العقد الاستراتيجي الجديد بين الشباب الموريتاني والرئيس

 بفوز الرئيس محمد ولد عبد العزيز بالانتخابات الرئاسية، وبنسبة معتبرة % 81,89)) في ظل نسبة مشاركة56.46) %) معقولة وموضوعية ومعبرة وذات مصداقية –إذا تمت قراءتها بشكل صحيح على ضوء نسب المشاركة في الاستحقاقات منذ 2005 وعلى ضوء مقاطعة بعض أطراف المعارضة- وبمساهمة مشهودة من الشباب الموريتاني بكل مستوياته وتوجهاته،

أصبحت أعتقد –على ضوء تلك المتغيرات والمعطيات- أننا نمر بلحظة فارقة وهامة في تاريخ المسيرة الوطنية السياسية والديمقراطية، وهي لحظة تتسم بمحاولة تغيير قواعد اللعبة السياسية المتقادمة والتي كانت نتاجاً للتحالف المصلحي بين الأنظمة السياسية السابقة والقوى التقليدية السياسية والاجتماعية، هذا التحالف الذي استمر تأثيره وسيطرته على الساحة السياسية، من خلال تلك اللعبة المحابية التي استخدمت المال والإدارة والإعلام، كأدوات مكّنت من إلغاء أي دور للقوى الشابة والأجيال الجديدة ، في تحديد ورسم معالم مستقبل هذا الوطن وعزلهم عن التأثير على القرار السياسي والعام لعقود، ويعود الفضل في هذه المحاولة وفي إجراء هذه العملية الدقيقة للرئيس محمد ولد عبد العزيز، الذي استطاع أن ينتج خطاباً سياسياً جديداً، يعرض فيه بأغلبية تلك القوة التقليدية، ويعري فيها مسؤوليتها عن الأزمات التنموية والسياسية البنيوية، التي تحاول موريتانيا اليوم جاهدة التغلب عليها، وقد كانت سياسة الرئيس في الانفتاح على الشباب وعلى أجيال كاملة، ظلت محاصرة منذ الثمانينيات في الولوج إلى الفرص التنموية وماكينة صنع القرار الوطنى، هي –تلك السياسة- ما خلط أوراق الكثيرين من الفاعلين التقليديين بمختلف توجهاتهم وايدولوجياتهم، فقد مثلت خطوته تجاه الشباب لإشراكهم في الشأن الوطني إلقاءً لحجر ثقيل في نهر الحياة السياسية الآسن، بل إن تلك الخطوة وما تلاها من خطوات وما سيبنى عليها من تدابير، جعلت فصيلاً كبيراً من الطبقة السياسية يخرج مضطراً من اللعبة السياسية، لعدم قدرته إدراك القواعد والمبادئ والسلوكيات والمضامين الجديدة لهذه اللعبة، وهو ما نلاحظه اليوم من خلال “الاغتراب” الذي يعيشه الخطاب السياسي لمعارضي النهج الجديد، والذي يكشف عن مدى الكسل والفشل في مجاراة مستجدات المجال السياسي الموريتاني، الذي عمل على تجديده رئيس معتد بصلاحياته وغير قابل للابتزاز، وبمعاونة قوة من الشباب أصبحت بفعل تمكنها المعرفي وخبرتها الخاصة عصية على الاتجار بها عكس ما كان في الماضي.

يمكن أن نلمس هذا التحول على مستوى الخطاب السياسي للرئيس، وعلى مستوى الآليات والوسائل المتذرع بها لتحقق هذا الخطاب، فعلى مستوى الخطاب: فقد أنتج الرئيس خطاباً جديداً تمام الجدة فيما يتعلق بالحياة السياسية الموريتانية، ما يهمنا اليوم هو الجزئية المتعلقة بموقع الشباب في هذا الخطاب، حيث مثل الخطاب السياسي لمحمد ولد عبد العزيز اعترافاً بالشباب “كمادة للتغيير” وقد حاول الرئيس إعادة الاعتبار لهذه النسبة الكبيرة من المواطنين من خلال تثمين دورها في التنمية، وتحريضها بل والدفع بها للمشاركة وضرورة مغادرة مربعات الخذلان والأيديولوجيا الخادعة والمنومة….إلخ

أما عن الآلية: فقد ترجل الرجل من مكتبه الفسيح لتصافح يده وعيناه وقلبه، أيادي وعيون وقلوب آلاف الشباب الموريتاني الذى استجاب لهذه الدعوة للقاء والتحاور والتعارف، مستمعاً إلى منطق التاريخ في أولوية التفاهم والتعاون، ومتصامماً عن صيحات المرجفين والمشككين والمثبطين، الذين لا يرون في الشباب الموريتاني سوى كم مهمل وقوة سلبية وببغاء عقله في أذنيه، لكن الشباب الموريتاني برهن مبدئيته الخالصة في التطلع للبناء الوطني، وببرغماتيته الإيجابية على استعداده تلبية النداء لأجل الوطن وبطريقة جديرة بالتأمل، لقد أبان عن قدرته العالية على الانتظام والتفكير والعمل لبعث الأمل من جديد.

وكانت النتيجة مزلزلة لممتهني الشباب ولمبعدي الشباب، فبعد أيام من التحضير والعمل وساعات من التعارف والتحاور والتفاكر، تم التواضع ولو ضمنياً على عقد جديد طرفاه الرئيس والشباب، فقد نطق الرئيس بالكلمات الموفقة واتخذ القرارات الصائبة، وهو ما جعل الشباب بعد تلك القرارات والكلمات ذات الوقع الطيب، يعيد الثقة في السياسة التى عهدها وعوداً لا تنفذ وتملقاً مهيناً لا يشرف، فقرر عقداً شرفياً يدفع بموجبه الرئيس لاكمال مهمته لفترة رئاسية جديدة، على أمل أن يدفع الرئيس بالشباب للقيام بشرف أمانة البناء الوطني، قوة العقد الجديد هذه أنتجت منطقاً جديداً، هو ما أصبح يؤرق الكثير من القوى والمراكز، أفراداً وجماعات ومستويات، وما نشهده ونحسه اليوم من الصراع مختلف تماماً عن الصراعات التقليدية الممسرحة، التى كانت تقوم فيها القوى السياسية والفاعلين، بتأدية أدوارها النمطية والباردة على خشبة مسرح عفن لخداع الداخل والخارج، وللمحافظة على المكاسب في ظل تلك الصراعات المفتعلة وغير المجدية.

 لبٌ الصراع اليوم – فيما نقدّر- ليس اعادة تلك الطريقة، ليس البحث عن مكاسب آنية، إنه يتجاوز ذلك بكثير، إنه ليس صراعاً على قلب الرئيس هذه المرة، ولا على مصالح ومراتب مادية كما هو ديدن الصراعات السابقة، إنه صراع متجاوز يتعلق “بهدم المسرح” وبالمضامين والرؤى. صراع لرسم استدارة جديدة للدولة والمجتمع إما لوجهها القديم والقبيح، أو نحو بداية مستأنفة جديدة، للولوج إلى العصر والزمن الحقيقي، لذلك فهو صراع أكثر قسوة ومكراً والتباساً! لماذا؟ لأنه يتعلق بسؤال جديد كانت الطبقة السياسية والنخب الاجتماعية القديمة تغمض أعينها عنه! هو: ألم يأن الوقت للتفكير والعمل حول عملية خلق جديد للوطن؟ لماذا لا نبدأ التفكير في رسم بداية مستأنفة للبناء الوطني؟ هل من أسس موضوعية يمكن اعتبارها في الحديث عن تحالف ما بين السلطة والشباب كمقدمة لهذا النهوض؟

لقد مثّل النظر إلى هذا السؤال اليوم منبعاً للتحديات والمعيقات، وهي تحديات ذاتية تتعلق بالسلطة من جهة، وبالشباب من جهة أخرى، وتحديات خارجية منبعها القوة التقليدية السياسية والاجتماعية، المتوزعة بحسب مصالحها في النظام السياسي الموريتاني في الموالاة والمعارضة، والتى يمثل هذا التحالف المفترض والمأمول خطراً على مصالحها الاعتبارية والمادية على المستويين المتوسط والبعيد.

فعن التحديات الذاتية: يمكن طرح السؤال التالي بخصوص قدرة السلطة على الوفاء بالتزاماتها في ولوج النخب الشبابية لمراكز صنع القرار؟ وهل أصبح تعهداً نافذاً أم أن دفتر الشروط لا يزال مفتوحا؟ وما هي نوعية المقاربة التى سيعتمدها النظام للانفتاح أمام الأفكار والمجهودات الجديدة؟ شخصياً، أميل إلى الإجابة بأنه ما دامت نظرة الرئيس للشباب تتلخص في اعتباره شريكاً حقيقياً –كما عبّر هو نفسه- فإنه يمكن الحديث ومن دون تحفظ بأن عهد تشبيب الدولة الموريتانية قد بدأ.

أما بخصوص الشباب فإن التحديات والعوائق تبدو أكثر بروزاً “قل هو من عند أنفسكم” نلخص تلك التحديات في التالي: فبالرغم من اتفاق الشباب وترحيبه بالإرادة الرئاسية في جعله شيئاً مذكوراً إلا أن خطابات وقيم وسلوكيات التفرق هي ما يحدد منهجيته العامة، ورغم أن هذا ما يراد بالشباب من بعض القوى الماكرة إلا أن الشباب فعلاً يوشك أن يتفرق أيادي سبأ، استعجالاً للمغانم والمكتسبات والمنافع، ويعود هذا الخوف والقلق على الشباب من عدة أسباب وعوامل:

1-  الثقافة السياسية للشباب: حيث أغلب الشباب لم يتربى أو ينشئ تنشئة سياسية سليمة بسبب الأزمة التى تشهدها قنوات التنشئة السياسية عندنا وعلى رأسها الأحزاب.

2-  استنساخ أو استدعاء الشباب لمضامين وقيم السلوك السياسي التقليدي وخصوصاً من خلال الانفعال والاستماع –إذا لم أقول– انصهار وتمثل الأغلبية من الشباب –وبدون إدراك أحياناً– لثقافة وميولات قوى النفوذ التقليدية تلك: العمرية (البيرقراطيون والسياسيون الكبار في العمر) وجهوية (القبلة الشرق الشمال الوسط ….) والقبلية (عرب- زوايا – امعلمين …) والإثنية (بيظان –حراطين- اكور…) وثقافية (عربية – فرنكفونية- افريقية) وأيديولوجية (قومية – إسلاموية- ….) إلخ.

إن الشباب مطالب اليوم وأكثر من أي وقت، بتجديد عقيدته الوطنية بعيداً عن الانتماءات الضيقة، والمضي بالتوحد والتجمع ليكون طرفاً فاعلاً في المعادلة السياسية، وبدون هذا لن ينتزع أي حق ولن يساعد في أي مسعى، والتجربة الحزبية الشابة وغيرها في الأيام القليلة الماضية تشي بشيء من هذا.

أما عن تحديات البيئة الخارجية للشباب: فإن تهديد مصالح ومواقع القوة التقليدية، من خلال محاولة القضاء على توجهاتها ومسلكياتها الضارة بمستقبل البلاد، وفي غياب تحديد وتفسير واضح لمعنى وحمولة “تجديد الطبقة السياسية”، فإن من شأنه أن يجعل تلك القوة التى استمرأت بقاء الأمر دُولة بينها من سياسيين ووجهاء تقليديين وموظفين وبيرقراطيين، أن تقف سداً منيعاً في وجه التغيير المأمول للاستمرار في سيطرتها على الإدارة ومصادر تسيير الشأن العام.

وهذا الصراع من شأنه إذا لم يطوق بأساليب حازمة ومتبصرة أن يجعل الأمور تعود بداياتها، ويعيد النظام السياسي – بالمعنى الواسع- سيرته الأولى في الجمود والتكلس.

ما هو مطلوب من الشباب رغم كيد تلك القوى داخل النظام وخارجه، بل وتشكلها وبَياتها داخل بعض الشباب والذي يتقدم الصفوف اليوم –هو إدراك السانحة التى تلوح، فكما وثق –في غالبه الأعم – وتفضل بتقديم نواياه الحسنة ورؤاه وأفكاره ،وكما اندفع اليوم في مساندة ترشح الرئيس، فإن عليه أن يصّف الصفوف ويتوحد ويقدم مثالاً على روح الانسجام والتفاهم، وأن لا يقع فريسة لما يتمناه الكثيرون، عليه أن يبنى شراكة موفقة ويظل مصدراً لا ينضب لتقديم الحلول لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى الأفضل، عليه كما أثبت قدرته على التصور وإسهامه في المساندة أن يثبت صلوحيته –التي هي مقوقع تشكيك- كقوة تنفيذية.

كما على الرئيس أن يستمر فيما بدأه من إشراك للشباب، فرغم النجاحات الهامة في الأمن والسياسة الاقتصادية، فإن التحديات التنموية والمؤسساتية والثقافوية المزمنة، التى رسختها وعمقتها تلك البنية السوسيولوجية والسياسية التقليدية، لا علاج لها إلا بقدرة فكر وسواعد الشباب تلك الكتلة الأغلبية التى دفع الوطن ثمن تغييبها غالياً، روح التشاركية هذه هي ما من شأنها تهيئة وتحضير الأرضية المناسبة للقضاء على التحديات البنيوية والطارئة والمتوقعة في الأفق العام.

كما أنه على الشباب الذين لا يزالون حبيسي مربعات اللامبالاة وعدم الثقة والأيديولوجيا، مغادرتها وإعطاء الفرصة لأنفسهم ولإخوانهم من الشباب وأن يلتحقوا بهذا المشروع وهذا العقد الجديد ليربح الوطن.

لا شك أن ما تقدم في هذه المساهمة هو كليٌّ عام، ولعلنا نجد فرصة لترجمة هذا المسعى إلى مقترحات تفصيلية، حول نوعية الشراكة الملائمة، وفيما يجب من السياسات الجديدة، لتغيير الواقع إلى الأفضل للشباب وبهم لأجل الوطن.

 

السعد بن عبد الله بن بيه                               

كاتب ودبلوماسي موريتاني

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : موريتانيا

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق