العقل الإسرائيلي، من أسطورة الهولوكوست إلى أحجية غزة

يبدو أن إسرائيل – من خلال مسلسلها المتكرر في غزة- تسعى اليوم لإسدال الستار عن الفصل الأخير من أحجية الصراع الحمساوي – الإسرائيلي.

وبما يشبه إعادة تدوير التجربة اللبنانية مع حزب الله، القائمة على تكرار استراتيجية التصعيد والتصعيد المضاد، الذي نجحت من خلاله إسرائيل في دفع مجلس الأمن الدولي، لاستصدار القرار الأممي رقم  1701 تاريخ 11/ 8/ 2006 الذي أثار الكثير من الجدل القانوني والسياسي، إذ لم يتوقف القرار في فقرته التنفيذية الأولى، عند وقف العمليات العسكرية، إنما تعداه إلى إعطاء الحق لإسرائيل بـشن هجمات داخل الأرض اللبنانية، بذريعة أنها “هجمات عسكرية دفاعية”1، ما يعني وقف العمليات العسكرية ضد إسرائيل بشكل نهائي، تاركاً – أي القرار- حزب الله وسلاحه القوة المطلقة داخل تركيبة “الدولة” اللبنانية.

إسرائيل وصناعة أحجية غزة:

لقد نجحت عقلية صناعة الأساطير الإسرائيلية، في اختزال فلسطين بـ 56 كيلو متراً مربعاً (مساحة غزة)، كما نجحت في اختزال القضية الفلسطينية، بـحركة حماس، التي أصبحت مليئة بالتجاذبات والاختلافات العربية والإقليمية.

تعد غزة المنطقة الأكثر تجمعاً للسكان في فلسطين والعالم، وينحشر في مساحتها الصغيرة ما يقارب المليوني نسمة، في مجتمع يعاني من الفقر والبطالة والعديد من الآفات الاجتماعية والاقتصادية التي جعلت منها عبئاً على إسرائيل، التي لم تجد الفرصة المناسبة للتخلص منها إلا بعد تدجين منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاق أوسلو 13/9/1993.

منذ العام 1974 اقترح الملك حسين على كيسنجر، مشروع اتفاقية فصل على الجبهة الأردنية على غرار ما حدث في الجبهتين المصرية والسورية، وكان الاقتراح يقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية إلى خط يقع على مسافة عشرة كيلومترات على الطرف الغربي الموازي لنهر الأردن.

 قدم وزير الخارجية الأمريكي – حينذاك- هنري كيسنجر المقترح  الأردني لإسرائيل، التي رفضت الفكرة رفضاً قاطعاً، لسبب وحيد مؤداه، أنّ الوضع  في الجبهة الأردنية لا يتناسب وفكرة اتفاق الفصل أو فض الاشتباك، لاسيما وأن هذه الجبهة لم تشهد أي اشتباك يدفع إسرائيل لتقديم أية تنازلات مجانية، حتى ولو تعلق الأمر بالعبء الغزاوي.

كان على الولايات المتحدة الأمريكية حينها، أنْ تعالج الموضوع بطريقة أكثر اختلافاً، فعرضت على الجانب الأردني، فكرة انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة وأريحا، وهو ما وافقتْ عليه الحكومة الأردنية كاتفاقية فك ارتباط، إلا أنّ كيسنجر عاد ليلتف على المقترح الأردني في محاولته لتحويل المقترح إلى معاهدة سلام نهائية، يلتزم من خلالها الأردن بإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، مع بقاء قوات الأمن الإسرائيلية في نقاط محددة، وهذا ما قبلت به إسرائيل، قبل أن تعود لرفض الموضوع2، وتركه في مهب مساومات أكثر فائدة لها، وهو ما تحقق لها في محادثات أوسلو.

كان القبول الإسرائيلي بفكرة الانسحاب من غزة وأريحا ومن ثم رفضها، مجرد مناورة تكتيكية أراد منها كيسنجر وإسرائيل الضغط على منظمة التحرير الفلسطينية لإدخالها في التسوية بعد العرض الأردني.

منذ ذلك التاريخ، وغزةتشكل عبئاً على إسرائيل، بسبب الضغط السكاني فيها، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والخدمية، التي لا تريد إسرائيل أن تضطلع بها لشعب يقارب عدد سكانه نصف سكان إسرائيل.

وفي هذا الخصوص، يقول شمعون بيريز:” غزة مكان مليء بالسكان الذين يعيشون حياة اقتصادية صعبة، الأمر الذي يجعلها بؤرة للمشاكل التي لا تقبل إسرائيل على تحملها، وعلى المستوى الإعلامي، فمشاهدة الجيش الإسرائيلي يطلق النار في غزة على الفلسطينيين على شاشات التلفزيون، تثير ردود فعل سلبية، تؤثر على سمعة إسرائيل أمام الرأي العام”3.

عندما أكملت إسرائيل انسحابها من سيناء بموجب معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية؛ بقي القطاع – وعلى مضض- تحت الحكم العسكري الاسرائيلي، علماً أن إسرائيل عرضت على الحكومة المصرية بسط سلطتها عليها، وهو مالم يحصل.

إسرائيل وفك شيفرا هوس السلطة في العقل العربي:

أثبتت مفاوضات أوسلو عمق الرؤية الاستراتيجية لإسرائيل في ضرورة التخلص من غزة كجغرافيا، قبل أن تنجح في 22 مارس 2004 بالتخلص منها كأيقونة للكفاح الفلسطيني الجامع، عندما أقدمت طائرة أباتشي إسرائيلية، على اغتيال أحمد ياسين الرمز الفلسطيني، والمؤسس لحركة حماس، وهو الاغتيال الذي ظل مثار العديد من الشكوك والتساؤلات المحيرة إلى يومنا هذا، لتنتهي بذلك مرحلة من المعاناة الحقيقية لإسرائيل، وبداية مرحلة جديدة من دوامة الصراع الداخلي الفلسطيني على السلطة.

من هذه النقطة بالذات، وفيفبراير/شباط من العام 2005، وافقت الحكومة الإسرائيلية على خطة رئيس الوزراء أرييل شاروون للانسحاب الأحادي من قطاع غزة.

وفي العام ذاته، دخلت حماس السلطة، وتبلور الانقسام الفلسطيني، الذي وصل إلى حدود الاقتتال بين القوى، التي كانت تقاتل في خندق واحد ضد إسرائيل.

مع اغتيال الرمز الفلسطيني أحمد ياسين، ووصول حماس السلطة، دخلت القوى الفلسطينية في مهب التجاذبات الحزبية والتنظيمية والدولية والاقليمية، التي دفع ثمنها الشعب الفلسطيني دون غيره، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تروّج لصناعة الخطر القادم من غزة، وكأنه هولوكوست جديد.

بين العقل العربي والعقل الإسرائيلي: تباين القفز فوق الواقع وصناعته:

منذ وعد بلفور إلى يومنا هذا، وإسرائيل تعمل على مسألة النظر إليها ” بعين العطف”، الذي يؤهلها للعب دور الشخص السيكوباتي، الذي يجيد تمثيل دور الإنسان العاقل والمضطهد، بدءا من ثقافة ” الغيتو”، مروراً بصناعة الهولوكوست، وصولاً إلى القدرة على ارتكاب الجريمة في الوقت الذي تظهر فيه نفسها للعالم بأنها المجني عليه.

في كتابه “العقل العربي”، يرجع المفكر رفائيل باتي Raphael pataiالهزائم العربية إلى بنية العقل العربي الذي” يعطي وبشكل متعمد وواعي، أهمية ووزناً للرغبات والأماني التي يوّد العربي أن يحققها، بقدر أكبر مما يعطيه الواقع العملي والموضوعي للأمور”4.

اليوم وفي خضم من التحضيرات الإسرائيلية لعملية برية في غزة، تُقَدم العقلية الإسرائيلية نموذجاً فريداً لفكرة شخصانية السلطة الأكثر تعقيداً في التعرف على أدائها وغاياتها، فهي لم تنجح بتكثيف واختزال “الخطر الفلسطيني” في كيلو مترات قليلة متصارع عليها بين فصيلين سياسين في غزة وحسب، بل وتحاول لعب دور الدفاع عن النفس من خلال قدرتها على إثارة القلاقل والحماس في اختلاق الأحداث ولفت اهتمام الآخرين إلى قصة “الموت والتهديد الإسرائيلي” الذي لا ينتهي ؟!.

نعتقد، أن سيرورة الصراع العربي – الإسرائيلي، كأعقد وأطول صراع في التاريخ الحديث والمعاصر، مازال يسير في سياق من الانجازات التي تنقلتْ فيه إسرائيل من منجز إلى آخر، ويعود ذلك في أحد أسبابه للتباين الفريد بين العقلية العربية الرومانتيكية بكل مشاربها، التي مازالت تتأسس في جميع تحركاتها على فكرة القفز فوق الواقع، وبين العقلية الإسرائيلية التي تقوم على حماية نفسها استباقياً، من خلال صناعة واقع مأساوي وهمي يهدد وجودها في عقر دارها.

وما بين الإثنين، مازالت قضيتنا المركزية فلسطين ككل قضايانا المتفرعة منها، محكومة بنوع من شخصنة الولاء والصراع، وتصفية الحسابات الشخصية والحزبية التي جعلت من كل انتصاراتنا أشبه بالتجليات الكيدية أو الأسطورة أو الأحجية المصنوعة في إسرائيل.

أحجيةٌ، نساهم من خلالها، في إعادة ثقافة الهولوكوست الصهيونية، التي نشارك في الترويج لها.

ولعل ما تفوّه به – منذ أيام- أحد أشهر مذيعي كبرى القنوات العربية – قناة الجزيرة- بالقول: ” أنّ الصواريخ الحمساوية وصلت على مقربة من بيت نتنياهو”، هو الدليل الأمضى على ذلك.

د. محمد خالد الشاكر

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

الهوامش:

1- انظر: قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 تاريخ 11/8/2006.

2– انظر: محمد خالد الشاكر، سياسة هنري كيسنجر الخارجية، أطروحة (غير منشورة) معدة لنيل درجة دكتوراه دولة في القانون العام، (بيروت: الجامعة اللبنانية- المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية والإدارية، ص 450.

3- انظر: شمعون بيريز، شرق أوسط جديد، عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 1993، ص19.

4- Raphael patai, The Arb Mind,( New York: Charles Seribner,s Sons, 1983), p156. 

الوسم : إسرائيلغزة

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق