القفز على الواقع وترحيل الأزمات

لابد من امتلاك مفاتيح لفهم الأحداث من حولنا، وذلك بالتركيز على المسائل الجوهرية في القضايا والأزمات العالقة، وما أكثر أزمات بلدان الشرق الأوسط في هذه الفترة، وخاصة منذ بداية العقد الجاري الذي لا يلوح في الأفق حتى الآن أنه سينتهي على خير في مناطق عديدة.

الإشكالية المضافة إلى سوء فهم الكثيرين للأحداث من حولنا هي تعمد اللجوء إلى تعويم الأزمات وترحيلها، سواء عبر الانسياق لتبني توصيفات خاطئة، أو منحازة غالبا لرواية أحادية لما يجري فتتمثل وجهة نظر طرف وتتجاهل الطرف الآخر، ناهيك عن ثقة البعض الطاغية بتقارير مجموعات الخبراء الدوليين المختصين بمتابعة الأزمات، حيث صرنا نستقي توصيفات الأحداث من مجموعات استشراقية تركز أغلب تقاريرها على التسليم المطلق بحتمية الانقسامات الطائفية في الوطن العربي، بل إن توصيفاتهم لا تتخلى عن المفردات والثنائيات المذهبية بمسمياتها المستهلكة، في حين أن الترويج للصراعات الطائفية لا يخدم سوى من يريدون للبلدان العربية أن تغرق أكثر في الصراعات المدمرة.

وبالطبع هذا مما يسعد إيران التي لا تنتعش وترفع رأسها إلا تحت هذه العناوين المريضة سياسيا، وتودّ أن تنقل عدوى مرضها إلى كل مكان، ويشترك معها في الانتعاش والترحيب بالانقسامات الطائفية الكيان العبري.

وبات معروفا أن السياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط تخدم إسرائيل من حيث لا تدري، وتسعى بدأب إلى تأجيج الصراع العربي العربي، بعد أن كانت الذاكرة الجمعية للعرب ترى أن الصراع الوجودي الأهم هو الصراع العربي الإسرائيلي.

وبالعودة إلى موضوعنا حول خطورة ترحيل الأزمات، نجد حتى المساعي النبيلة التي تقترح جمع أطراف هذا الصراع أو ذاك حول طاولة مفاوضات، تبقى في حالات كثيرة دعوات مهمومة ضمنيا بترحيل الصراعات وليس حلها بشكل جذري، فرغم نُبل مقاصد أيّ حوار من حيث المبدأ، إلا أن المقدمات الخاطئة تنتج دائما حلولا سياسية فاشلة، ويعلم الجميع أنها لن تؤدي إلا إلى ترحيل الصراعات والقفز المؤقت على الواقع.

ولا ننسى في المقابل أن بعض الحروب العبثية كذلك تزيد الطين بلة كما يقال، ولنا في سوريا خير مثال على إطالة أمد الصراع والفوضى وفتح الشام على مصراعيه لجماعات همجية متطرفة، لكن الطريف أن بعض قادتها صاروا ضيوفا على بعض القنوات الفضائية، ويتباهون بتكفير أطياف أساسية من المجتمع السوري، وهذا مما لا يؤسس لسلام في سوريا ولا يدعم أيّ أمل بعودة الحياة الطبيعية في المناطق السورية على المدى القريب.

وحتى لا يبقى الحديث هنا عن إشكالية ترحيل الأزمات نظريا، يمكن ضرب أمثلة من الواقع، ولنأخذ على سبيل المثال إلى جانب سوريا العراق أيضا، كنقطتين ساخنتين يتجاوز اشتعالهما حرارة هذا الصيف الملتهب.

 من غير المنطقي التطبيل الإعلامي لأجنحة عسكرية موالية بشكل علني لتنظيم القاعدة، حتى لو كان التطبيل يتخفى وراء ستار إنقاذ الشعب السوري

ولا شك أن الوصول إلى الاستقرار يتطلب المرور بإحدى وسيلتين أو بكليهما معا، ونعني بهما التدخل العسكري للضغط ثم الانتقال إلى الحوار السياسي، لكن المنطق الآن وبعد تجارب على أرض الواقع يدعونا إلى تجنب التعويل على أيّ حرب تكون أدواتها وأطرافها الفاعلة على الأرض فصائل متطرفة كما يجري في سوريا، أو فصائل طائفية كالذي يجري في العراق.

ومن غير المنطقي كذلك التطبيل الإعلامي لأجنحة عسكرية موالية بشكل علني لتنظيم القاعدة، حتى لو كان التطبيل يتخفى وراء ستار إنقاذ الشعب السوري من نظام الأسد الدموي.

ولا يمكن الابتهاج بتخليص السوريين من عنف النظام مقابل تجاهل خطورة وقوعهم فريسة لجماعات متطرفة ومعادية لتنوع مجتمعهم، وهذا يعني أن ثمّة زاوية نظر غائبة أو مقصيّة عن المشهد، وعلينا الاجتهاد أكثر لمعرفتها، والتوقف عن الانسياق وراء التوصيفات الجاهزة والشائعة لكل ما يدور.

في العراق أيضا تابعنا خبرا عجيبا ويفترض ألا نكتفي بالتعجب من مضمونه الخطير واللافت، بل يجب أن يكون دافعا للتأمل الجاد.. الخبر يقول إن مجموعة من شيوخ عشائر منطقة الرمادي بايعوا تنظيم الدولة الإسلامية،“داعش”.

ويبدو من سياق هذا الحدث ومن وقائع أخرى سابقة ومشابهة له أن أسلوب الحكومة العراقية الحالية في محاربة “داعش” يوفر لهذا تنظيم الدولة الإسلامية حاضنة اجتماعية ومناطق نفوذ جديدة!

بينما لا يقابل استخدام الحكومة العراقية للحشود الشيعية الطائفية سوى استنكار غربي خجول من قبيل النصائح لا أكثر، في حين أن معالجة إشكالية تمدد “داعش” بالأسلوب القائم حاليا يخدم هذا التنظيم الإجرامي أكثر ولا يعمل على تحرير المناطق التي يسيطر عليها.

ورغم كثافة الحشود العسكرية التي أعدّتها الدولة العراقية لـ”تحرير” الرمادي، إلا أنها حتى الآن لم تتمكن من إحراز اختراق واضح ينبئ عن قرب دحر تنظيم الدولة الإسلامية منها.

ويتخوّف المراقبون من أنه حتى لو تمت هزيمة صورية لداعش، أن يكون مصير السلاح الضخم الذي تم تكديسه حتى الآن على مشارف الرمادي بحجة تحريرها مجهولا، يأخذه الداعشيون ويهربون به بعيدا عن الرمادي لاستخدامه في جهة أخرى بعدما يمنحون قوات الحشد الشعبي نصرا بطعم الأسلحة المفقودة!

وهناك خبر آخر من المشهد السوري، يتحدث صراحة عن وصول آلاف المقاتلين الإيرانيين والعراقيين لمساندة النظام لحماية عاصمته، وهذه إشارة إلى حصول المأساة السورية على وقود إضافي عبر الحبل السري الإيراني الممتد من طهران إلى دمشق، في الوقت الذي لا تزال فيه الدعوات لحلّ سياسي للأزمة السورية مطروحة على الطاولة وعلى ألسنة وزراء خارجية دول غربية عديدة، لكن كما قلنا يبقى الحديث عن حلول سياسية عائما ولا يلامس جوهر الصراعات سواء في سوريا أو غيرها.

ولم يسعفنا الحيز بالتطرق إلى الأزمتين الليبية واليمنية، اللتين تحتاجان بدورهما إلى جهود إقليمية جادة وموحدة لإعادة الاستقرار إليهما، وذلك لن يتمّ إلا بفهم جذور الصراع أولا وليس عبر الحوارات التي تقوم بترحيل الأزمات.

 نقلاً عن العرب اللندنية

 بقلم:  د. سالم حميد

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق