المشروع الإيراني في المشرق العربي (2)

ثانياً – أدوات المشروع الإيراني

تحدّد الدول أدوات تحقيق مشروعها السياسي بعد تحديد أطر هذا المشروع وأهدافه (المصالح)، والإمكانيات المتاحة لها (القوة)، والبيئة الجغرافية المقصودة به. ويعتبر شرق المتوسط والخليج العربي البيئتان الأساس الأولى اللتان تحاول إيران مدّ نفوذها إليهما.

وتعتمد إيران على مجموعة أدوات وآليات لتحقيق مشروعها، لعل أهمها ما يلي:

الآلية السياسية القائمة على البراغماتية والمناورة الاستراتيجية.

القوة المسلحة (دعم الحلفاء، بناء القوة الردعية، التهديد).

الإيديولوجية الثورية (الموقف من إسرائيل، نشر المذهب الشيعي).

الأدوات الاقتصادية (المعونات، المنح، القروض،الاستثمارات).

ففيما يتعلق بالمناورة والبراغماتية، يعتقد عدد من الباحثين أنّ إيران غير معنية بمشاركة الآخرين بما تحصل عليه من منافع في محيطها الإقليمي، وأنّها لا تتوانى عن امتصاص أيّ جهد معارض لها، سواء بالمناورة الاستراتيجية، أو في البحث عن منافذ أخرى في مناطق تخومها. الأمر الذي جعل البعض يصّر على معارضة إجراء أيّ تمييز تاريخي في دراسة السلوك السياسي الخارجي الإيراني بين نظام الشاه ونظام الثورة، إذ تتقارب المقومات والمغزى (1).

من ذلك مثلاً، تنوع مظاهر الاستجابة الإيرانية تجاه الاحتلال الأمريكي للعراق، مما أتاح لها (2):

1.    اختيار الأساليب المفضلة لديها لتحقيق غايتها (جعل العراق ساحة تصفية الحسابات مع الولايات المتحدة، وساحة لإثبات دورها، واستكمال شروط مكانتها الاستراتيجية، قوة ودوراً)، أو على الأقل رصد الاحتمالات المضادة لفعلها.

2.    استغلال ما تملكه من رصيد عملي من الأفعال (القائمة على التدخل)، وكأنّها بعيدة الإدراك عما سيواجهها من مأزق يتحدد عبرها مصير الفعل، والمصير الإيراني بكلّيته.

إذ تقوم الاستراتيجية الإيرانية تجاه العراق، على الحيلولة دون ظهور عراق جديد قوي قد يشكل تهديداً سياسياً أو عسكرياً أو إيديولوجياً، على ثلاثة أبعاد (3):

التشجيع على ديمقراطية الانتخاب كوسيلة لإنتاج الحكم الشيعي الطائفي.

الترويج لإيجاد درجة من الفوضى “سهلة الانقياد”، بإحداث اضطراب مطوّل من السهل السيطرة عليه.

تكوين شبكة واسعة من الفاعلين العراقيين المتنوعين.

ويرى حسن روحاني (عندما كان الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني) في معرض تحليله للاستراتيجية الإيرانية إزاء التهديدات الأمريكية: “إنّنا لا نملك إزاء تلك التهديدات إلا استراتيجيتين (4):

أولاهما، أن نظهر اللين والمرونة تجاه الولايات المتحدة، وأن نبدأ في التقهقر خطوة خطوة، وينتهي بنا الأمر إلى تركيع الجمهورية الإسلامية أمام الولايات المتحدة، وهو ما يعني تغيير ماهية النظام، وهنا سنضطر إلى مواجهة الولايات المتحدة، لكن بعد أن نكون قد استسلمنا وفقدنا عزيمتنا.

وثانيتهما، استراتيجية المقاومة والصمود في وجه الولايات المتحدة، وأفضل آلية في إستراتيجية المقاومة هي الردع. أي يجب أن نعمل بشكل يجعل كل عملنا وتحركنا رادعاً للولايات المتحدة. أي أن ترى الولايات المتحدة أنّ المواجهة مع إيران ستكون باهظة من خلال معادلة الكلفة، وأنّ ضررها سيكون أكبر من نفعها، لو وصلنا إلى هذه المرحلة، لن تهاجمنا الولايات المتحدة“.

إذ تعتقد إيران أنها وباعتمادها على جملة معطيات، قادرة على تقييد الحراك الأمريكي– الإسرائيلي تجاهها، وأهمها (5):

1.    قدرتها على التأثير على أمن الطاقة العالمي (الإنتاج/التموين).

2.    قدرتها النسبية على تعطيل أيّ قرار أمريكي في مجلس الأمن بسبب “فيتو” حلفائها (الصين وروسيا) فلكل منهما مصالحه الخاصة مع إيران.

إذ تعتقد أن بإمكانها التهديد بإغلاق باب السلام (مضيق هرمز) عسكرياً، الممر المائي الأهم بالنسبة لمصادر الطاقة العالمية. غير أن المتتبع لحجم التسليح المقابل في الضفة الغربية للخليج العربي، يدرك أن التهديدات الإيرانية لا تخرج عن إطار البروبوغاندا الإعلامية، وخاصة في ظل تحالف خليجي-غربي، يحمي مصالح طرفيه.

فيما تنوعت أدواتها العسكرية، بين دعم ميليشات ذات صبغة طائفية شيعية، خاصة في العراق (جيش المهدي، عصائب أهل الحق)، ولبنان (حزب الله)، على سبيل المثال لا الحصر، في سبيل فرض نفوذ في تلك الدولتين تستطيع من خلاله تمرير أجندات سياسية تخدم مصالحها. وتزويد هذه الميليشيات بعديد الأسلحة، كما وتوفر لها التدريب الخاص على يد قوات الحرس الثوري الإيراني، وتشرف على عملياتها عبر مستشارين عسكريين وسياسيين إيرانيين.

فيما أنشأت شبكة تحالفات إقليمية حكومية، وعملت على تزويدها بالتقنيات والاستشارات العسكرية، فعلى المستوى السوري مثلاً، أشارت عدة تقارير إلى أنّ إيران تكفلت بتمويل بعض مشتريات السلاح السورية من روسيا، وذلك خلال زيارة قام بها الرئيس الإيراني السابق لدمشق يوليو 2007، جرى خلالها الاتفاق على قيام إيران بتمويل صفقات أسلحة روسية لسورية (6).

ثم انخرطت إلى جانب نظام الأسد في قمع الثورة السورية، إما بشكل مباشر عبر ضمان تزويد نظام الأسد المستمر بالسلاح والمستشارين والقيادات العسكرية وتقنيات الاتصالات، وحديثاً عبر ضخ العديد من المقاتلين الإيرانيين، أو بشكل غير مباشر عبر الإيعاز لشبكة الميليشيات العراقية واللبنانية بإرسال عناصرها للقتال إلى جانب قوات الأسد.

واعتبرت القيادات الإيرانية الدفاع عن النظام السوري جزءاً من الدفاع عن الأمن القومي الإيراني، حيث صرح الرئيس السابق نجاد في أول زيارة له إلى سورية: “إنّ سورية هي خط الجبهة الأمامي للدفاع عن الأمة الإسلامية”. وأكد وزير الدفاع الإيراني السابق شمخاني على أنّ: “سورية عمق استراتيجي لإيران، وهي جزء من الأمن القومي للجمهورية الإيرانية في المنطقة، وتولي طهران دائماً أهمية لأمن الأراضي السورية (7)”. لكن على الأغلب لن تجرأ القيادات الإيرانية على تعريض بلدها لاحتمال حرب مع القوى الدولية إن قرت الاستمرار في دعم نظام الأسد، في حين قررت تلك القوى إجراء عمل عسكري ضده.

فيما شكلت آلية الردع أداة عسكرية إيرانية أخرى، عبر التحديث الدائم لترسانتها العسكرية، إذ تعدّ إيران من كبار المشترين للأسلحة الروسية منذ أواخر الثمانينيات، فيما تدَّعي أن سعيها لامتلاك الطاقة النووية لن يتم استثماره لإنتاج سلاح نووي ضمن تقييدات “إسلامية” تحظر عليها امتلاك هذا السلاح، وذلك ضمن استراتيجيتها الردعية والدفاعية، دون تقديم ضمانات حقيقية بذلك.

لكن المتتبع للشأن الإيراني، يدرك أن قسماً كبيراً من التصريحات الإيرانية بشأن حجم تسليحها، قد يكون مبالغاً فيه، من باب الردع والتخويف ليس إلا، إذ تقع إيران تحت طائلة عقوبة تتسع منذ بداية ثورتها 1979، وتضيّق عليها حتى مجالات الصادرات النفطية وبالتالي مردودها المالي، الذي تستطيع من خلاله تمويل تحديث ترسانتها العسكرية، وإن كانت قد أنتجت أنواع متطورة من بعض الأسلحة، فقد تكون الكميات التي تحوزها محدودة لا تؤهلها لخوض حرب كبرى في المنطقة، في مواجهة دول الخليج مجتمعة، والولايات المتحدة، عدا عن حالة الإرهاق المجتمعي الإيراني من هذا الحصار.

وعلى المستوى الإيديولوجي، ورغم أنّ الحفاظ على النظام الإسلامي القائم في طهران من أولويات النخبة الحاكمة الإيرانية، إلا أنّ الإيديولوجية الإسلامية (الشيعية) لم تشكل محدداً للتوجهات الإيرانية، بقدر ما كانت أداة سلوك إيراني منذ عام 1979، سواء عبر محاولات نشر النظام الثوري في المحيط الإيراني، أو اعتماد “عداء” ظاهري للكيان الإسرائيلي، أو اكتساب مجموعات تدين لها بالولاء الطائفي في البيئات العربية المستهدفة، تستطيع من خلالها الضغط للحصول على مكاسب سياسية بالحد الأدنى.

حيث وُجِّه الخطاب الإسلامي إلى دول إسلامية بالأساس، وتقع ضمن المجال الاستراتيجي للمصالح الإيرانية، فلم تحاول إيران تصدير ثورتها شرقاً أو شمالاً حيث النفوذ (الروسي، الصيني، الهندي، التركي)، كما لم تقم عقيدتها في نشر الإسلام في دول غير إسلامية، بل اتجهت نحو العراق ودول الخليج العربي، ولاحقاً في معظم المحيط الاستراتيجي العربي. كما أنّ دور الإيديولوجيا الإسلامية (الشيعية)، تراجعت في عهد رفسنجاني، بعد أن كان ضرورة استراتيجية في عهد قائد ثورتها خميني لتوحيد الداخل حول ثورته، ثم أُعيد التأسيس لها في عهد خاتمي، لتعود باتساع كبير في حقبة نجاد كأداة لتحقيق نفوذ في منطقة تعتبر في نظر القيادات الإيرانية فراغاً استراتيجياً يتحتم عليهم ملؤه.

بل إنّ إيران رغم أنها قد أسبغت طابعاً إيديولوجياً على مصالحها القومية، لكن عندما يتعين عليها الاختيار بين الإيديولوجية والمصلحة، فإنّها لم تكن لتتردد في التنصل من إيديولوجيتها، وليس في انحيازها لنظم غير إسلامية بل وغير مسلمة كأرمينيا، وليس في تعصبها ضد العرب السنة من مواطنيها، إلاّ فهم قومي بل وطائفي في الكثير من الأحيان لمصلحتها (8).

ويندرج في إطار ذلك، محاولة التبشير بالمذهب الشيعي في الدول العربية تحديداً، وعلى الأوضح في سورية ما قبل عام 2011، كوسيلة غزو فكري تخلق من خلاله جماعات موالية عقائدياً، ليتم توظيفهم لاحقاً في خدمة المشروع الكلي، إذ تستلزم حالة الأدلجة تلك فرض مفهوم “ولاية الفقيه” على الأنصار، لضمان ولائهم لمركز سياسي وديني واحد “مرشد الثورة الإيرانية“.

ويعتبر الخطاب الإيراني “المعادي” للكيان الإسرائيلي، خطاباً إيديولوجياً ليس إلاّ، يسعى إلى الترويج الفكري لدى الشعوب العربية، في محاولة لخلق قوة تأثير ناعمة تستقطب المجتمعات العربية حول القوة الإيرانية الصاعدة، وبالتالي الحصول على مزيد من مواقع النفوذ. ومن ذلك ما أجاب عليه محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني السابق من سؤال: “هل يجب أن نظل على موقف عدم الاعتراف بإسرائيل”، بأنّه: “علينا أن ننظر إلى المسألة بجدية أكبر، ونقبل ما يختاره أبناء الشعب الفلسطيني لأنفسهم .. ولا داعي لأن نقول نحن غير ذلك (9)”. فإسرائيل لا تشكل في الوعي الإيراني سوى منافس إقليمي على النفوذ في المنطقة.

فيما رد المكلف الإيراني في باريس، حول خطاب نجاد بإزالة الكيان الإسرائيلي، أنّه لم يقصد نهاية دولة إسرائيل، إنّما نهاية النظام الصهيوني، ويذكِّر بموقف بلاده “وضع حد للاحتلال العسكري، وللتميز العنصري، وقيام دولة واحدة تكون عاصمتها القدس .. نحن نعارض إيديولوجيا النظام الصهيوني، لأنّها لا تتمتع بالشرعية .. لقد عشنا قروناً عديدة بسلام مع اليهود، ولا ضغينة من قبلنا حيالهم”. ويبين تيري ميسان أنّ الترجمة الصحيحة للجملة المثيرة للجدل هي: “هذا النظام الذي يحتل القدس، يجب إزالته من على صفحات التاريخ” (10).

ورغم الآثار السلبية مجتمعياً وبنيوياً للعقوبات المفروضة على إيران، إلا أن القيادات الإيرانية وظفت مقدراتها الاقتصادية والمالية في خدمة تشكيل شبكة العلاقات الإقليمية، وإن بدرجات متفاوتة، سواء عبر تمويل ميليشيات مسلحة والإنفاق عليها، أو تمويل حكومات (العراق وسورية على سبيل المثال)، عبر قروض ومنح ومشاريع استثمارية، بل ذهبت لأكثر من ذلك حين رهنت قسماً من مواردها المالية لتمويل الحرب التي يشنها نظام الأسد على شعبه.

يبقى أن نذكر أن المشروع الإيراني في المشرق العربي خاصة، بات يواجه تحديات كبرى مع اندلاع الثورات العربية، وأن مصير هذا المشروع متعلق بشكل رئيس بمستقبل الثورة السورية ونتائجها، وهو ما سيتم تناوله في القسم الثالث من هذه الدراسة.

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

المراجع:

1.    منعم العمار و خضر عطوان، “المصالح في جولات الحوار الإيرانية– الأمريكية تجاه العراق”، شؤون عربية (القاهرة: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 133، ربيع 2008)، ص 184.

2.    حسن نافعة، “ردود الفعل الدولية إزاء الغزو”، في: مجموعة باحثين، احتلال العراق وتداعياته عربيا وإقليميا ودوليا (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 2004)، ص 185.

3.    خليل العناني، “النفوذ الإيراني في العراق”، السياسة الدولية (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 165، يوليو 2006)، ص 110.

4.    طلال عتريسي، “النتائج والتداعيات إيرانياً”، في: مجموعة باحثين، احتلال العراق وتداعياته عربياً وإقليمياً ودولياً، مرجع سابق، ص 452 – 453.

5.    إلياس حنا، “هل حقاً تستغل أمريكا الفروقات بين العرب وإيران”، شؤون عربية، العدد 128، شتاء 2006، ص 36.

6.    أحمد إبراهيم محمود، “الصناعات العسكرية الروسية: تدعيم الاقتصاد والمكانة الدولية”، السياسة الدولية، العدد 170، تشرين الأول 2007، ص 66.

7.    أشرف كشك، “التحالفات الإقليمية لإيران .. السياسة تتجاوز الإيديولوجيا”، السياسة الدولية، العدد 165، تموز 2006، ص 117.

8.    نيفين مسعد، “الدور الإيراني في المنطقة العربية: الأبعاد والتداعيات”، شؤون عربية، العدد 125، ربيع 2006، ص 33.

9.    طلال عتريسي، مرجع سابق، ص 443.

10.  تيري ميسان، تدمير لبنان: الهيمنة على الشرق الأوسط، ترجمة: عبد القادر عثمان ( عمّان: مركز الكتب الأردني، 1991)، ص 107، 108.

الوسم : إيرانالعرب

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق