النظام السياسي الإماراتي بين التنمية السياسية واستحالة الأخونة

يتساءل الكثير من المراقبين والسياسيين المتابعين للشأن العربي عن المحاكمات التي تطال اليوم مجموعة من المواطنين الإماراتيين وبعض المواطنين العرب المتهمين بتشكيل فرع للأخوان المسلمين في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتضج بعض وسائل الإعلام بهذه القضية متهمة الحكومة الإماراتية بالتعسف في نسبهم إلى جماعة الأخوان المسلمين وتشكيل تنظيم سري غير مرخص يستمد سياساته من خارج البلاد وبأجندة أممية يعرفها كل من سبر أغوار تنظيم الأخوان المسلمين وديناميات اتخاذ القرار الشديدة المركزية والسرية فيه، خصوصاً بعد أن استطاعوا الإمساك بالسلطة في بلد المنشأ وبعض الدول العربية التي طالتها موجات التغيير.

إلّا أن فحص القضية وخلفياتها يجلي بعض الحقائق ويوضح مدى خطورة التهاون والتسامح مع تنظيم الأخوان وترك الساحة مفتوحة أمامهم للعمل السياسي في دولة كالإمارات العربية المتحدة . حيث اعتقد الأخوان بعد تسلمهم السلطة في جمهورية مصر العربية في لحظة دهماء وتخبط بين صفوف المصريين الذين ما لبثوا أن تنفسوا الصعداء بعد حركة 25 يناير، وقبلها وصول حزب النهضة الإسلامي ومن ثم تمددهم في كل من ليبيا وسوريا، اعتقدوا بأنها اللحظة التاريخية للتمدد على ساحة الجغرافيا العربية، وبالتحديد في منطقة الخليج العربي، وقد كانت الإمارات العربية المتحدة وجهةً رئيسيةً وهدفاً ضمن مخططاتهم مستفيدين من هامش الحرية والليبرالية والوفرة المالية ليُحكموا القبضة على مقدرات الموارد المالية من جهة، ومن جهة أخرى مدعومين بسيل من الموارد البشرية التي توفرها لهم قاعدتهم الشعبية في بعض البلدان العربية الأخرى وغير العربية. وبالتالي يستطيعوا تحريك مشروعهم الإسلامي (المتخيل) بمروحة ثلاثية الشفرات مالية وجغرافية وسكانية ضخمة تعطي الزخم للمخطط الإخواني السري مستخدمين الشعارات الإسلامية كــ (لوغو) للحشد في مجتمعات تدين بالإسلام كجزء من ثقافتها ومحدد من محددات قيمها وهويتها الحضارية.

لكن – وكما أشرنا في مقال سابق عن التجربة المصرية في مركز المزماة – لقيت تجربة الأخوان المسلمين فشلاً ذريعاً ورفضاً شعبياً عارماً تتوج بإزاحتهم من السلطة تحت ضغطٍ ومدٍ شعبي وبعد أن لفظتهم المؤسسات الأصيلة للدولة المصرية عندما حاولوا ابتلاع المؤسسات عن طريق أخونتها. كانت نشوة أصابت تنظيم الأخوان المسلمين وأنعشت فروعه في أكثر من دولة عربية وإقليمية وحركت فيه نوازع الاستيلاء على السلطة عبر تسلل أعضاء الجماعة وزرعهم في هياكل الدول المستهدفة.

النظام الاقتصادي الإماراتي خارج مفهوم الريعية:

تتميّز دولة الإمارات العربية عن مثيلاتها من دول الخليج العربي بتنوع اقتصادها ونمو الصناعات التحويلية، إلى جانب اقتصاد خدمي متميّز وتعتبر دولة الإمارات حالياً ثاني أكبر اقتصاد عربي بعد السعودية، ويعتبر واحداً من أسرع الاقتصادات الناشئة على مستوى العالم، حيث تشير الإحصائيات إلى ارتفاع الناتج المحلي للإمارات من 6.5 مليار درهم منذ الإعلان عن الاتحاد عام 1971 ، ليصل إلى 1.2 تريليون درهم نهاية عام 2011. وتشير تقديرات بنك “سامبا” السعودي الامريكي أنه من المتوقع أن يلامس إجمالي الناتج المحلي لدولة الإمارات 442 مليار دولار في عامين وأن يرتفع بمقدار 11 مليار دولار في العام الحالي 2013، بنمو 5.3% ليسجل 442 مليار دولار في بداية عام 2015. والأهم من ذلك أن البنك في تقريره الربع سنوي يذكر أن الزيادة في الناتج الإجمالي المحلي للدولة تنبع من القطاعات غير البترولية في المقام الأول متوقعة أن يحافظ إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الحالية على الاتجاه التصاعدي وأن يواصل النمو خلال السنوات المقبلة. وقد توقع البنك نمواً في الإمارات بنسبة 3.3٪ خلال العام الحالي وذلك نتيجة ارتفاع الإنفاق الحكومي وبقاء أسعار النفط قوية، ونمو معظم القطاعات غير النفطية، خصوصاً في دبي. وقام البنك بالتأكيد على أن الإمارات استفادت بشكل كبير من كونها ملاذاً آمناً للاستثمارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مضيفةً أن ذلك أدى إلى زيادة التدفقات الرأسمالية إلى الدولة، وتعزيز ثقة المستثمر. كما أن الانتعاش الحاصل في قطاع العقار سيسهم في دعم هذه التطورات، ما يتيح للإمارات أن تحقق نمواً أكبر رغم استمرار تباطؤ الإقراض المصرفي.

يفيد هذا العرض السريع للاقتصاد الماكروي (الإقتصاد الكلي) في توجيه العدسة إلى فعالية النظام الاقتصادي كجزء فرعي من النظام السياسي لدولة الإمارات العربية المتحدة، الذي يتسم بتمايز بنيوي عالي وتخصص وظيفي يفيد بحداثة وحيوية النظام واستجابته للتحديات الحالية والمستقبلية.

وكانعكاس للنمو الاقتصادي أخذ النظام السياسي لدولة الإمارات بالنمو والتطور نظراً لما يتركه ذلك من تثمين لمناحي الحياة كافة يتمظهر عبر تطور القوانين والتشريعات التي مست الجوانب الاجتماعية في أكثر قضاياها تفصيلية إذ لم تقتصر فقط على القضايا العمومية، بل نظمت الحقوق لفئات غير منظورة في كثير من دول المنطقة التي أخذت من النموذج الإماراتي أثناء تحديث تشريعاتها وقوانينها مثل القانون الإتحادي رقم (1) لسنة 2012 بشأن رعاية الأطفال مجهولي النسب على عكس ما تذكره بعض التقارير عن مظلومية تمس الأطفال الذين لا يعلم شيء عن نسبهم، كذلك هناك القانون الاتحادي في شأن الجمعيات والمؤسسات الأهلية ذات النفع العام والقانون الاتحادي في شأن الحضانات وقانون حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن هناك قانون اتحادي في شأن الضمان الاجتماعي يعتبر الأرقى والأكثر تقدمية على مستوى العالم، وغيره الكثير من القوانين والتشريعات التي تعكس تلاؤم نمو البنية الاجتماعية وتكيف النظام السياسي استجابة له.

تطور النظام السياسي الإماراتي:

يعتبر النظام السياسي الإماراتي نظاماً اتحادياً رئاسياً وهو بذلك النظام الوحيد في دول الخليج العربي الذي يتم انتخاب الرئيس فيه عبر هيئة انتخابية مكونة من حكام الإمارات السبع الذين يكوّنون المجلس الأعلى للاتحاد وهو أرفع سلطة دستورية في الإمارات العربية المتحدة.

اللقطة الأهم التي توجب تسليط الضوء عليها في تحديث النظام السياسي الإماراتي هو انتخابات المجلس الوطني الاتحادي عام 2006، حيث تم انتخاب نصف أعضاء المجلس من قبل هيئة انتخابية وتم تعيين النصف الآخر من قِبل حكام الإمارات.

لا يتمتع المجلس الوطني الاتحادي حتى اللحظة بصلاحيات تشريعية ويقتصر عمله على تقديم الدعم والمشورة، وهنا بالتحديد تتبدى الانتقادات والمطالبات بتحويله إلى برلمان كامل الصلاحية، فكانت الدعوات تتصاعد ليكون المجلس في الانتخابات التالية بمثابة برلمان بصلاحيات تشريعية ورقابية.

لكن ومن وجهة نظر تنموية سياسية تقرأ ديناميات تطور النظم البرلمانية سنجد أنه من الصعب الانتقال نحو نظام برلماني بهذه العجالة نظراً لعدم وجود تجربة حزبية عميقة مما قد يؤدي إلى عدم استقرار حكومي واستقطابات سياسية تضر بوحدة البلاد، فأثناء عملية البناء الديمقراطي توجب مراعاة وجود سلطة سياسية عالية المركزية بنخبة سياسية متنورة ذات منظور حداثي، وقد أثبت حكام الإمارات حتى هذه اللحظة أنهم يعبرون عنها بشهادة الواقع الذي تعيشه دولة الإمارات، وقد اعتمدوا مقاربة تنموية سياسية تُنضج التجربة الديمقراطية عبر إجراءات تدريجية نابعة من خصوصية المجتمع الإماراتي.

لو أخذنا التجربة البرلمانية النموذجية في العالم وهي التجربة البريطانية لوجدنا النظام البرلماني البريطاني مرّ بتطورات عديدة كانت موازية ومتناغمة مع تطور التاريخ السياسي لبريطانيا نفسها فمن الملكية المطلقة في العصور الوسطى إلى الملكية المقيدة منذ القرن الثالث عشر إلى النظام البرلماني الذي أخذ صورته الكاملة في القرن التاسع عشر، فبعد أن كان الملوك في العصور الوسطى يتمتعون بسلطات مطلقة أخذت هذه السلطات تتوزع شيئاً فشيئاً حتى ترسخت عبر مؤسسات ناضجة ترتبط ببعضها بعلاقة اعتماد متبادل لتنتج المسؤولية الوزارية أو الحكومية أمام البرلمان وانتقال سلطات الملك إليهم.

لذلك يصبح من المفهوم تماماً أن الدعوات إلى تحويل المجلس الوطني الاتحادي إلى برلمان كامل الصلاحيات يحتاج لشروط موضوعية لم تكتمل متطلباته حتى الآن، وللتوضيح أكثر فإن النظام البرلماني ومن الناحية العملية يقوم على مجموعة من الأسس والمتطلبات التي يتميز بها عن غيره من الأنظمة السياسية الأخرى، أنجزت الإمارات العربية المتحدة جزءاً منه وتحتاج إلى استكمال الشروط الأخرى عبر تنمية سياسية وثقافية متوازنة وتدريجية. ويمكن إيجاز هذه الأسس والمتطلبات بـ:

ثنائية الجهاز التنفيذي: أي وجود منصبي رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، تُلقى المسؤولية فيها على عاتق الحكومة، بحيث تكون مسؤولة مسؤوليّة تضامنية أمام البرلمان، أما رئيس الدولة بغض النظر إن كان ملكاً أم رئيساً للجمهورية، فإن مسؤوليته السياسية ذات طبيعة سيادية وعنوان لوحدة البلاد وتمثيلها.

تعاون وتوازن ما بين السلطات: أي أن توزيع الاختصاصات ما بين السلطات مرن غير جامد، فمع قيام السلطة التشريعية بوظيفة التشريع فإن للسلطة التنفيذية الحق في اقتراح القوانين والتصديق عليها وبالمقابل فإن للسلطة التشريعية الحق في مراقبة أعمال السلطة التنفيذية والتصديق على الاتفاقيات التي تقدمها السلطة التنفيذية، وتنظيم العلاقة هذه بين السلطتين يكون قائماً على فكرة التوازن بينهما فهناك مساواة وتداخل بين السلطتين، فللسلطة التنفيذية الحق في دعوة البرلمان للانعقاد وحتى حله، وكذلك للبرلمان الحق في استجواب الوزراء والتحقيق معهم وحجب الثقة عن الوزارة أي تقرير المسؤولية الوزارية.

الصرامة والانضباط الحزبي: يتطلب النظام البرلماني نوع من الانضباط الحزبي لأن الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية هو الذي يشكل الحكومة وبالتالي فإن الحكومة ومن الناحية النظرية سوف تتمتع بأغلبية برلمانية مساندة مما يسهل عمل الحكومة، لأننا وكما نعرف عندما تكون السلطة المالية مثلاً بيد البرلمان فإنه في حالة عدم وجود انضباط حزبي قد تكون أية خلافات وعدم التزام نواب الأغلبية بالتصويت لمشروع الحكومة سيؤدي إلى نوع من الجمود في العمل الحكومي وفي دولة ناشئة سيعطل ذلك البرنامج التنموي الذي يحتاج إلى انسجام وتناغم كبير بين صلاحيات الإنفاق والتنفيذ، لذلك يعزى إلى الدول شديدة المركزية فعالية أكبر في تنفيذ وإقرار المشاريع بسرعة وسلاسة أكثر من الدول ذات الدينامية الديمقراطية.

لذلك نرى بمرور الوقت أن الأحزاب البريطانية على سبيل المثال ولكونها تتبع النظام البرلماني تتميز بالانضباط الحزبي العالي بل والمركزية المفرطة في بعض الأحيان حتى تحسب أحياناً أن البرلمان والحكومة جهاز واحد. لكن هذا لا يعني أنه سيكون هناك دمج كامل للسلطتين التشريعية والتنفيذية.

بالنهاية لنا أن نتخيل نظاماً برلمانياً بوجود أحزاب غير منضبطة أصلاً ولا تُعاير المصلحة الوطنية بمنظور وطني يلامس حاجات ومتطلبات مواطني الدولة، بل تستند إلى أيديولوجية أممية تلتقي مع أجندات دولية وإقليمية أكثر مما تراعي مصالح شعب الدولة الوطنية التي تعيش ضمنها، ولنا في الأخوان المسلمين المثال الصارخ الذي عايشنا فصول حكمه في فترة وجيزة بدولة بحجم جمهورية مصر العربية.

محددات موقف الإمارات من الأخوان المسلمين:

إن نمط النظام الاتحادي لدولة الإمارات العربية المفتوح يتعارض مع أي أيديولوجية شمولية عابرة للحدود الوطنية، وهي لا تقف عند تنظيم الأخوان المسلمين وحدهم، لكن جماعة الأخوان المسلمين تُعتبر الشكل التنظيمي الناجز بأهداف سلطوية مبطنة أحياناً وواضحة أحياناً أخرى.

وسنجد خمسة أمور تحدد موقف الإمارات من الأخوان المسلمين:

نمط التعايش السلمي الذي تعيشه دولة الإمارات العربية.

نموذج الرفاه والخدمات.

الأمن الوطني وأمن وسلامة النظام العام.

محاولة ضرب الشرعية السياسية المستقرة لنظام الحكم والتي تستند على القبول الشعبي للسياسات الحكومة.

محاولة استبدال المشروعية القائمة على الحكم الاتحادي.

والهوية العالمية للحواضر المدينية الإماراتية تلفظ أيديولوجيات المصادرة والإنغلاق على الذات، حيث بتنا أمام أيقونات عالمية تشكلها هذه الإمارات لكل منها ميزة فارقة على مستوى العالم.

أضف لذلك أن الطبيعة الديمغرافية للإمارات لا تسمح بإقحام التحزب السياسي والديني في الشأن العام وخصوصاً إن كانت تعتمد على نوع عرقي أو طائفي أو ديني أو إثني لها مساقط سياسية أو رؤية لنظام سياسي متخيل يجد امتداداته خارج الحدود، فتفقد الدولة خاصية التعايش العالمي ونموذجه الفريد في إمارة كدبي أو أبو ظبي على سبيل المثال، وتتحول من أرض الفرص والنجاحات فاتحةً أبواب الاصطراع السياسي واستيراد مشاكل الغير على أرض الإمارات.

إن المشروع الحداثوي الذي تقدمت فيه الإمارات العربية المتحدة نحو الصدارة العالمية لا تحتمل مناكفات الأيديولوجية الأخوانية التي قد تولد ظاهرة الأخوان ونموذجها التنظيمي قيام مثيلاتها من الأيديولوجيات النازعة خارج الحدود، وتحرض فئات سكانية من غير المواطنين على تبلور كنتونات جهوية بأجندة غير وطنية وهذا خط أحمر لا يجب تجاوزه.

لقد كان العامل الرئيسي في اصطدام جماعة الأخوان المسلمين مع الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي هو برنامجهم السياسي المتطلع إلى الإمساك بالسلطة السياسية كأداة في تطبيق مشروعهم السياسي الإسلامي كما نظر له رواده الأوائل في ظروف وسياقات سياسية معينة، لها مسوغاتها الموضوعية والذاتية في مقابل واقع اجتماعي وسياسي كان سائداً في مصر الملكية بداية القرن الماضي آنذاك، على وقع إرهاصات حركات الإصلاح الديني الذي كان يمكن أن يكون برنامج الأخوان في ذلك الوقت جزءاً منه، لكنه سقط في خضم خصومات ونزاعات سياسية وتباينات أيديولوجية واحتكام لمقولات منفعلة نابعة من الرفض والانكماش على الذات بمقابل المشاريع التقدمية والنهضوية الأُخرى في ذلك الوقت، والتي وصلت إلى ذروتها في الانغلاق مع نصوص سيد قطب وكتابه “معالم على الطريق”.

أخيراً مهما كانت حجم الانتقادات والملاحظات التي نسجلها على نظم الحكم السياسي في أي دولة من دول العالم فإن ميكانيزم التغيير ودينامياته الأكثر نجاعة تنبع من قلب النظم السياسية ذاتها، مدفوعة بحركة اجتماعية داخلية غير جذرية لا تقوم على قلب الماضي والحاضر بعجره وبجره. فكيف بنا ونحن أمام نظام سياسي يكبر وينمو ويتطور كنظام الإمارات العربية المتحدة الذي أثبت حتى اللحظة أنه قابل للاستجابة لمتطلبات شعبه وفعالية في حمل مهام التنمية والتطور.

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق