المنطقة تمرّ بتطوّرات جيوسياسية مفاجئة ومربكة

هناك مراكز بحوث لدى الدول الكبرى خصوصا في الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول الاتحاد الأوربي، لكن أبرزها مراكز البحوث في أمريكا باعتبارها الدولة العظمى، التي وصل عددها عام 2013 نحو 1815 مركزا، حيث لا تعتمد توجهات السياسة الأمريكية على السياسيين والأحزاب فقط، بل إن التأثير الأكبر على سياسة أمريكا تجاه القضايا الداخلية والخارجية، عادة ما يصدر من بيوت الخبرة أو خلايا التفكير التي تنتج كما كبيرا من الأبحاث والدراسات لتشكيل قاعدة معلوماتية واستراتيجية للأحزاب والحكومات.

وقد حصل مركز معهد بروكنغر الذي تأسس عام 1916 في واشنطن على المركز الأول ذو التوجهات الليبرالية المحسوب على تيار يسار الوسط يليه، مجلس العلاقات الخارجية الذي تأسس عام 1921 في نيويورك، ثم مؤسسة كارينغي للسلام الدولي الذي تأسس في عام 1910 في واشنطن.

 من أبرز تلك المراكز مؤسسة راند الذي تأسس عام 1948 في كاليفورنيا كان ممول من سلاح القوات الجوية الأمريكية، ثم استقل بفضل تمويل ضخم من شركة فورد الذي اعتمد بوش الابن على بحوث المركز أثناء فترة رئاسته، ومؤسسة التراث من أكبر مراكز الفكر المحافظ استقى رونالد ريغان ملامح سياسته من أحد أبحاث المؤسسة، ومركز التقدم الأمريكي الذي أنشئ في عام 2003 رغم حداثته حصل على مكانة متقدمة وأثر على تشكيل إدارة أوباما خصوصا فيما يتعلق بالرعاية الصحية والتعليم والمناخ.

إلى جانب هذه المراكز المشهورة هناك مراكز أخرى لا تقل أهمية عن تلك المراكز مثل مركز سترانفورد في أوستن بولاية تكساس أسسه جورج فريدمان في عام 1996 الذي يختص بشؤون الأمن على غرار مركز راند، وبالجيوبولتيك، وفي علم التنبؤ الاستراتيجي، وهو يعد احد أهم مراكز البحث الأمريكي، بل يعتبره البعض الوجه العلني المكشوف للمخابرات الأمريكية (CIA).

تنبأ هذا المركز بصعود تركيا الإقليمية إلى مستويات استراتيجية عالمية، حيث تقترب افتراضات المركز من افتراضات العالم الأمريكي فرانس فوكوياما في عمله الشهير نهاية التاريخ في إطار صراعات افتراضية للولايات المتحدة بعد سقوط الشيوعية وأصبح منافس جديد ( الإسلام، الكونفوشيوعية، صراعات مع قطاعات رأسمالية) وافتراضه لا يختلف عن افتراض هنتجتون صراع الحضارات من أجل الهيمنة على العالم.

افترض جورج فريدمان أن تواصل تركيا التفوق  السياسي والعسكري، ومن أولى مستحقاته تحالفات عالمية، ومن افتراضات جورج فريدمان أن تقيم تركيا تحالفا مع اليابان،( ولكنه يخالف الواقع ) مع بقاء بريطانيا الحليف المضمون للولايات المتحدة، ( لذلك عندما خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوربي أغضب الولايات المتحدة ونصحت دول الاتحاد الأوربي بعدم تكرار التجربة، ومحاولة احتواء خروج بريطانيا والبحث عن بدائل ) مع اعتقاده أن تفقد ألمانيا أهميتها كقوة عالمية بصعود مراكز صناعية عديدة في أوربا والعالم، ( بينما في الواقع ألمانيا تقود اقتصاد اليورو منفردة، إذ ارتفع ناتجها المحلي من 2.4 تريليون دولار عام 2007 تمثل الصادرات ثلث الناتج المحلي ووصل الناتج المحلي عام 2015 نحو 3.35 تريليون دولار ).

يؤكد جورج فريدمان في كتابه المنشور عام 2010 بأن القرن الحالي قرن أمريكي، ويعتقد أن موقع الصين الجغرافي البعيد يقلل من أهميتها الاستراتيجية، وتعاني ضعف في قدراتها البحرية، ويستبعد أن تستعيد روسيا في محاولاتها دور الاتحاد السوفيتي، ويستنزف هذا المجهود من قوى روسيا مقابل توسع الدور التركي وتوسعها في القفقاس، وسيعاني الروس من سيطرة الأتراك على مضيق البسفور ( لكن التطورات الجديدة نتيجة الخطاء الأمريكية في دعم الأكراد فرض على تركيا عودة العلاقات مع روسيا لن تكون تكتيكية ولكنها لن تكون كذلك على حساب علاقتها مع الولايات المتحدة ولكنها علاقات متوازنة فرضتها الظروف والأخطاء الأمريكية والغربية ).

وتوقع جورج فريدمان الفوضى في المنطقة العربية قبل ما يسمى بالربيع العربي، ولم يستبعد أن تكون بعض الحركات الجهادية من صنع الولايات المتحدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لكن المهم أن تؤدي الغرض النهائي وهو مزيد من التمزيق والاقتتال حتى يبدو الحل الإسلامي سيئا، ومثير للمشاكل وألا ينجح الخيار الإسلامي في النهاية، ( يعتبر رأي خاص به وهو رأي اليمنيين وإذا ما فشلت تجربة الإخوان في مصر فإنها نجحت في تركيا التي استطاعت أن تتعايش مع العلمانية ).

تقليديا هيمن الفكر الاستراتيجي التقليدي منذ الصراع بين قوى البر والبحر، خصوصا بعد تصاعد دور الولايات المتحدة في السياسات الدولية منذ نهاية القرن التاسع عشر كان عاملا محفزا لظهور بعض الدراسات الجيوبولتيكية، ويعتبر مفهوم القوة البحرية لماهان 1914 الذي نصح الولايات المتحدة بشق قناة بنما وبالفعل شقت الولايات المتحدة القناة فورا، أما مفهوم القوة البرية لماكندر في 1904 وطورها بحسب التطورات الجيوسياسية في عام 1919، حيث وجد أن روسيا هي المنطقة المحورية وهي محصنة من جميع الجهات وتمتلك عمق استراتيجي ما عدا المنطقة المحصورة بين بحر البلطيق والبحر الأسود أطلق على هذه المنطقة أسم الباب المفتوح، لذلك نجد الولايات المتحدة تنصب الآن في نفس المنطقة صواريخ دفاعية، خصوصا بعدما توسعت أوربا بجوار روسيا على حساب المناطق الحيوية لروسيا مما اضطرت روسيا إلى وقف هذا التوسع باحتلال شبه جزيرة القرم، وبعد نصب الصواريخ قفزت روسيا إلى المنطقة المضطربة في سوريا لإقامة قاعدة ثابتة في حميميم، فيما تعتقد الولايات لمتحدة أن سوريا مستنقع يمكن أن تتورط فيه لذلك تصر روسيا على ضرب كافة الجماعات الجهادية حتى المعتدلة حتى تضمن بقائها أو لا تستخدمهم الولايات المتحدة ضدها وهو بالفعل استطاعت المعارضة كسر حصار حلب رغم القصف الجوي المكثف لإدلب لوقف تقدم المعارضة تجاه حلب التي يتواجد فيها قوات النظام وحزب الله وبقية المليشيات من العراق وحتى روسيا الجميع أصبحوا محاصرين في حلب وتحت الاستهداف من قبل المعارضة لذلك فأثناء زيارة أردوغان بوتين فهي زيارة بعد انتصار المعارضة في كسر حصار حلب أي أن تلك الزيارة متكافئة فكما تحتاج تركيا إلى روسيا فإن روسيا بحاجة إلى تركيا.

ثم أتى مفهوم الإطار لإسبيكمان بعد ظهور مفهوم قلب الأرض لمكاندر وهو ما جعل الغرب يحاصر الاتحاد السوفيتي بسياج من الأحلاف الذي تفكك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبقي الناتو.

روسيا مساحتها 17 ألف كيلو متر لكن الناتج المحلي القومي لروسيا أقل من الناتج المحلي الألماني بل يمثل ثلث الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا البالغ 3.35 تريليون دولار عام 2015 نتيجة اعتماد اقتصاد روسيا على 50 في المائة على الطاقة.

 لكن تمتلك روسيا إمكانيات استراتيجية خصوصا في ظل الانكفاء الأمريكي، وارتكاب أوباما أخطاء استراتجية في المنطقة بعد توليه الرئاسة، فبعدما حاول سلفه بوش الابن الحضور العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق لضمان محاصرة روسيا ومنعها من الوصول إلى المياه الدافئة سواء في الخليج العربي أو البحر المتوسط، استبدلتها استراتيجية أوباما المتراخية من خلال توقيع اتفاق نووي مع إيران.

 نتيجة هذا الاتفاق خسرت الولايات المتحدة تحالفات تقليدية مع دول صديقة في المنطقة خصوصا السعودية والتي استطاعت بدبلوماسيتها الناعمة إفشال هذا الاتفاق بالتحالف مع لوبي داخل الولايات المتحدة يعارض سياسات أوباما.

سيناريوهات جديدة بدأت تظهر في المنطقة، ومحور جديد بدأ يفرض أمرا واقعا، نتيجة الغياب الجزئي والانكفاء الأمريكي، فأصبح هناك تمدد روسي عبر إيران، حيث لكل فعل ردة فعل استراتيجية، فنصب الولايات المتحدة الدرع الصاروخي في بحر البلطيق ودول أوربا الشرقية، جعل الدب الروسي رشيقا يقفز إلى سوريا ويستغل الاتفاق الإيراني الغربي الهش باستخدام قاعدة همدان لإطلاق صواريخه لضرب المتشددين في سوريا، وهي رسالة للغرب بأن عهدا جديدا عبر دخول روسيا في محاور جديدة.

 إذ أن التحرك الشطرنجي الروسي في إيران مصدر قلق كبير لأمريكا، وانتشار قاذفات في إيران يغير كثير من الاستراتيجيات، رغم ذلك فإن علي شامخاني لحسابات خط الرجعة صرح بأن الروس لم يقدموا أي أسلحة تخالف الاتفاق الأممي.

هناك تناقض في الرؤى، ماذا يحصل في إيران، نحن أمام مشهد جديد يتبلور، تتضح معالمه بوضع أهداف على الأرض، بل مشهد يتبلور حول الإقليم والشرق الأوسط برمته.

هناك تقارب كبير بين الروس وإيران بعدما كانت إيران غاضبة من روسيا، إنما الأمور تتغير، وتجري نقاشات أوسع من حلب، وأوسع من سوريا برمتها، هناك ارتباك في المواقف الأمريكية.

تركيا تلعب دورا أساسيا، رغم أن علاقتها لا تعني عصف بعلاقاتها بالناتو، خصوصا بعدما لعبت الولايات المتحدة أدوارا مزعجة لدول المنطقة الإقليمية لتركيا والسعودية، خصوصا بعدما انحازت كثيرا نحو الدور الروسي، لأن روسيا تحارب بطريقة همجية شاملة لا تفرق بين مقاتلين ولا مدنيين، بينما الولايات المتحدة تقاتل بحذر وتهتم بمواقع المدنيين.

بدأت روسيا من همدان ووافق العراق على عبور الطائرات مجالها الجوي وهي تريد قاعدة انجرليك التركية التي يستخدمها الناتو، أي أن هناك تحولات كبيرة في المواقف.

لكن في النهاية تمتلك الولايات المتحدة أكثر من 67 حاملة للطائرات، 12 منها عاملة و55 حاملة في الاحتياط، وقوة بحرية وجوية هائلة، بينما لدى الصين وروسيا حاملتان لكل منهما حاملة واحدة في الخدمة، فيما تعمل الصين على تطوير قدراتها البحرية بخطط متسارعة إلا أن الصين وروسيا غير قادرين على منافسة الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، ولا يزال الناتج المحلي الإجمالي للولايات متفوقا عام 2015 إذ يبلغ نحو 18 تريليون دولار ثم تأتي الصين بنحو 10 تريليون دولار واليابان ثالثا بنحو 4 تريليونات دولار وألمانيا رابعا بنحو 3.35 تريليون دولار.

ستدرك الولايات المتحدة والغرب الخطأ الذي ارتكبه تجاه تركيا، وأن خطأ الانقلاب الفاشل كان مجازفة لا تليق بدول كبرى، لكنهم لن يفرطوا في حليفهم التاريخي في منطقة خطيرة وستكتسب تركيا مزايا استراتيجية من عودة العلاقات.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق