المتغيرات الدولية وأثرها في الاشتباك الإقليمي شرق الأوسطي

يُعتبَر الشرق الأوسط من أكثر المناطق على مستوى العالم تأزماً في الفترة المعاصرة، وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشكّل منطقتا الخليج العربي والمشرق العربي بؤرتا صراع إقليمي ودولي، طالما أنتجتا حروباً اتخذت طابعاً تغييراً في شكل المنطقة وسلوكها. بل يمكن اعتبار أنّ هذه المنطقة باتت تشكل مقياساً لدراسة سلوك النظام الدولي والقوى المهيمنة عليه، والتنبؤ بالتحولات التي تجري داخله.

ويمكن الاستدلال تاريخياً على ذلك، من خلال حالة التأزم في القطبية الثنائية سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي انعكست على جملة محاور داخل هذه المنطقة من جهة، وعلى حروب كان أبرزها حرب الخليج الأولى التي دامت ثمانية أعوام. كما شكلت هذه المنطقة مؤشراً بارزاً على التغيير داخل المنظومة الدولية، وحسم شكل القطبية الأحادية مع حرب الخليج الثانية التي كانت أبرز أدوات تلك المرحلة.

وشكلت نزعة الولايات المتحدة إلى ضبط القضايا الدولية فترة التسعينيات منعكساً على مسارات الحدث داخل الشرق الأوسط، لصالح إطلاق مسارات مفاوضات سلام –وإن لم تثمر نهائياً- وعقد مصالحات على مستوى الإقليم. قبل أن تعيد الولايات المتحدة مَحوَرَة المنطقة من خلال حربها على الإرهاب، وإطلاق حرب الخليج الثالثة التي لم تنتهِ تداعياتها بعد.

ونحاول في هذا الورقة الموجزة، تناول أبرز المتغيرات الدولية الراهنة، ومنعكساتها على إقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منه منطقة الخليج العربي، وعلى توازنات القوة فيه والاحتمالات المستقبلية له، والأثر المعاكس لهذه البيئة في النظام الدولي ذاته.

أولاً- في المتغيرات الدولية:

يشهد النظام الدولي منذ عام 2008، تبلور مسارات ديناميكية جديدة، تم التعبير عنها، من خلال أربعة مؤشرات، يمكن إيجازها في التالي:

الهيمنة الإيرانية على العراق، تحت سلطة الاحتلال الأمريكي، ودفعها إلى توسيع إطار هيمنتها، من خلال استدراج المنطقة إلى حرب خاطفة، تمثلت في العدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة عام 2006 و2008، ساهمت في إعلاء مستوى المصالح الإيرانية في المنطقة، وقدمت استعراضاً للقوة الإيرانية في البيئة العربية؛ وهو ما أدى إلى تغيير التوازنات السياسية في المنطقة، عبر تحويل حزب الله إلى لاعب رئيس على الساحة اللبنانية أولاً، ومن ثم تعزيز مفهوم المحاور السياسية من جديد في المنطقة، من خلال ما بات يعرف آنذاك بمحوري الاعتدال/الممانعة. وقد انعكس ذلك أيضاً على مسار البرنامج النووي الإيراني، الذي شهد توسيعاً ترافق مع عقوبات دولية، أدت في المحصلة إلى خلق نمط إقليمي غير قانع بالنظام الدولي، محاولاً الخروج عليه.

وثاني تلك المؤشرات، برز من خلال السلوك الروسي في جورجيا، والعملية العسكرية داخلها عام 2008، وفصل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، دون أن تعمد الولايات المتحدة والقوى الغربية، إلى إعاقة النفوذ الروسي في التركة السوفييتية من جديد. وإن بدا الحدث محيطياً بروسيا أكثر منه حدثاً دولياً، إلا أنّ دلالته تمثلت في إعادة تعريف روسيا لمكانتها في محيطها أولاً، ومؤشراً على تحولها هي الأخرى، من النمط القانع الذي ترسخ ما بعد نهاية الحرب الباردة، إلى نمط جديد يحاول إعادة تعريف مصالحه إقليمياً على الأقل. وهو ما سيبرز بشكل أكبر مع التطورات اللاحقة في أوكرانيا عام 2014، وفصل إقليم القرم عنها.

أما ثالث تلك المؤشرات، فيتمثل في إحدى الأزمات الكبرى في النظام الرأسمالي، عبر امتداد أزمة الرهن العقاري الأمريكية، لتتحول إلى أزمة مالية غربية ثم عالمية، قاربت أزمة الكساد فترة بين الحربين العالميتين 1929. وانعكست هذه الأزمة بالتالي على السلوك الخارجي الأمريكي ذاته خلال أعوام قليلة، من خلال تغير النمط التوسعي الأمريكي العسكري، لاستيعاب الانهيارات المالية مؤقتاً.

أما المؤشر الرابع، وهو أحدثها، والذي تمظهر في أزمة سلوك دولي تجاه المنطقة المدروسة، بعد ثورات الربيع العربي، وتصاعد الاشتباك الإقليمي فيها. فالثورات الواسعة بحد ذاتها مؤشر على تغيرات ضمن النظام الدولي، وإعادة ترتيب السياسات الإقليمية والدولية، بل كانت في النموذج العربي مؤشراً آخر على لحظة تأزم عليا في هذا النظام، كمنعكس للمؤشرات السابقة أولاً، وكمدخل لتغيرات دولية كبرى لاحقاً.

وبرزت من خلال هذه الثورات، حجم القوى غير القانعة الساعية إلى توظيف الحدث المحلي، وإعلائه بغية انتزاع مصالح على المستوى الدولي، وشكلت مجالاً لاستعراض التغيرات الحاصلة في قوة الدول تلك، سواء على المستوى الإقليمي (إيران)، أو على المستوى الدولي (روسيا). في ظل اشتباك مصلحي أولاً بين كافة القوى الفاعلة على مستوى الإقليم والنظام الدولي، تحول إلى اشتباك عسكري مباشر وغير مباشر.

ورغم السلوك الغربي بقيادة الولايات المتحدة، الذي نحى باتجاه حسم الملفات الثورية في عدد من الدول العربية وفق منطق القطبية الأحادية، بعد تردد مؤقت؛ إلا أن الساحة السورية، هي التي شكلت لحظة افتراق دولي-إقليمي، وتحولت الثورة السورية إلى أبرز أداة دولية-إقليمية في مسار المساومات والمفاوضات الدولية، ضمن عملية صعود وهبوط القوى دولياً، كنتيجة لعدم رغبة/قدرة الولايات المتحدة حسم شكل الصراع فيها على النمط الليبي، ودفع الصراعات الناشئة فيها إلى مزيد من العكسرة.

وعليه، فقد عملت هذه التغيرات المحلية في الأساس، إلى اشتباك إقليمي واسع، وآخر دولي، يدفع باتجاه تغير في التحالفات ومستوى القوى، ومستوى الانخراط في الحدث، ضمن آلية إعادة تشكيل الإقليم والنظام الدولي معاً، ومن خلال أدوات سياسية وعسكرية.

ثانياً- على مستوى دول الخليج العربي:

طالما شكلت منطقة الخليج العربي، عامل جذب للقوى الدولية في إطار الصراعات على مد النفوذ، وإن كانت هذه المنطقة قد باتت ضمن أطر تحالفية مع القوى الغربية تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن المتغيرات المتسارعة المحيطة بها، باتت بدورها تضغط باتجاه إعلاء الاشتباك الإقليمي، مع تصاعد الخطر التاريخي لها (إيران)، خاصة بعد أن اتسع نطاق النفوذ الإيراني، باستغلال الحدث المحلي/الثوري، ضمن مسار تصاعدي منذ عقود. بل باتت إيران أكثر عدائية تجاه دول الخليج العربي، في محاولة دفع نفوذها إلى التغلغل داخلها، سواء عبر الكويت أو عمان أو اليمن، إلا أنّ أبرز لحظات الاشتباك كانت على مستوى مملكة البحرين. قبل أن تتحول الساحة السورية إلى خط اشتباك جديد بين القوى الخليجية وإيران.

وبرزت إيران كخطر أكثر شدة مما كانت عليه، بعد إكمال هيمنتها على العراق، ثم احتلالها لسورية، وتوسيع نفوذها لبنانياً، وترافق ذلك، مع مهادنة دولية لها، من خلال سعي الولايات المتحدة إلى الانفتاح على إيران، ضمن مسار تفاوضي مؤقت، يرمي إلى عقلنة السلوك النووي فحسب، دون أن يضغط باتجاه عقلنة السلوك العسكري ككل، وهو ما يتناقض مع مفهوم التحالف الأمريكي-الخليجي.

ورغم تأكيد الولايات المتحدة التزاماتها التحالفية مع دول الخليج، إلا أنها في هذا السلوك، تبدو أقرب إلى فرض نتائج الأمر الواقع على الإقليم ككل، وترسيخ مناطق النفوذ الإيرانية، مقابل تجميد تحويل القوة النووية الإيرانية إلى قوة عسكرية. وهو ما يدفع حالياً السعودية –بالتحديد- إلى محاولة تغيير معادلات التوازن العسكري أولاً، وإعادة تعريف الأمن الخليجي والإقليمي لاحقاً.

فانخفاض الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط أمريكياً، سواء لأسباب نفطية تتعلق بالمكتشفات النفطية الجديدة في الولايات المتحدة، أو لناحية إعادة هيكلة السياسة الخارجية الأمريكية، أو نتيجة التطلع لحسم ملفات شرق آسيا والمحيط الهادي في السنوات القادمة، يدفع بدوره القوى الإقليمية هي الأخرى، لإعادة تقييم لسياستها ومفهومها للأمن الإقليمي، ولمستوى ارتباطاتها التحالفية، وفق أطر استراتيجية تضمن مصالحها، ولعل ذلك يبرز في التطورات الأخيرة على مستوى التسليح الخليجي، خارج الإطار الأمريكي.

فرغم تأكيد أوباما في زيارته للرياض في آذار/مارس 2014 وطمأنة القادة السعوديين بأن المصالح الاستراتيجية للطرفين ما زالت تتلاقى، ومحاولة الولايات المتحدة طمأنة حلفائها الخليجيين من جديد من خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي هيغل في 12/5/2014 بالتنسيق مع دول الخليج في مجال الدفاعات الجوية والمضادة للصواريخ والأمن البحري وكذلك الأمن المعلوماتي من أجل التصدي لأي خطر بالستي إيراني محتمل خصوصاً بعدما أعلنت إيران عن بناء قواعد طائرات من دون طيار حول مضيق هرمز وتعاونها الاستراتيجي مع روسيا حول تطوير تقنيات الأقمار الفضائية.إلا أنّ السعودية قابلت ذلك بأن أقامت تعاوناً صناعياً دفاعياً مع تركيا، وقامت القوات الجوية السعودية والتركية والباكستانية بمناورات (صقور السلام) بقاعدة الملك فهد الجوية عام 2013. ولاختبار جاهزية قواتها لردع المعتدي أقامت مناورات (سيف عبد الله) برعاية ولي العهد السعودي وبحضور ملك البحرين وولي عهد أبو ظبي ومسؤولين من الكويت وباكستان وعمان عام 2014. ولأول مرة تشارك القاهرة في تدريبات عسكرية مشتركة بمنطقة الخليج في ظل متغيرات إقليمية ودولية تحت اسم (التمرين المشترك) الذي أقيم في البحرين بمشاركة الأردن وعدد من الدول (1).

وقد كشفت المملكة العربية السعودية عن صواريخ باليستية، أثناء أضخم مناورات شهدتها المملكة تحت اسم مناورات “سيف عبد الله”، والتي جرت مؤخراً في السعودية بمشاركة مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة. وبلغ الأمر درجة كبيرة من الأهمية، حيث تناولت وسائل إعلامية إيرانية مسألة امتلاك المملكة لرؤوس نووية تجعل صواريخها قادرة على قلب موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. وزعمت الوكالة أنه تم نقل عدد من الرؤوس النووية من باكستان إلى السعودية، بإشراف رئيس أركان القوات المسلحة الباكستانية، وذلك حسب الاتفاق المبرم بين الجانبين في هذا الخصوص، متذرعة بحضور المسؤول العسكري الباكستاني في مناورات “سيف عبد الله” (2).

ربما تشكل هذه المناورات الأولى من نوعها خليجياً، وإن كانت قد شهدت دول المنطقة عدة مناورات سابقة، إلا أنّ استعراض تلك الصواريخ ذات الرؤوس النووية، دون كثير من ضجيج، كان كافياً لإرسال مؤشرات إلى كافة القوى الفاعلة شرق أوسطياً، إلى تغير في آليات التعاطي الخليجي لمفهوم الأمن الإقليمي، ضمن سياق تحالفات إقليمية جديدة تبرز فيها تركيا وباكستان ومصر، عدا عن مشاركة غالبية دول الخليج العربي في هذا السياق الأمني والتسليحي الجديد.

ورغم أنّ القدرة الصاروخية السعودية تتفوق على نظيراتها إقليمياً، إلا أنّها بامتلاكها القدرة النووية، وإن كانت ما تزال في نطاق محدود قابل للتوسع في الأعوام القادمة، فإنّها بذلك تمتلك آليات ردع لإيران وإسرائيل معاً، وتعمل على إنشاء مظلة نووية جديدة في المنطقة، تشمل بداية كل دول الخليج العربي، وتدفع بالتالي إلى تعزيز مفهوم الأمن المشترك لها، في عملية توظيف تعاوني للقدرات التسليحية الواسعة التي تتمتع بها منذ سنوات.

هذه التغيرات، لن تبقى محصورة في إطارها الخليجي، بل ستشهد الفترات اللاحقة، إعادة تعريف لمفهوم المصلحة على المستوى الإقليمي والدولي كذلك، كنتيجة طبيعية للتغيرات في مستوى القوة، وعليه فإن خطوط الاشتباك الإقليمي باتت أكثر حدّة من ذي قبل، وقيد التفاوض والمساومة بشكل أكبر، وخاصة في منطقة الاشتباك الرئيسة بين إيران ودول الخليج العربي وإسرائيل، والمتمثلة في المحيط الخليجي، في العراق وسورية واليمن.

ثالثاً- على مستوى إيران:

تدرك إيران بدورها، أنّ المنطقة تشهد ديناميكية شديدة، في سعي من كافة القوى الإقليمية والدولية، للمحافظة على مصالحها بل وتوسيعها، ويأتي سلوكها العدواني تجاه محطيها العربي، ضمن ذات السياق. إلا أنّها تستهدف في الأساس بيئات يمكن وصفها بالبيئات الرخوة أو المتأزمة إن صحّ التوصيف في ذلك. وخاصة أنّها تعمل على تأزيم أية بيئة محيطة تسعى الولوج إليها، قبل اتخاذ أي سلوك تدخلي فيها.

من ذلك يمكن ملاحظة سلوكها في العراق عقب انهياره بعد حرب الخليج الثالثة، ولبنان بعد العدوان الإسرائيلي عام 2006، وسورية منذ إنشاء تحالفها مع نظام الأسد وصولاً إلى الدفع نحو تفكيكها عسكرياً عقب ثورتها. ذات الأداة توظف في البحرين واليمن، عبر الدفع نحو تأزيم البيئات الداخلية من خلال إعلاء قيمة عامل الولاء المذهبي، وإيجاد مداخل تلج منها إلى العمق الخليجي.

غير أنّ محدودية القوة الإيرانية، واستنزافها في أكثر من بيئة، يشكل بدوره مؤشراً على تغيرات إقليمية أخرى، فإطلاق سباق تسلح في المنطقة، مع إعادة تعريف للمصالح إقليمياً، واضطراب البيئات التي تهيمن عليها إيران من جهة أخرى، تدفع جميعها إلى تراجع مستقبلي للدور الإيراني وانحصاره في حدود أصغر من حدوده الحالية. ويلعب توجه النظام الإيراني دوراً في تحديد مستقبل القوة الإيرانية، من خلال ضبط السلوك العسكري أو دفعه إلى مزيد من التهور.

وإن كانت إيران قد وافقت على شروط اتفاق جنيف المؤقت فيما يخص برنامجها النووي، إلا أنّ المؤشرات الأخرى لا تدل على رغبة النظام في طهران، بعقلنة سلوكه المحيطي، لصالح تسويات إقليمية وفق متغيرات القوة، بل تدفع إيران بدورها إلى تصعيد هذا الاشتباك، من خلال ضجيج إعلامي حول قوة عسكرية مزعومة من جهة، وتوجيه عملائها في المنطقة لتشديد سلوكهم في مواجهة المجتمعات العربية. وخاصة أن العقل السياسي الإيراني غير معتاد على تقديم تنازلات كبرى أو تشارك في المصالح، وخاصة إن كانت المؤشرات القائمة تدفعه إلى الاعتقاد بتفوق على محيطه، ويعول بالنتيجة على نتائج صفرية لمعادلات نفوذه، تصب في النتيجة لصالحه.

من ذلك، ما صرح به خامنئي بأنّ التوقعات الغربية بأن تحدّ إيران من برنامجها الصاروخي “غبية وحمقاء”، داعياً الحرس الثوري إلى إنتاج الصواريخ بكميات ضخمة. في دلالة على محدودية الكميات الموجودة لدى إيران حالياً، وعلى نية للدفع نحو مزيد من الاشتباك الإقليمي. وهو ما يشير ضمناً إلى استمرار منهج المناورة، وانسياقه على البرنامج التسليحي، وبالتالي على نية إيران الحقيقية في الوصول إلى اتفاق نووي نهائي، في ظل التطورات الإقليمية.

ونقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن خامنئي قوله، لدى زيارته معرض طيران أقامه الحرس الثوري: “إنهم يتوقعون منا أن نحدّ من برنامجنا الصاروخي، في حين يهددون إيران باستمرار بتحرك عسكري. ولذا فهذا توقّع غبي وأحمق .. يجب التأكيد على الحرس الثوري أن ينفذ برنامجه، وألا يرضى بالمستوى الحالي. يجب أن ينتجوا بكميات ضخمة. هذا واجب أساسي على كل المسؤولين العسكريين”. بينما أعلن الرئيس الايراني حسن روحاني ان بلاده لن تتراجع أبدا عن حقوقها النووية (3).

ورغم الاتفاق المؤقت، إلا أّن الطموح الإيراني بامتلاك القدرات العسكرية النووية يبقى قائماً، ويظل الاتفاق بمثابة عملية تجميد لا إلغاء للمشروع. خاصة أن إيران امتلك البنية التحتية اللازمة لإنتاج هذا السلاح، إضافة إلى المعرفة العلمية الضرورية لذلك.

إذ نقلت وكالة الانباء الايرانية الرسمية (ايرنا) عن روحاني قوله في كلمة خلال مراسم إزاحة الستار عن الإنجازات النووية الجديدة في حقل السلامة “لن نتراجع أبدا عن حقوقنا النووية وعما حققه علماؤنا من إنجازات عظيمة في المجال النووي وعلينا أن نبذل جهودا شاملة ومتماسكة ومتزنة للدفاع عنها (4)“.

وأكد مساعد وزير الخارجية كبير المفاوضين الإيرانيين عباس عراقجي بأنّ طبيعة مفاعل الماء الثقيل في آراك لن تتغير، ولكن من الممكن إيجاد بعض التغييرات الفنية لخفض حجم البلوتونيوم المنتج والذي من المحتمل أن يكون مصدر قلق للطرف الاخر. وقال عراقجي “إنّ مفاعل آراك غير مستثنى من التفاوض وبالطبع فقد طرحت خيارات مختلفة أهمها ذلك الذي أشار إليه رئيس منظمة الطاقة الذرية الايرانية علي أكبر صالحي، وهو العمل على تبديد أو خفض الهواجس عبر إيجاد تغييرات فنية في بعض أجزاء المفاعل لخفض حجم البلوتونيوم المنتج والذي من المحتمل أن يكون مصدر قلق. مع الحفاظ على طبيعة عمل المفاعل بالماء الثقيل ولن تبدل أبداً ولن تنخفض قدرة المفاعل وسيستمر في مساره المخطط له (5)“.

فيما كشفت لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة عن تقرير سري جديد يسلط الضوء على الأساليب التي استخدمتها إيران للتحايل على العقوبات المفروضة عليها. وتضمن التقرير أمثلة لإخفاء أنابيب التيتانيوم داخل شحنة من أنابيب الصلب الذي لا يصدأ، صنعت في الصين وشحنت منها لصالح شركة “أوشن لوتكا” للشحن الدولي ومقرها طهران. وطالب التقرير الحكومات بقدر أكبر من اليقظة مع شركات الشحن التي تبدو أحياناً وكأنها صاحبة أمر التوريد لشحنات بحيث تستغلها طهران لإخفاء الوجهة النهائية للمواد أو استخداماتها (6).

ومن أمثلة التحايل الأخرى التي ركز عليها التقرير في العامين الأخيرين مساعي إيران للحصول على صمامات ألمانية وهندية لمفاعلها في آراك الذي يعمل بالماء الثقيل ويعتبر من النقاط الشائكة في مفاوضات إيران مع القوى العالمية. وبحسب التقرير استخدمت إيران أنشطة مشروعة بصناعة البتروكيماويات كستار لشراء مكونات لمشروع مفاعل آراك مخالفة لعقوبات الامم المتحدة.

وتطرق التقرير أيضاً إلى شركة تدعى “خاتم الأنبياء للبناء” وهي مسجلة في القائمة السوداء للأمم المتحدة لدعمها للبرنامج النووي الإيراني ويستشهد بصلاتها بعملية بناء منشأة لتخصيب اليورانيوم في فوردو، حيث أصدرت شعبة التوجيهات الاقتصادية الخاصة بالمجلس الأعلى للأمن الوطني في إيران أوامر للبنوك الإيرانية وشركات الدولة لتسهيل إنشاء شركات جديدة للعمل كواجهة وترتبط بشركة “خاتم الأنبياء” للمساعدة في الالتفاف على العقوبات.

ختاماً- مستقبل الاشتباك الإقليمي:

يبقى حجم الاشتباك الإقليمي حتى الآن مضبوطاً بشكل النظام الدولي القائم، غير أن التغيرات المحتملة في هذا النظام، ستدفع باتجاه تغير نمط الاشتباك، على مستويين:

الأول، من خلال تسويات إقليمية-دولية، تراعي مصالح القوى الأطراف في هذا الاشتباك، ضمن معادلة توزان القوة التي بدأت تتجلى بشكل أكبر خلال الأشهر الماضية، وفي تصاعد مستمر بينها.

الثاني، ويتجه نحو تصعيد الاشتباك باتجاه حرب إقليمية واسعة، توظف فيها كافة القدرات المتاحة حالياً، بحيث تحدد نتائجها شكل الإقليم جغرافياً وعلى صعيد القوة.

وإن كانت السعودية تستبق تلك التطورات، من خلال الدفع نحو السيناريو الأول، عبر دعوة وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل نظيره الإيراني، لإجراء سلسلة مفاوضات “حوارات”، حول إعادة توزيع المصالح إقليمياً، وفق متغيرات القوة الأخيرة، خاصة بعد أن أوصلت المناورات الأخيرة الرسالة المطلوبة منها إلى إيران. دون أن يعني ذلك عدم القدرة على المواجهة، وإنما محاولة التحكم بها وضبطها مسبقاً.

وهنا تبرز مناطق الاشتباك الواسعة، حيث تركز السعودية على استعادة سورية ولبنان، وضبط الساحة اليمنية، بعد أن استطاعت حسم الملف بحرينياً، فيما ترى إيران في تلك الساحات أداة لتثبيت قوتها ومصالحها في عملية الضغط على السعودية، وعليه فإن أية حلول تبقى مرتبطة بالملفات تلك جميعاً.

في المقابل، فإن تبلور تحالف جديد في المنطقة خارج الإطار الدولي، يشمل باكستان وتركيا، يبقى رهناً بتسوية الإشكالية المصرية ما بين دول الخليج العربي وتركيا، عبر إنقاذ المشهد المصري بسيناريوهات توافقية، تسمح للجميع بحفظ مصالحه فيها.

في المقابل، لا تبدو إيران راغبة في التراجع عن مكتسباتها الآنية في الساحات العربية، بل تسعى إلى تصعيدها، وفي حال استمرار ذلك، فلربما تشهد المنطقة دفعاً عسكرياً، لم يعد لإيران قدرة على مجاراته، بعد حجم الاستنزاف الذي تورطت فيه. عدا عن الاختلالات البنيوية داخل إيران ذاتها، والتي لا تعمل لصالح النظام الإيراني بطبيعة الحال، كما لا يبدو الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، قادراً بدوره على إطلاق مسار إصلاحي واسع، يشمل عملية تصالح مع المحيط العربي، وانسحاب عسكري منه، في ظل هيمنة التيار المتشدد على الحرس الثوري، وبمباركة المرشد الإيراني خامنئي.

إن مجمل التطورات القادمة في إقليم الشرق الأوسط، ستنعكس بدورها على مسار الأحداث دولياً، وعلى التغيرات التي تشهدها بنية النظام الدولي القائم، وبالتالي، فلربما تنعكس السبل (سلمية/عسكرية) التي ستسلكها القوى الأطراف في تسوية هذا الاشتباك، على السلوك الدولي ككل.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

مراجع:

(1) عبد الحفيظ بن عبد الرحيم محبوب، “السعودية ترتب أولوياتها خارج الإطار الأمريكي .. صفقات جديدة مع أعداء الماضي وأصدقاء المستقبل”، الشبكة العربية العالمية، 12/5/2014:http://www.globalarabnetwork.com/opinion/12509-2014-05-12-15-50-10

(2) سعود الزاهد، “صواريخ السعودية حديث الإعلام الإيراني والإسرائيلي”، العربية نت، 9/5/2014.

(3) منى سعدي، “متحدياً توقعات الغرب “الغبية والحمقاء” .. خامنئي يقول للحرس الثوري أنتجوا الصواريخ بكميات ضخمة”، الشبكة العربية العالمية، 11/5/2014:http://www.globalarabnetwork.com/opinion/12496-2014-05-11-18-28-36

(4) منى سعدي، “متحدياً توقعات الغرب “الغبية والحمقاء” .. خامنئي يقول للحرس الثوري أنتجوا الصواريخ بكميات ضخمة”، الشبكة العربية العالمية، 11/5/2014:http://www.globalarabnetwork.com/opinion/12496-2014-05-11-18-28-36

(5) “عراقجي: طبيعة مفاعل آراك للماء الثقيل لن تتغير”، وكالة أنباء فارس، 14/5/2014: http://arabic.farsnews.com/newstext.aspx?nn=9302200742

(6) “تقرير أممي: إيران تتحايل على الاتفاق النووي”، العربية نت، 14/5/2014.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق