الموت السوري: حلول مؤجلة ونزيف دائم

جولةٌ جديدةٌ من المناكفات الدولية حول تقاسم المصالح والنفوذ تتمظهر على الساحة السورية كما هي العادة منذ أكثر من أربع سنوات ونصف، تتباين فيها التصريحات وفق الجهة المقصودة منها، فتارةً تدفع روسيا باتجاه التقارب مع السعودية ومطلبها برحيل الأسد مدخلاً لأيّ حلٍّ في الشرق الأوسط، وتعود بدعمٍ عسكريٍّ جديدٍ لنظام الأسد دفعاً لاستمرارية مجازره.

كذلك الولايات المتحدة تنهج ذات السلوك الإعلاميّ والسياسيّ، فهي “تبحث” عن آليّةٍ “سياسيةٍ” لحلّ مسائل الشرق الأوسط عبر مدخل محاربة داعش تارة، ومدخل التوافق مع إيران أخرى، ومحاولة إرضاء الحلفاء الخليجيّين والأتراك ثالثة.

لا أحد من القوى الدوليّة مستعدٌ أو راغبٌ بعدُ وفعلياً للولوج في مرحلة بناء سلامٍ حقيقيٍّ في الشرق الأوسط عامّة، وفي سورية خاصّة، على أنّ كلّ المبادرات معقودةٌ على الحراك الأمريكيّ على الساحة الدوليّة، وهو حراكٌ بطبيعة الحال قد دخل مرحلة الجمود الانتخابيّ، ومعه تتأجل كافّة الإشكالات الدوليّة الكبرى إلى ما بعد كانون الثاني/يناير 2017.

ستنشغل الولايات المتّحدة على مدار عامٍ كامل، وإلى شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام القادم، في منافساتٍ انتخابيّةٍ غير واضحة المعالم بعد، سواءً على المستوى الحزبي، أو على المستوى العام، وعليه فإنّ القوى الخفيّة الكامنة وراء المرشّحين ستلعب دوراً كبيراً في توجّهات السياسة الخارجيّة الأمريكيّة تجاه مسائل الشرق الأوسط، وخاصّة اللوبي اليهودي، ولوبي السلاح، ولوبي النفط، وجميعها تحتاج إلى سياسة فاعلة تعيد تنشيط دورها الداخلي والخارجي.

كما تستغل إيران معطيات الوضع القائم في تعزيز نفوذها شرق الأوسطي، وخاصّة على الساحتين السورية والعراقية، بعد أن بدأت ميليشياتها الحوثية بالتراجع عن عدّة مناطق في اليمن، مستفيدة كذلك من تقاربها مع الولايات المتحدة عقب توقيع الاتفاق النووي.

ما يجري من محاولات إطلاق مبادراتٍ “سياسيةٍ” لإيجاد حلٍّ للمسألة السورية، هو في حقيقته تأجيلٌ للحل، وتأجيلٌ لإقصاء الأسد أو نظامه إلى حين التوافق الدولي، أو الحسم الدولي. وخاصةً أنّ كافّة القوى السوريّة متّفقةٌ على نقطتين رئيستين: رحيل الأسد ومحاربة داعش، بمعنى أنّ الحل ليس بحاجةٍ إلى إيجاد أو ترتيب أولويّات، فهما أولويّتان قائمتان معاً، ومتلازمتان سياسياً وعسكرياً، ولا يمكن الفصل بينهما، أو إنجاز إحداهما دون الأخرى.

ربّما يمكن الخلاف الفعليّ –وهو الذي يحتاج إلى بحثٍ وجهدٍ دوليّ- شكل المرحلة الانتقاليّة وأدواتها، وآليّات ترسيخ السلام وإعادة البناء، وتوحيد القوى السياسية ضمن برنامجٍ واحد، وهو وإن كان خلافاً قائماً بين المكوّنات السوريّة، إلّا أنّ صياغة حلولٍ نهائيّةٍ له، أمرٌ يمكن فرضه دولياً وبرعايةٍ إقليميّة (خليجية-تركية)، في حال الاتفاق على الأولويتين السابقتين: رحيل الأسد ومحاربة داعش.

ولعلّ غياب هذا التوافق حالياً، وتوسّع الهوّة بين القوى السياسيّة المعارضة، وانشغالها بملفّاتٍ مصلحيّة حزبيّة أو شخصيّة، إضافةً إلى تباين المرجعيّات السياسيّة والفكريّة لها، ساعد كثيراً في تجاهل المجتمع الدوليّ للمسألة السورية، وانصرافه إلى تكريس مصالحه في ظلّ غياب تمثيلٍ موحَّدٍ وفاعلٍ للشعب السوري.

عدا عن أنّ تشتيت الشعب السوريّ في كافّة بقاع الأرض، وإخراجه من الطوق السوري، أو البيئة السورية، هرباً من الموت الدائم، ساهم أيضاً في تشتيت القضية السورية وإشغالها بملفاتٍ جانبيةٍ وأزماتٍ مفتعلة، وهو ما خلق مسارات جانبيّة امتصّت جهداً كبيراً كان مكرّساً للخروج من كنف الطغيان.

سيبقى الموت السوريّ الكارثة الإنسانيّة المعاصرة الأكبر، لفترةٍ مقبلة، في داخل سورية، وعلى الحدود الدولية البرية والبحرية، ثمناً لمصالح دولية وإقليمية، بحثاً عن حريةٍ مؤجّلة.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق