العلاقات الإيرانية القطرية (2)

الحقيقة الاستراتيجية

تناولنا في الورقة السابقة عن العلاقة القطرية الإيرانية العوامل البنيوية التي تحكم السياسة القطرية ورؤيتها الاستراتيجية، ولاحظنا أن قطر تتحول باستمرار في أدائها على مستوى إدارة ملفات علاقاتها الدولية نتيجة الاعتماد على رمال متحركة لتضطر الإنقلاب عليها بشكل جذري، ثم ووصلنا إلى أهم الملفات التي تتقاطع عندها العلاقات الإيرانية القطرية وهي شبكة خطوط الأنابيب الغازية الخارجة من حقل الشمال المشترك بين إيران وقطر، وسنستكمل في الجزء الثاني المعنى الجيوسياسي لهذا الملف والإدارة الجيوستراتيجية ومحدداتها من المنظورين القطري والإيراني.

قبل أربع سنوات اقترحت قطر خط أنابيب غاز قادم من الخليج العربي إلى تركيا بهدف التوسع في الصادرات في إطار برنامج طموح من شأنه أن يضاعف قدرتها على إنتاج الغاز الطبيعي المسال، وكان ذلك بعد محادثات بين أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني والرئيس التركي عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وهي تدلل إلى رغبة أمير قطر في مد جسور التعاون مع تركيا عندما كان المشهد السياسي الإقليمي مستقراً بدرجة كبيرة قبل موجات التغيير الواسعة التي شملت المنطقة بعد ثورات الربيع العربي.

في المقابل كانت ثركيا قد أبرمت اتفاقية مشروع خط أنابيب غاز (نابوكو) وهو مشروع خط ضخم لنقل الغاز من آسيا عبر الأراضي التركية باتجاه دول الاتحاد الأوروبي ينتهي في بلدة حدودية داخل النمسا تسمى (بوقمارتن اندرمارش)، وللعلم فإن هذا الخط والتوقيع على اتفاقيته تم بالإضافة إلى دول العبور بحضور مبعوث أمريكي خاص ومبعوث ألماني في دلالة واضحة على أهمية هذا الخط بالنسبة لأوروبا وبالتالي تبني حلف شمال الأطلسي ودعمه.

 

خط نابوكو وإملاءاته الجيوبولتيكية:

يبرز هنا السؤال الاستراتيجي الأعمق حول الربط بين هذين الخطين الغازيين الاستراتيجيين، وما حقيقة اختراقهما من أوراسيا إلى قلب أوروبا المستهلك المتعطش لهذه السلعة وكيف أنها المعني الأساس بها بالتالي ماهي المعادلة الجيوبولتيكية التي تحكمهما.

إن خط نابوكو برغم ما يعترضه من صعوبات فنية وقانونية فضلاً عن غياب مصدر معين ووحيد لملء هذا الأنبوب فإنه كما يبدو على الخريطة كنهر عملاق يبدأ من مدينة (أرضروم) التركية بحيث يكون مفتوحاً على مروحة من ثلاث شفرات تضم أهم حقول الغاز في العالم في منطقة بحر قزوين بدءاً من تركمانستان التي تحوي على رابع أكبر احتياطي في العالم .

بداية لابد من تحديد عناصر هذه المعادلة المكونة من أربع دول تتربع على قمة مصدري الغاز في العالم وهي بالترتيب روسيا وإيران تليها قطر ومن ثم تركمانستان، وبما أن روسيا حتى هذه اللحظة تعتبر المتحكم الأول بتوريد الغاز إلى أوروبا ونتيجة السوابق التي أثارت مخاوف الأوروبيين من قطع الإمدادات الغازية كما فعلت عندما قطعت الغاز عن الأنبوب المار من أوكرانيا إلى أوروبا كان لابد للأوروبيين من أن يحيدوا هذه الهيمنة الروسية وسيفها المسلط على رقابهم عبر استبعاد الأراضي الروسية عن هذا المشروع الذي يزاحم مصادرها الأساسية في بحر قزوين والذي قد يثير خلافات وإعادة تموضعات جديدة لهذه الدول وعلى رأسها تركمانستان وإيران اللذين يفترض أن يغري هذا المشروع صناع القرار فيها لمردوده الاقتصادي الكبير.

يشكل خط نابوكو نهر كبير فارغ يحتاج إلى روافد ترفده بمادة الغاز من عدة محاور إقليمية قادمة بالدرجة الأولى من قزوين والخليج العربي، فإذا كان الخط الذي أشرنا إليه في الحلقة الماضية من البحث بفرعيه القادم من قطر وإيران، فإن نابوكو يعطي أفضلية لإيران لضرورة موقعها كمعبر للغاز القادم من تركمانستان، إلا إذا تجاوز إيران عبر خطوط بحرية إلى أذربيجان، ومع ذلك ترتفع أهمية التفاهم مع إيران لإطلالتها البحرية على قزوين.

الهدف دائماً من هذا المشروع هو تحييد دور روسيا من التحكم بموارد الغرب من الغاز، وبالتالي يصبح مشروعاً عالمياً استراتيجياً تتضافر فيه الجهود الدولية لتحويل تجارة الغاز كلياً إذ من المقرر أن تصل طاقة ضخ الغاز في المشروع 31 مليار متر مكعب، أو بما يعادل 5 إلى 10 في المائة من استهلاك الغاز الإجمالي في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2020، كون الاتحاد الأوروبي إحدى أكبر الأسواق استهلاكاً للغاز في العالم، ويبلغ استهلاك الاتحاد الأوروبي السنوي الحالي 600 مليار متر مكعب، ومتوقع أن يرتفع استهلاكه بنحو 200 مليار متر مكعب إضافي بحلول عام 2030، ومن المتوقع أن تبدأ أولى عمليات التسليم في عام 2014 بطاقة سنوية أولية تقدر بين ثمانية مليارات وعشرة مليارات متر مكعب.

لقد عمدت روسيا في مواجهة هذا المشروع الذي بدا بالنسبة لها حلماً أوروبياً أسطورياً إلى التحرك على محورين متوازيين،

المحور الأول: هو إثارة المسألة القانونية لبحر قزوين وتوصيفه القانوني كبحر أم بحيرة، ففي الأولى يعتمد التحكيم على طول الشواطئ المطلة على بحر قزوين وأما إذا عومل كبحيرة فتقتسم الدول موارده بالتساوي، وهذا التوصيف الأخير ما تدفع إليه روسيا حتى اليوم.

المحور الثاني: هو خلق شراكة احتكارية دولية للدول المصدرة للغاز تضم الدول الأعلى إنتاجاً لهذه المادة وأنشأت منظمة الدول المصدرة للغاز وتضم إلى جانب روسيا كلاً من إيران وقطر التي تملك أكبر حقل غاز في العالم، وتضم أراضيها كميات من الغاز تضعها في المركز الثالث من حيث الاحتياطيات العالمية بعد روسيا التي تمتلك 47% من الاحتياطي العالمي وإيران التي تمتلك 19% من احتياطيّ النفط العالميّ.

 

قطر وإيران استراتيجيات وحسابات خاصة:

سيغري هذا الخط الدول التي تتعاون مع روسيا من الدول السوفياتية السابقة في التخلي عن تعاونها إذا كانت العقود المرتبطة بخط نابوكو مجزية وستعرّض روسيا لعزلة عن السوق الأوروبية على المدى المتوسط والبعيد، واستقلالاً أوروبيا عن التحكم الروسي بمادة الغاز الذي قطعته عنها في فترات متقطعة. هذا عدا عن كون النظام الروسي في تعامله مع عقود الغاز ذو الشروط المجحفة إذ تضع يدها على حوالي 50 مليون متر مكعب من أصل 80 مليون متر مكعب تنتجها تركمانستان بموجب عقود طويلة الأمد، مما سيغري تركمانستان للانتقال إلى الحلف الغربي في حال كانت الشروط أكثر اغراءاً ومردودية عليها، وقد يطال ذلك تحالفات حماية من حلف الناتو الذي سيعتبرها جزءاً من حدود وصايته الأمنية التي تمس أمن الطاقة الأوروبي.

إلا أن هذا السيناريو ينطوي على مخاطر عديدة وحله قد يتطلب وقتاً طويلاً لإنهاء التفاهمات حوله وتفكيك الهيمنة الروسية عليها لترتفع بذلك أهمية المورد الأهم في العالم القادم من الخليج العربي، وتحديداً القادم من إيران وقطر، الذي على ما يبدو أنه المرشح رقم واحد لتزويد خط نابوكو بالغاز، وهذا ما يجعل الصورة أوضح بخصوص التفاهمات التي جرت مؤخراً بين الغرب وإيران حول ملفها النووي في اختبار حقيقي لمدى التزام إيران بتعهداتها الدولية واختبار تأثير المحفزات الاقتصادية التي سينبني عليها لاحقاً إمكانية توسيع التعاون الغازي، إذ تقدر أوروبا أن حاجة إيران لتصدير الغاز الطبيعي أكبر من حاجة روسيا التي ترى في نفسها امبراطور هذه المادة عالمياً دون منافس، وهذا ما يفسر الحماسة الأوروبية للاتفاق النووي الأخير في محاولة إدماج إيران في اللعبة الدولية وهي بالفعل لديها ميل لإيران سببه الحاجة المتبادلة للتصدير من إيران والتوريد لأوروبا، كما أن إيران تمثل المعبر المثالي لنقل الغاز التركماني إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الإيرانية الموجودة إلى تركيا ومن دون إثارة النزاعات القانونية الدولية التي أثارتها روسيا حول بحر قزوين، وفيما إذا تم إدماج قطر في هذا المشروع ستكون إيران الحلقة الواصلة لثالث ورابع أكبر لدول المنتجة للغاز في العالم، ومحطة تصدير الغاز منها كثاني دولة ومن قطر كثالث دولة ومن تركمانستان كرابع أكبر الدول المنتجة للغاز في العالم، وهي بالتالي تدخل في الاستراتيجية الإيرانية لفك الحصار عنها معتمدة على التناقضات في المصالح الدولية وتموضع جغرافيتها وانعكاساتها الجيوسياسية، كي تلج إلى السياسة الدولية، دونما أن نتناسى أن لكل دولة استراتيجيتها المستقلة عن الدول الأخرى، فتركيا على سبيل المثال وتذكيراً بمشروعها المشترك مع إسرائيل المسمى بمشروع (باكو – تبليسي – جيحان) هو استراتيجية تركية خاصة بها لنقل النفط والغاز من أذربيجان إلى ميناء جيهان والذي كان يفترض أن يمتد إلى ميناء عسقلان في إسرائيل بالإضافة إلى خط مائي وكهربائي، وبنفس الوقت فان لإيران استراتيجيتها المستقلة لمد خط من إيران إلى سورية مروراً بالعراق في خطوة استراتيجية مستقبلية احترازية من وقوع أي خلل في المشهد الاستراتيجي المرتبط بالخريطة الجيوسياسية العالمية المتغيرة، هذا كله إلى أن تستقر المصالح على عرف يرضى عنه الجميع.

من ناحية أوروبا كان المقصود من خط أنابيب نابوكو تنويع موردي الغاز الطبيعي و طرق التسليم لأوروبا ، وبالتالي تقليل اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية التي عمدت إلى بناء مشروع خط أنابيب ساوث ستريم، الذي يتم مراجعته من قبل الاتحاد الأوروبي مؤخراً إذ أعلنت المفوضية الأوروبية قبل أيام في 5 ديسمبر/كانون الأول من هذا العام 2013، أن الاتفاقيات المبرمة بين روسيا والعديد من دول الاتحاد الأوروبي لبناء خط أنابيب الغاز “ساوث ستريم” تمثل انتهاكاً لقوانين التكتل يستلزم إعادة التفاوض بشأنها، وتنص خطط بناء خط أنابيب بطول 2380 كيلومتراً يمر تحت مياه البحر الأسود ويخترق أراضي بلغاريا وصربيا والمجر وسلوفينيا، قبل أن يصل إلى إيطاليا التى من المفترض أن يتم تزويدها بالغاز إلى جانب اليونان والنمسا اعتباراً من عام 2015. ويتفادى خط الأنابيب المرور عبر أراضي أوكرانيا بحيث لا يتأثر الأوروبيون بأزمات الغاز التي تفسد العلاقات بين موسكو وكييف، لكن الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي شددت على أن الاتفاقيات المبرمة بين الحكومات بشأن خط “ساوث ستريم” بين روسيا ودول العبور بالاتحاد خالفت قواعد التكتل، وذلك وفقاً للمتحدثة باسم المفوضية مارلين هولزنر.

يعزز هذا الخبر الذي طرأ أثناء كتابة البحث تلك القراءة الجيوبولتيكية التي عكفنا على تقديمها في الدراسة ومنظورات كل من أوروبا والدول الإقليمية ذات الصلة من الهيمنة الروسية، وبالتالي سيدفع ذلك لأن تتجاوز الدول المرتبطة بها تحت منظمة الدول المصدرة للغاز التي خلقتها روسيا وتقييم مصالحها بتقدير ذاتي وبحسبتها الإقليمية والدولية الدقيقة.

من هنا توجب إعادة قراءة الخارطة العالمية الجديدة وما تمليه المصالح على دول المنطقة وفي موقعنا هنا دول الخليج العربي التي ستجد نفسها قريباً أمام استحقاقات إقليمية جديدة ترتفع فيها قيمة دول وتهبط فيها قيمة دول أخرى، مما سيحتم عليها أن تقرأ المستقبل بعين شاملة أكثر ديناميكية تقارب فيها مصالحها مقاربة واقعية وعقلانية تضع المصلحة المتبدلة على رأس اعتباراتها، وقد كشف لنا البحث في العلاقات القطرية الإيرانية زاوية لطالما تم تغييبها أو تناسيها من صناع القرار، وهي مناسبة أخرى لوضع استرايجية أمن قومي عربي نواتها أمن الخليج.

 

 مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق