القرم والأحواز.. والتوازنات الدولية

لا يخفى على أحد الصراع الدولي وتأثيره على نضال الشعوب وحقهم في تقرير مصيرهم عبر التاريخ وإلى يومنا هذا. يعتبر العامل الدولي وتدخلاته عاملا مساعدا أو سلبيا في ثورات الشعوب وفي بعض الأحيان يلعب دورا مصيريا وأساسيا في صنع وتقرير مستقبلهم. سرعة إنتصار الثورة في ليبيا وتأخيرها في سوريا وما لحق بالأخيرة من دمار شامل للبنية التحتية وقتل أكثر من مئة وخمسين الفا من السوريين دليلان واضحان لهذا التدخل وتأثيره في مصير الدول وثورات شعوبها.

فقدت روسيا العديد من أماكن نفوذها في العالم بشكل عام وفي أروبا الشرقية وأسيا الأوسطى بشكل خاص. وسقطت العديد من تلك الدول في أحضان الغرب وأصبحت عضوا في حلف الشمال الأطلسي (النيتو)، كما ألتحقت العديد من دول اروبا الشرقية إلى الإتحاد الأروبي مما شكل خطرا حقيقيا على أمن روسيا القومي، على حسب إدعا مسكو على أقل التقدير. ولا شك إن إلتحاق تلك الدول التي كانت تشكل الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو في السابق إلى حلف الشمال الأطلسي أو الأتحاد الأروبي قد قلص نفوذ روسيا في تلك المناطق، حتى أصبحت بعض تلك الدول كالسكين في خاصرة روسيا العظمى التي تطمح أن تعيد أمجاد ماضيها القريب. وبعد تلك المتغيرات إختلت التوازنات الدولية خاصة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وإنتهاء الحرب الباردة بين قطبي العالم الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الإمريكية، مما جعل روسيا أن تعيد حساباتها من جديد وتستخدم أوراقها للتصدي للزحف الأطلسي.

أتخذت الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية طرقا وأساليبا متعددة للوصول إلى أهدافهم ونشر النفوذ وتواجدهم في العالم، بدءاً من الدخول في الحروب المباشرة كما حصل في الإتحاد اليوغسلافي السابق وإسقاطه ثم تقسيمه لخمس دول قومية والحرب الذي شنته الولايات المتحدة ضد أفغانستان والعراق وإحتلالهما في بداية القرن الحالي، إلى الإغراء الإقتصادي لبولونيا، وصولا إلى التشجيع على التمرد ودعم المعارضة التي تكن الولاء للغرب مثل معارضتي جورجيا وأكرانيا (الثورة البرتغالية في كلا البلدين). توسع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية على حساب مصالح روسيا، دفعت مسكو أن تتخذ مواقف متطرفة في سوريا وقبلها تجاه ملف إيران النووي وإستطاعت روسيا ان تجهض عدد من قرارات مجلس الامن لصالح النظامين الإيراني والسوري.

دخلت العلاقات الدولية مرحلة جديدة بعد أحداث أوكرانيا وسقوط النظام الموالي لروسيا على يد المعارضة الغريبة من المعسكر الغربي إن صح التعبير. وسيطرة القوات الروسية على شبه جزيرة القرم التابعة لإوكرانيا وإعلان إستفتاء لسكان تلك الجزيرة التي يشكل الروس الأكثرية فيها، شكل منعطفا خطيرا في العلاقات الدولية والصراع القائم بين روسيا من جهة والمعسكر الغربي من جهة أخرى.

ستدخل أوكرانيا ودون رجعة هذه المرة إلى المعسكر الغربي وستكون عاجلا أم آجلا في منظومة الإتحاد الإروبي. وستعزز مواقف أوكرانيا تلك موروثها تجاه الروس وطموحها للإنفتاح السياسي والإقتصادي مع العالم الغربي. وعزل شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمها لروسيا ستكون بمثابة القشة التي ستقطع دابر العلاقات الروسية الأكرانية إلى الأبد وستشكل نقطة عداء بين البلدين وستزيد من الكراهية تجاه الروس لدى شعب أوكرانيا.

تشكل شبه جزيرة القرم أهمية عسكرية قصوى، بإعتبارها جسرا هاما للنفوذ والتوغل إلى أسيا والشرق الأوسط والسيطرة عليها يعني السيطرة على البحر الأسود والمناطق المطلة عليه. وكانت شبه الجزيرة محل نزاع وصراع عسكري عبر القرون الماضية بين الروس من جهة والدول الأخرى مثل تركيا وبريطانيا والمانيا وغيرها من جهة أخرى خاصة في الحربين العالميين الأولى والثانية.

من المؤكد سيضعف أوكرانيا عزل شبه جزيرة القرم من أراضيها وضمها لروسيا وستفقد كييف كما الدول الغربية منطقة هامة وموقعا عسكريا إستراتيجيا في المعادلات الإقليمية والدولية. وإذا كانت واشنطن قامت بحركة موجعة على رقعة الشطرنج الدولية ضد موسكو بهدف محاصرة قيصرها، بسحب أوكرانيا من الحلف التقليدي الروسي، فإن كاسباروف الروسي قام بحركة ذكية فحرم كييف والدول الغربية على حد سواء من موقع إستراتيجي صعب تعويضه في تلك المنطقة الحيوية. فيا ترى كيف سيرد المارد الغربي في المعركة الدولية المفتوحة التي بدأت تتوسع رقعتها لإرغام روسيا للتخلي عن شبه جزيرة القرم الحيوية أو محاصرتها في تحريك حجر آخر على رقعة الشطرنج المفتوحة.

وبما إن منطقة الشرق الأوسط تعتبر منطقة حيوية للغاية من حيث الثروات المتدفقة والموقع الإستراتيجي الكبير من جهة، ووقوف إيران منذ 35 عاما في المعسكر الروسي في الصراع الدولي من جهة أخرى، فان إختيار موقع الأحواز من قبل الغرب ستكون حركة ذكية لمحاصرة روسيا والقضاء على وجودها في منطقة الشرق الأوسط.

الأحواز والغرب، الأهداف والأهمية الاستراتيجية:

تشكل الأحواز الأهمية القصوى لإيران والمنطقة والعالم برمتها من حيث الثروات الهائلة والموقع الإستراتيجي المطل على الخليج العربي. وبخروج الأحواز من السيطرة الإيرانية، سيشكل ضربة موجعة لموسكو وتنهار جميع المشاريع الإقتصادية والتجارية والإستثمارية الروسية في إيران حيث لا تستطيع إيران من دعم تلك المشاريع إقتصاديا، لان النفط الذي يشكل أكثر من 87% من الدخل الإيراني سيكون خارج سيطرة الدولة الإيرانية حيث يقع معظمه على الأراضي الأحوازية.  وكما خروج الأحواز من السيطرة الإيرانية ستفقد إيران دورها الإقليمي وستنتصر الثورة السورية وبالتالي ستخرج سوريا تلقائيا من النفوذ الروسي. وستجد الدول الغربية أكثر من دولة تلعب لها دور الشرطي الحامي لمصالحها، وليس هناك حاجة لإنتظار أن تلعب إيران هذا الدور المحتمل في المستقبل في ظل المتغيرات المتسارعة نتيجة الصراعات الدولية والإقليمية.

وللغرب الغطاء القانوني الكامل أن يساند الشعب الأحوازي في تقرير مصيره، حيث إن الأحواز قد أحتلت عسكريا وأسقطت السيادة العربية عام 1925 على يد رضا شاه البهلوي بتآمر وصراع دولي معروف في تلك الحقبة من الزمن. وتمارس إيران عبر سياساتها المتعددة التطهير العرقي في الأحواز، وتنتهك جميع بنود حقوق الإنسان والمواثيق الدولية بشكل صارخ. كما إن الشعب العربي الأحوازي ناضل منذ اليوم الأول لإحتلال أرضه بشكل متصاعد وقدم ولازال تضحيات جسام في سبيل نيل حريته وحقوقه العادلة.

وبما إن الأحواز ضاعت نتيجة الصراع الغربي الروسي قبل ما يقارب القرن من الزمان، فهل يا ترى سترجع لشعبها وتكون ضمن التحالفات الغربية كما كانت نتيجة ذات الصراع والأهداف، خاصة بعد ما تحولت إيران من المعسكر الغربي إلى المعسكر الشرقي؟

حسن راضي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق