العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية: أبعد من الأيديولوجيا (2)

تناول القسم الأول من هذه الدراسة، عدداً من المحاور التأسيسية لنمط العلاقات البينية بين إيران وإسرائيل، وخاصة في الفترة اللاحقة لقيام الثورة الخمينية 1979. من خلال استعراض المحاور التالية:

–      التمظهر العلني للعلاقات البينية.

–      مبدأ التقيّة في العلاقة مع إسرائيل.

–      تقاطع المصالح في البيئة العربية.

–      في تداعيات عدوان 2006، وما تلاه في غزة.

ويستكمل هذا القسم إبراز خلفية تلك العلاقات من خلال البحث في:

–      المشاريع المشتركة بين الطرفين: عسكرية وتجارية وبحثية.

–      ما بعد جنيف.

–      الالتقاء في سورية.

 

خامساً- المشاريع المشتركة بين الطرفين:

خلص القسم الأول من هذه الدراسة، إلى انتفاء مبررات العداء الأيديولوجي بين إيران وإسرائيل، بل أظهر تماثل الأدوات والتوجّهات لدى كلا الطرفين تجاه البيئة العربية المحيطة بهما. غير أنّه وبالبحث بشكل مكثّف خلف هذا العداء الإيديولوجي الصفري، تظهر جملة واسعة من المشاريع العسكرية والاقتصادية والبحثية، المشتركة والمستمرة بين الجانبين، دون أن تنقطع فعلياً بعد الثورة الخمينية عام 1979.

أ‌-     على المستوى العسكري:

نقل موقع صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية عن صحيفة “كاثيميريني” اليونانية، أنّ تحقيقات مشتركة أمريكية-يونانية كشفت أنّ تجار أسلحة إسرائيليين حاولوا تهريب قطع غيار لطائرات F-4، إلى إيران عبر اليونان، في خرق لحظر الأسلحة المفروض على طهران. ووفقاً للتقرير، تمّ شحن الحاويات من المجلس الإقليمي “بنيامينا- جفعات آدا” وكانت وجهتها إيران، وتبيّن من التحرّيات التي قادتها الولايات المتحدة أنّ تجار الأسلحة الإسرائيليين هم من وراء الصفقة (1).

ومؤخراً توجّهت إيران لإسرائيل، عبر شركة وهمية في الصين، من أجل شراء منظومة صنعتها شركة إسرائيلية من المنطقة الصناعية “رمات هاشرون”، وهذه المنظومة توفِّر جداراً وهمياً من أجل حماية العربات الحكومية للمسؤولين الإيرانيين (2).

كما أكّدت صحيفة “يديعوت أحرونوت” تورّط شركة “ألوت” الإسرائيلية، المعنيّة بالمنتجات التكنولوجية، في تزويد إيران بمعدات استخباراتية لتعقّب شبكات الإنترنت في إيران، وأوضحت أنّ الحديث يدور حول معدات تكنولوجية عالية التقنية، تمدّ الدوائر المعنية في طهران بمعلومات موثّقة حول نشاط شبكات الإنترنت، وقالت الصحيفة: “إنّ وسيطاً دنماركياً قام بنقل هذه المعدات إلى إيران” (3).

وقد زوّدت كل من إيران وإسرائيل نظام الأسد بتقنيات مشابهة لتلك، منذ اندلاع الثورة في سورية، بغية رصد النشطاء السياسيين، والقدرة على تحديد مواقعهم والوصول إليهم.

ب‌-على المستوى التجاري:

كشفت الإذاعة الإسرائيلية العامة، في تقرير مفصّل لها، أنّ العلاقات التجارية بين تل أبيب وطهران في العقدين الماضين، لم تقتصر على ما نُشِر عن صفقات تجارية بين شركة الأخوة “عوفر” مع شركات نفط إيرانية. مشيرة إلى أنّ خبراء إسرائيليين في مجال الزراعة ورجال أعمال وأكاديميين ينشطون في إيران على مدار تلك الأعوام، وقد ازدهرت تلك العلاقة عندما كان أرئيل شارون يتولى منصب وزير البنى التحتية في عهد حكومة نتنياهو الأولى عام 1996 (4).

وذكر الدكتور سولي شهفار رئيس مركز دراسات إيران والخليج العربي في جامعة حيفا، أنّ: “عائلة عوفر ليست وحدها، فنحن نعرف عن أشياء معلومة مثل قضية ناحوم منبر الذي كانت له علاقات مع إيران على مدار سنوات بعلم السلطات الإسرائيلية دون أن تعتقله، وأعلم أنّ هناك شركات لها علاقات مع إيران بطريقة أو أخرى، وأقدّر أنّ السلطات الإسرائيلية على دراية بجزء من هذا الحراك التجاري (5)“.

وبعد تولّي أرييل شارون رئاسة الوزراء، طالبت إيران إسرائيل سداد الديون المترتبة عليها إضافة إلى تعويضات تأخير، والتي زادت عن 800 مليون دولار، وذلك منذ فترة الشراكة في خط أنابيب البترول إيلات-عسقلان، وعقب قطع العلاقات لم تسدِّد إسرائيل الدين المستحق عليها. وحينها اتّفق أرئيل شارون مع روسيا على أن تشتري روسيا الدين، مقابل هذا تتلقّى إيران أشياء تساوي في قيمتها هذا الدين مثل الوسائل القتالية وأيضاً إصلاح وسائل قتالية وبيع السلاح لإيران، وأهمّ الأمور التي اتُّفِق عليها تطوير طائرات الفانتوم التي كانت تمتلكها إيران في ذلك الوقت (6).

كما طلبت إيران من طرف ثالث، أن يناقش أرئيل شارون مع الأمريكيين إمكانية بلورة صفقة لرفع الحظر عن بعض الأملاك الإيرانية في الولايات المتحدة، مقابل وقف إيران تمويل الاستشهاديين(7).

وقد تكرر توجّه الإيرانيين لأرئيل شارون عبر طرف ثالث، وطلبوا من شركة “تاهل” الإسرائيلية التي بحوزتها نُسَخ من خرائط البِنية التحتية للصرف الصحي في طهران، وذلك منذ الفترة التي كانت تعمل فيها الشركة في إيران في ظل حكم الشاه، وتم الحصول عليها مقابل الإفراج عن 8 يهود إيرانيين كانوا معتقلين بتهمة التجسس لصالح إسرائيل (8).

ج- على المستوى البحثي:

وافقت إيران على تعيين إسرائيل للبروفيسور إليعاز رابينوفيتشي وهو أحد مؤسسي المشروع، بمنصب نائب رئيس مجلس إدارة مشروع “سيزامي SESAME”، وهو مسرّع الجزيئات الإلكترونية -في الأردن-، وهو مشروع فيزيائي-نووي يعدّ الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، بالتعاون بين كلّ من إسرائيل وإيران والأردن وتركيا. ويهدف المشروع إلى إجراء أبحاث متقدمة في مجالات مختلفة مثل البيولوجيا وعلوم البيئة وعلم الآثار والكيمياء، ويجري تمويل المشروع من كل من إيران وتركيا والأردن، مع تلقيه خمسة ملايين يورو من مركز أبحاث “سيرن” الأوربي الشبيه له، ويتكون مجلس إدارته من علماء إسرائيليين وإيرانيين وأتراك وآخرين من مصر وباكستان والأردن، بالإضافة إلى أعضاء مراقبين من الولايات المتحدة وروسيا وإيطاليا والصين (9).

 

سادساً- ما بعد جنيف:

استطاعت القوى الكبرى (5+1) إنجاز اتفاق دولي مع إيران، يُحيِّد قدرات إيران النووية مؤقتاً ويخرجها عن مسارها العسكري، بعد جهد استمر لسنوات طويلة عبر جملة واسعة من العقوبات التي تدرَّجت حتى طالت كافة مفاصل الاقتصاد الإيراني، وأحدثت فيه اختلالات بنيوية يصعب علاجها على المدى القصير.

وأتى هذا الاتفاق المؤقت ليضع البرنامج النووي الإيراني ككلّ تحت المراقبة اليومية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويضبط نسبة التخصيب دون 5%، ويمنع العمل في كثير من المنشآت النووية المختصة بالماء الثقيل والبلوتونيوم التي تؤهّل لصنع السلاح النووي. مقابل تخفيف مؤقت وجزئي للعقوبات المفروضة على إيران، في فترة اختبار جدية القيادة الإيرانية في الالتزام بهذا الاتفاق.

فالمكاسب التي تتحصّل عليها إيران من هذا الاتفاق، ليست مكاسب تخوِّلها التحول إلى قوة نووية متسلِّطة على محيطها، بقدر ما يقوم بإعادة تأهيلها للانخراط في المجتمع الدولي من جديد، وفق شروط هذا المجتمع، بل هي مكاسب معاشية اقتصادية، تحتاج لسنوات قبل أن تصلح الأضرار اللاحقة بالبنى الاقتصادية والمجتمعية في إيران.

فيما أتى الاتفاق بعد عقد من التعبئة الغربية للمنطقة، تحضيراً لحرب -افتراضية- تشنها تلك القوى على إيران، ورغم اعتراض إسرائيل -الأوّلي والعلني- على نتائجه، إلا أنّها تراجعت عن مطالبها بعمل عسكري موجّه نحو إيران. وفي المقابل، فقد وجدت إيران في ذلك الاتفاق، مخرجاً اقتصادياً مباشراً لأزماتها التي كادت تطيح باقتصادها، ومدخلاً سياسياً لإعادة تشكيل العلاقات مع القوى الغربية.

ووفقاً لـ أندرو باسيفيتش –أستاذ التاريخ بجامعة واشنطن-: “اعتبرت الإدارة الأميركية أنّ طهران هي نافذة واشنطن إلى طيّ مغامراتها سيئة المآل (في العراق وأفغانستان). وشجَّعها على ذلك تراجع اهتمامها بالعالم العربي، خصوصاً في ظلّ المؤشرات القوية الدّالة على احتمالات اكتفائها من النفط والغاز إزاء وفرة الاحتياطيات التي تمّ اكتشافها في بحر الشمال”. ولم يبتعد محرر صحيفة “لوبوان” الفرنسية نيكولا بافاريز كثيراً عن الفكرة السابقة في تحليله، إذ ذكر أنّ واشنطن مهووسة بالحفاظ على زعامتها في وجه الصين، وقرّرت الانتقال من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ساعدها على ذلك أنّها بصدد الاستقلال في مجال الطاقة والتقليل ممّا تستورده من نفط الشرق الأوسط، وفي تحوّلها ذاك تراجعت الأهمية النسبية للمنطقة في استراتيجيتها، ووجدت أنّ اتفاقها مع إيران يمكن أن يسهم في استقرارها (10).

ويرى كيهان برزكر محرر صحيفة “تابناك” الإيرانية، أنّ اتفاق جنيف فتح الطريق أمام تعاون أوسع مع الدول الغربية لحل القضايا الإقليمية والدولية، الأمر الذي يساعد على خروج المنظومة السياسية والأمنية من توازن القوى إلى استراتيجية توازن المصالح والتعاون الإقليمي. ولخّص تلك المصالح في الحفاظ على الأنظمة السياسية ومكافحة الإرهاب والتطرف، والتعاون من أجل شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل (11).

وهذا ما يعني بدوره، أنّ الولايات المتحدة بصدد إعادة هيكلة سياساتها شرق الأوسطية، بحيث تكون إيران وإسرائيل في جهة متقاربة، وبشكل علني مباشر هذه المرة، مع مراعاة مصالحهما ضمن المصالح الأمريكية في المنطقة، على أن تلتزم كل منهما بحدود الفصل المصلحي فيما بينها. وخاصة أنّ منطقة الاشتباك الرئيسة بينهما تقع في سورية ولبنان، وعليه فإن حسم الصراع عليهما يرتبط بحجم التوافق فيما بين إيران وإسرائيل في المرحلة القادمة على توازع الأدوار في المشرق العربي. ولا يبدو حتى الآن أنّ هناك خلافات كبرى حول شكل المنطقة، والفاعلين الرئيسين فيها، في ظل إسناد الطرفين –الإيراني والإسرائيلي- لنظام الأسد بشكل مباشر أو غير مباشر.

وخصوصاً أنّ إيران كانت قد استبقت مؤتمر جنيف، بإلغاء مؤتمر مناهض لإسرائيل كانت تنوي تنظيمه، وذلك في بادرة حسن نية تجاه الغرب، وسط جهود ترمي لصياغة مسار دبلوماسي جديد لإيران. وذكرت عدة مواقع إخبارية إيرانية على شبكة الإنترنت بينها “جيهان نيوز”، أنّ وزارة الخارجية ألغت الاجتماع لأنّه اعتُبِر مقوِّضاً لسياسة الحكومة الرامية إلى “التفاعل مع العالم الخارجي”.

وفي تقرير نشرته مجلة “نيوزويك” الأميركية في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، تحت عنوان “القنوات الخلفية في بورجوندي”، تحدّثت فيه عن اجتماعات سرية عقدت في أحد قصور تلك المقاطعة الفرنسية بين عسكريين إيرانيين سابقين من الحرس الثوري وبين آخرين من إسرائيل ومجموعة ثالثة من الصين، نوقشت خلالها النقاط التي كانت محلّ خلاف بين إيران وبين الدول الكبرى التي عطّلت الاتفاق حول مشكلة البرنامج النووي. وكان للنتائج التي تمّ التوصل إليها في تلك الاجتماعات السرية دورها في تذليل العقبات التي اعترضت توقيع الاتفاق (12).

ما بدأ يظهر إلى العلن من علاقات بين إيران وإسرائيل، لم يكن سرّياً في الدوائر الدولية المعنية بالأمر، بل كان مخفياً عن الشارع العربي فحسب، نتيجة سياسة التعتيم التي اتبعتها الأنظمة العربية الموالية لإيران، ونتيجة التعبئة الأيديولوجية الإيرانية والتي تستهدف بشكل مباشر الشارع العربي، سواء عبر استقطاب نخبه مالياً أو فكرياً أو مذهبياً.

ورغم كل التهديدات التي صدرت من كلا الطرفين تجاه بعضهما البعض، فإنّ عملية الحشد العسكري لم يكن يُستهدَف منها إلا الاعتداءات على الدول العربية سواء من قبل إيران أو إسرائيل، وتكريس أوضاعهما القائمة، لذا يُعتبَر ما حصل في جنيف من اتفاق، مع ما يحصل في سورية، بداية تشكل محاور سياسية إقليمية جديدة تستهدف البيئة العربية.

سابعاً- الالتقاء في سورية:

شكلت سورية محوراً مصلحيّاً دولياً، يُمثِّل اكتسابها، تثقيلاً لميزان المصلحة ومنه ميزان القوة للدولة المستحصلة عليها، فعلى المستوى الإقليمي، هي البعد التوسعيّ لسياسات إيران وتركيا، ومستوى انضباط قوتها هو المعادل للقوة الإسرائيلية. في حين شكلت محور التنافس الدولي، بين قوة قطبية تتراجع (الولايات المتحدة)، وأخرى تسعى للعودة إلى الساحة الدولية (روسيا)، لتجد كلتاهما، في الملف السوري، خط تماسٍّ يكاد يشابه خطوط الحرب الباردة.

أولاً، على المستوى الإيراني، تُمثِّل سورية بعداً استراتيجياً للتوسُّعية الإيرانية في المشرق العربي بعد العراق، في مرحلة من مراحل إنشاء قوة إقليمية تمتد من أواسط آسيا إلى سواحل شرق المتوسط، معتمدة على آليات عدة، تبرز منها في الحالة السورية، توظيفات الآلية الطائفية، كآلية تعبئة تخدم المجموع المصلحي، كما تشكِّل سورية بعداً إحيائياً للاقتصاد الإيراني المحاصر منذ عقود، عبر صفقات كُشِف البعض منها، وما زال البعض الآخر قيد الكتمان. كما ويُشكِّل الاستحواذ الإيراني على النظام السوري، وتوجيهه، آلية ضغط على الغرب في مؤتمرات التفاوض الدولي، حول نووية إيران.

ويعتمد هذا الفهم الإيراني، على مفهوم القوة الصلبة، عبر الآليات العسكرية في دعم نظام الأسد، إن كان دعماً سياسياً لعملياته العسكرية، أو مساهمة استشارية عسكرية، أو إمداداً عسكرياً، أو مساهمة مباشرة في العمليات العسكرية. حيث تمّ استدعاء هذا الفهم الإيراني من قبل نظام الأسد منذ الأيام الأولى للثورة السورية، نتيجة ارتباط مصلحي وسياسي يعود لعام 1979 –وأضيف إليه الارتباط العقائدي لاحقاً-.

ثانياً، على المستوى الإسرائيلي، شكّل نظام الأسد منذ عام 1973، حالة استقرار أمني وعسكري على جبهة الجولان السوري المحتل، أتاحت للقوة الإسرائيلية أن تتفرّغ لملفات عسكرية أخرى، سواء داخل فلسطين المحتلة، أو ضمن الحالة التوسُّعية في لبنان منذ عام 1982. صحيح أنّ الدولتين تواجهتا في لبنان، لكن كان تواجهاً تنافسياً في السيطرة الاحتلالية عليه، فكلاهما أسهم في ارتكاب مجازر بحق الشعب اللبناني (المحتل سورياً وإسرائيلياً). ومن ذلك فالأسد كان منافساً وشريكاً لإسرائيل في لبنان، اعتمد على آلية “المقاومة” في إخراج منافسه لإحكام سيطرته، لكنّه أخرج ذاته منه باغتيال الحريري. لكن آلية المقاومة هذه ما كانت لتُشكِّل خطراً استراتيجياً حقيقياً على وجود الكيان الإسرائيلي بحدّ ذاته، ففيما كانت تشتدّ المنافسة على المكسب اللبناني، كانت جبهة الجولان السوري المحتل، مضبوطة أمنياً بالجيش السوري، دون أيّة اتفاقيات كالتي سطرها السادات.

فانفلات الضبط الأسدي لحالة “المقاومة” في لبنان من جهة، وللحدود مع الجولان السوري المحتل من جهة ثانية، عبر إسقاطه، أو تآكل قدرته الضبطية السلطوية، قد يدفع إلى إعادة إشعال جبهة آمنة منذ عقود أربعة، وإلى انبثاق فصائل مقاوماتية جديدة خارج السيطرة الإيرانية، قد تدفع بالكيان الإسرائيلي إلى تكثيف عملية عسكرية جوية على كامل لبنان، تعيد حالة من الذعر في شمال فلسطين المحتلة.

فاستمرارية الأسد، وكما صرح أحد رجالاته (رامي مخلوف)، تمثِّل الضامن الرئيس لأمن إسرائيل في المشرق العربي، وإسقاط الأسد، هو فتح الباب لمنح مزيد من القوة لمنافس إقليمي جديد، أو نشوء قوة سورية ذاتية (قد تكون إسلامية دون أن يُشترَط ذلك)، تعمد إلى أولوية استعادة الجولان السوري المحتل.

ومع إدراك الفهم الإسرائيلي لاحتمالية إسقاط الأسد، فإنّ إشغال القوة الذاتية السورية تلك بقضايا دون الجولان السوري المحتل، يبدو الأهمّ لديها، لناحية دعم توجّهات تدمير كامل قدرات سورية، ودعم توجهات انفصالية لجهات بعينها، إشغالاً للداخل السوري في ملفات قد تستغرق عقوداً، بعيداً عن طرح المواجهة من جديد.

من ذلك يأتي ما أكدته صحيفة “طرف” التركية، أنّ ‏المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أنقرة دافيد ميدان، حذر رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان خلال اجتماعهما الأخير في العاصمة التركية، من النتائج المحتملة والتي قد تترتب عن أي عمل عسكري محتمل ضد سورية. ونقلت الإذاعة الإسرائيلية عن الصحيفة القول: “المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أنقرة دافيد ميدان أكد أنّ سورية تمتلك أكبر مخزون من الأسلحة الكيماوية في العالم، ولديها عدد كبير من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى الروسية والصينية، ولها القدرة على ضرب مناطق جنوبي وجنوب شرقي تركيا، وقد تكون لدى بعض من هذه الصواريخ القدرة على ضرب أنقرة (13)“.

كما أنّ نشوء دولة ديمقراطية في المشرق العربي (سورية)، قد يشكِّل تهديداً ديمقراطياً لمحيط يشهد تنازعات طائفية ودكتاتورية، إذ قد تُشكِّل سورية الديمقراطية المستقرة، مركز استقطاب حينها للقوى التحررية الجديدة، مما قد ينعكس على جغرافية المنطقة إضافة إلى تاريخها المقبل (14).

ومن ذلك، تظهر مصلحة الطرفين الإسرائيلي والإيراني في الحفاظ على نظام الأسد القائم، وتوفير الدعم (العسكري المباشر من إيران، والغطاء الدولي من إسرائيل). وفي حال تعثُّر استمراريته، فإنّ من مصلحة كلا الطرفين إعادة تقسيم سورية إلى دويلات ضمن مشروع تقسيم المشرق العربي ككل (15).

وعندما تحدّث الأمين العام لحزب الله عن تصاعد “مخاطر” التقسيم في المنطقة، لم يكن يُحذّر ممّا يرفضه، وإنّما كان يبلّغ من يعنيهم الأمر بأنّ إيران باتت جاهزةً لقبول مثل هذا الاحتمال، في سورية وحتى في العراق، بعدما أبدت سابقاً رفضاً مبدئياً له، حتى لو كان له أن يحصل في إطار الفيدرالية. هناك خيار واحد مقبول بالنسبة إلى إيران، وهو البقاء في سورية، أكان ذلك عبر سيطرة كاملة للنظام على كل سورية مهما بلغت الكلفة الدموية، أو عبر سيطرته على جزء من سورية. فالحرب الدائرة حالياً هي، عند إيران، حرب شيعية-سنيّة أصبح لها امتداد عراقي، وإذا اقتضت المصلحة يمكن أن يكون لها امتداد لبناني، بل تركي. وبالتالي لم يبقَ لإيران من هذا النظام السوري سوى بُعدِه المذهبي (16).

في المقابل، ليس صدفة أنّ الجماعات الغربية التي طلب منها بعض أطراف عائلة الأسد، درس سيناريوهات إقامة الدولة العلوية، يوجد في مجالس إداراتها يهود قريبون من إسرائيل. وليس صدفة أن يُنقل عن هذه الجماعات أنّ تلك “الدولة” يمكن أن تعيش فقط بتوافق إيران وإسرائيل على ضمانها، حمايةً واستثماراً وتسويقاً دولياً. فمثل هذا التوافق، غير المستبعد، يمكن أن يستدرج ضماناً روسياً-أميركياً ويسهّله. فيما كانت دراسات كثيرة قد أشارت إلى أنّ تفتيت المنطقة دويلاتٍ من الطموحات والمشاريع التي لا تغيب عن التخطيط الإسرائيلي. والآن أصبحت إيران تتقرَّب من هذه الاستراتيجية طالما أنها تلبي متطلبات نفوذها (17).

وتزداد احتمالية هذا الطرح، بعد المغامرة الروسية في أوكرانيا، ودفع إقليم القرم الأقلوي إلى الانفصال، في مرحلة جديدة من التنازع الدولي في شرق أوروبا. بل إنّ الولايات المتحدة قد تجد في الفعل الروسي مبرراً لفعل مشابه في سورية، عبر الدفع لتغيير توازنات القوى، باتجاه الاستحصال على “دويلات” جديدة في المشرق العربي، وبالأخص في سورية.

خاتمة:

وفي خاتمة هذا البحث، لابدّ من إعادة التنويه إلى فكرة رئيسة وردت في القسم الأول منه، وهي أنّه لم تتمظهر إشكالية العداء الإيديولوجي ما بين إسرائيل وإيران، على شكل مجريات واقعية، كما يروّج له أصحابه، فالعدو المستهدف في كلتا الحالتين لم يتجاوز المجال العربي. وخاصة أنّ لا إشكالية حدوديّة قائمة بين الطرفين، كما في الحالة العربية، فالطرفان بعيدان جغرافياً ولا مناطق تماسّ بينهما، كما في حالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.

كما لم تشكّل إسرائيل عائقاً نهضوياً-فلسفياً في الفكر الفارسي، كالذي شكّلته في الحالة العربية المشرقية، ولا يجد العداء الأيديولوجي قاعدة تاريخية يشتغل عليها، وخاصة أنّ للفرس دور مهم في عملية “تحرير” اليهود من الأسر البابلي، وإعادتهم إلى فلسطين، ومساندتهم في إنشاء أولى المستوطنات التاريخية لهم فيها، سعياً من الفرس لتقويض خصومهم في الممالك السورية والعراقية آنذاك.

وتبقى العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية، علاقات تبادل مصالح في البيئة العربية، وما التهديدات غير المقترنة بأفعال، سوى محاولة إشغال وتغلغل داخل الرأي العام العربي لاكتسابه واستقطابه.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

مراجع القسم الثاني:

(1) “صفقة أسلحة سرية بين إيران وإسرائيل”، صحيفة وطن الإلكترونية، 18/2/2014: https://www.watanserb.com/2014021810265/

(2)”تقرير يكشف حجم العلاقات التجارية بين إيران وإسرائيل خلال العقدين الأخيرين”، صحيفة البحرين نيوز، 2/3/2014: http://www.albahrainnews.com/news/mysteries/

(3)إبراهيم محمد باداود، “العلاقة السرية بين إيران وإسرائيل”، صحيفة الجزيرة السعودية، 29/9/2012، العدد 14611.

(4)”تقرير يكشف حجم العلاقات التجارية بين إيران وإسرائيل خلال العقدين الأخيرين”، مرجع سابق.

(5) المرجع السابق.

(6) المرجع السابق.

(7) المرجع السابق.

(8) المرجع السابق.

(9) “إيران وإسرائيل تجددان الشراكة في مشروع فيزيائي ـ نووي في الأردن”، 29/11/2013:http://arabic.arabianbusiness.com/business/energy/2013/nov/29/348173/#.UxwcY_l_v_g

(10) فهمي هويدي، “هل يفاجئنا تفاهم إيران وإسرائيل في العام الجديد؟”، الجزيرة نت، 17/12/2013: http://www.aljazeera.net/opinions/pages/e2a05a20-3d5f-4e34-88cc-16b589d0fade

(11) المرجع السابق.

(12) المرجع السابق.

(13) “إسرائيل تحذر تركيا من نتائج أي عمل عسكري ضد سورية”، 28/3/2014: http://assawsana.com/portal/pages.php?newsid=171955

(14) للمزيد حول ذلك، انظر: عبد القادر نعناع، “تقاطع المصالح الإقليمية في سوريا”، الشبكة العربية العالمية، 22/2/2013: http://www.globalarabnetwork.com/politics/51-syria-politics/9627-2013-02-22-11-41-12

(15) للاطلاع على التهديدات الانفصالية والتقسيمية للمشرق العربي، انظر: عبد القادر نعناع، “التحولات الجغرافية في المشرق العربي”، الشبكة العربية العالمية، 1/3/2013:http://www.globalarabnetwork.com/studies/9703-2013-03-01-11-40-50

(16) عبد الوهاب بدر خان، “تقسيم سورية: هدف يجمع إيران وإسرائيل”، صحيفة الحياة، 30/1/2013: http://alhayat.com/OpinionsDetails/477851

(17) المرجع السابق.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق