراء تلك السياسات إلى استعادة مجد الإمبراطورية “الفارسية” وإقامة دولة مذهبية كبرى تضم معها دول الخليج، وكذلك جنوب العراق وسورية ولبنان. وهو ما سماه الملك “عبد الله” عاهل الأردن بـ”الهلال الشيعي”، والسيطرة على سوق الطاقة الدولية، وهو ما لن يتحقق إلا بالسيطرة على الثروة الخليجية من النفط والغاز، وإخضاع المنطقة لدائرة هيمنتها العسكرية عبر تطوير ترسانتها من الأسلحة التقليدية من ناحية، وتطوير برنامج للحصول على قدرات نووية يمكن أن يكون ذا أهداف عسكرية من ناحية أخرى، والتأثير في سياسات دول المنطقة، وذلك بوضعها دائماً تحت ضغوط، من أجل جعلها تحجم عن اتخاذ مواقف أو نهج سياسات معينة، ترى فيها طهران إضراراً بمصالحها أو تهديداً لأمنها القومي، واستخدام سياسة التهديد بضرب حقول النفط أو إغلاق مضيق “هرمز” لإجبار دول الخليج على الضغط على الولايات المتحدة لعدم توجيه ضربة عسكرية لإيران، بجانب إفشال المحاولة الوحدوية الخليجية، لأنها ستزيد من قوة هذه الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية، وخلق كيان مناوئ لها بالقرب من حدودها.

ورغم القناعة التي تحكم ذهنية النخب السياسية الخليجية والعربية بأهمية التعامل مع إيران باعتبارها دولة جارة وإسلامية وترتبط بالمنطقة العربية بوشائج التاريخ والجغرافيا والتواصل الإنساني، وهو ما تعمل على ترسيخه دول مجلس التعاون الخليجي عبر أشكال وصيغ عديدة، سواء سياسية أو اقتصادية وأحيانًا أمنية لاجتذاب طهران للتعاطي الإيجابي مع هذه المحددات التي تتقاطع مع مصالح الطرفين، إلا أن استجابة إيران لهذه المحددات ليست على النحو الذي يسهم في تفعيل علاقات صحية مع دول الخليج.

ولذلك يبقى السيناريو الأكثر ملاءمة هو محاولة منع إيران من مد نفوذها في المنطقة ومحاصرة أنشطتها المريبة، وإجهاض محاولتها للتسلل إلى دولها ودول أخرى بعينها كما يحدث في مصر والسودان، فضلاً عن محاولة تقليص نفوذها في دوائر نفوذها التقليدية في لبنان والعراق وسورية وكشف خلاياها، وإضعاف حلفائها في المنطقة.ومحاولة استرجاع السودان وضمها إلى الصف العربي الموحد، ومساعدتها على تجاوز أزماتها الداخلية والخارجية في إطار تجميع الدول العربية ضمن مشروع واحد ضد المشروع الإيراني.

 

نسرين القصاب

كاتبة وباحثة سورية

 نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

المراجع:

1-حسن الحاج علي أحمد، “أزمات السودان وتحديات أمن المنطقة العربية”: http://www.alukah.net/

2-مجموعة باحثين، “سموم إيران.. محاولة خبيثة للتخريب والدمار”: http://www.inewsarabia.com

3-نجلاء مرعي، “السودان: الساحة الجديدة للصراع الإسرائيلي الإيراني”: http://www.aljazeera.net

4- See: Joseph S. Nye, The Paradox  of  American Power, Oxford  University Press, USA; 1 edition, 2003, p. 8-12.

5- صلاح خليل، “التقارب الإيرانى – السودانى: الأهداف والتداعيات”، مختارات إيرانية، العدد 130، مايو 2011، ص 103.

6- مصطفى فولي، “التغلغل الإيراني في السودان”: http://ar.qawim.net

7-علي حسين باكير، “اكتشاف القوة الناعمة الإيرانية .. القدرات وحدود التأثير”: http://studies.aljazeera.net

8- المرجع السابق.

9- مصطفى فولي، مرجع سابق.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق