“العرب وتركيا” .. أرق البحث عن المخلص

مثلت تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا منذ استلامه الحكم 2002، تطلعا لافتا لدى قطاعات عريضة من النخبة العربية على اختلاف مرجعياتها، وهو أمر منطقي ومشروع للتقاطعات التاريخية والدينية والثقافية والتشابه في المشكلات بين تركيا وأغلب الدول العربية، وهذا الإعجاب تحول بعد تداعيات الأحداث الأخيرة إلى نوع من الرهان على تركيا في عيون كثير من العرب، ورغم جمالية هذا الرهان إلا أن فيه كثير من التاريخ وقليل من السياسة، وقبل الخوض في مدى منطقية وموضوعية هذا الرهان يجب أن نرجعه إلى مجموعة أسباب واقعية.

فما زاد الإعجاب بهذه التجربة هو النجاح البارز للنخبة الحاكمة التركية في إدارة وقيادة وتدعيم الداخل التركي، سواء في جوانبه السياسية أو الاقتصادية، وهو ما كان واضحا في إدارة “حكومة العدالة” لملفات التطوير الاقتصادي والمديونية والبنية التحتية والشراكة. وكذلك إدارتها للتناقضات مع المؤسسة العسكرية وللملف الكردي، غير أن ما زاد من تعلق النخب العربية بهذه التجربة هو ما أبانت عنه تركيا من قدرة على إدارة علاقاتها الخارجية وتطلعها للعب أدوار قيادية في منطقتها (الشرق الأوسط) وهو الأمر الذي زاد نفوذها الإقليمي. وإضافة للإدراك التركي وبناءه رؤية تنطلق من فهم الموقع المميز جغرافيا وحضاريا ،فقد خدمت الأوضاع والمتغيرات بشكل هام الإدراك والدور التركي في مجال السياسة الخارجية، فالدور التركي هو دور مرحب به من القوة العظمي (أمريكا) وبعض القوى الأخرى، كونه يمثل قوة توازن مع تزايد نفوذ إيران الثورية وكذلك كونه يمثل قوة اعتدال تقبل الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني، وهذا القبول الأمريكي كان مما ساعد الحكومة التركية في قلب كثير من آليات الصراع في الشرق الأوسط (وخاصة التصدي والاعتراض السياسي على سياسات الصهيونية ،ولعب أدوار الوساطة …) كما أن هذا الدور وجد فرصته في المتغيرات الجديدة في البيئة الدولية والتي تتيح للقوى المتوسطة والصاعدة –كتركيا وإيران والكيان الصهيوني و لبرازيل وفنزويلا … – حيزا مستقلا للعب أدوار أكثر إيجابية في تدعيم حضورها. ويضاف لهذه الأسباب الدافعة للنخب العربية والوطنية للإعجاب بتركيا، القيادة الكارزمية لأردوغان فهو رجل يمتلك كفاءة علمية وميدانية واضحة ويمتلك الجرأة والشجاعة الأدبية اللازمتين لخوض غمار إثبات نظريته. وهو يدير تركيا – كما صرح مرارا – بسياسات تنموية إبداعية من خلال إدارة الأشخاص والأموال والمعلومات وهو ما غير من حال المواطن التركي وبيئته المحيطة.

ولكن ورغم وجاهة ذاك الإعجاب ومنطقيته، ودون أن نشكك في حقيقة الموقف التركي وما ورائياته، إلا أنه لابد من طرح مجموعة من الأسئلة بهدف الكشف عن الأهمية الخاصة للدور التركي في دعم القضايا العربية ومحدوديته بنفس القدر لأسباب موضوعية وعدم قدرته تعويض الجهد العربي الأصلي المطلوب، بناء على حقائق واقعية تاريخية وسياسية واضحة -وهو أمر هام وضروري فالإنسان العادي (أو رجل الشارع) يرى العالم كما يتمنى، أما رجل السياسية فيرى العالم كما هو -، وأول تلك الحقائق هي أنه بالرغم من الوشائج والتداخل بين تركيا والعالم العربي، إلا أنهما يمثلان حقيقتين مختلفتين ومتمايزتين سياسيا وجغرافيا ،غير قابلتين في ظل اللحظة التاريخية الراهنة للذوبان والانصهار فيما يشبه “الخلافة” تاريخيا. ولا حتى ما دون ذلك من أشكال الوحدة السياسية لأسباب عديدة منها مصالح الأنظمة وعدم نضوج بل انعدام الحد الأدنى من العمل والتنسيق المشترك، وهو ما يجعل كل هذا الحراك حراك عاطفي أكثر منه حراكا عمليا يؤدي لنتائج عملية مشتركة وملموسة.

الحقيقة الثانية: هي اختلاف السياق بين اللحظة التاريخية التي أضطلع فيها الأتراك العثمانيون بعبئ قيادة العالم الإسلامي عن السياق المعاصر والراهن.

أما الحقيقة الثالثة: فتتعلق بمدى قدرة خيار أردوغان على الاستمرار والتجدد داخل تركيا وفي المنطقة بشكل عام؟ بمعنى آخر هل ضمنت “الظاهرة الأردوغانية” وضبطت قواعد اللعبة السياسية في تركيا؟ بما يساعد على استمرارها وإعادة إنتاجها الدائم لما يحفظ مصالحنا دوما مع تركيا،- رغم دقة التساؤل- في تقديري الخاص، أن ما شاهدناه من محاولات حزب العدالة والتنمية ترسيخ إصلاحات سياسية وقضائية في سبيل إقامة لعبة سياسية أكثر شعبية ومدنية هام جدا، لكنه قد يبدو غير نهائي ولا كافيا، وهو ما يفسره القلق المتزايد لدى بعض الباحثين الأتراك على مستقبل الديمقراطية في تركيا، ولذا ورغم الدعم اللامحدود الذي من واجبنا تقديمه كعرب لأردوغان ولنهجه، إلا أن الرهان يجب أن يكون على تركيا!

ومن خلال لغة المصالح الثابت الوحيد في المعادلة السياسية بغض النظر عن الأشخاص، وبالطبع نحن هنا لا نرمي التقليل من الدور الشخصي لأردوغان، وإنما نؤكد على ضرورة تبني رؤية ومقاربة أكثر شمولية وأبعد مدى فيما يتعلق بعلاقاتنا الخارجية تحسب حسابا خاصا للتاريخ والجغرافيا والمصالح بغض النظر عن الأنظمة، ولذا نحض على أهمية ربط تركيا بمحيطها العربي الإسلامي بعروة وثقي من المصالح لا انفصام لها تضمن اصطفافها الدائم مع مصالحنا الحيوية ، ولتكون علاقاتنا معها فوق رياح الانتخابات دائما –ومن يعرف طبيعة التداخل بين المصالح التاريخية و الحيوية والإستراتيجية بين سورية والعراق والتاريخ السياسي القريب لعلاقاتهما سيدرك دون عناء التصور الذي نحاول بناءه– ومن المناسب هنا الإشادة بالخيار الإستراتيجي الذي عرضه عمرو موسى أمام قمة الدول العربية المنعقدة مؤخرا في ليبيا حول إيجاد صيغة للتعاون والتشاور بين الدول العربية (جامعة الدول العربية) ودول الجوار(تركيا إيران …) وهو خيار متقدم، قد يعالج بعض ثغرات الفراغ الإستراتيجي المغري لدول الجوار.

 وتبقى الحقيقة الأكثر حسما –وبناء على ما تقدم – هي ضرورة سعي العرب لبناء قوتهم الداخلية (الذاتية) بمزيد من الإصلاح السياسي ودمقرطة العمل العربي المشترك، وتحقيق الازدهار الاقتصادي خصوصا عقلنة الحياة الاقتصادية والتعجيل بالتكامل الاقتصادي ومن خلال إعادة ومراجعة العلاقات الاقتصادية الدولية للعرب، وهي خطوات هامة في سبيل تقوية وتعظيم بناء القوة الخارجية وذلك بالعمل على إصلاح منظومة العمل العربي المشترك وزيادة التنسيق الدبلوماسي ،وإعادة تعريف مصالحهم وصياغة علاقاتهم على أسس جديدة ،وبناء الحد الأدنى من قوة الردع العسكري الضرورية لحماية المصالح والمكتسبات، وهذا كله يتطلب إنتاج خطاب ورؤية مغايرة تحدد بشكل واضح القيم الإستراتيجية في علاقة العالم العربي مع جواره الإسلامي والإفريقي والآسيوي والأوروبي ومحيطه العالمي.

إعادة الهيكلة هذه هو ما تفرضه تحديات الواقع والمستجدات، فالرهان على الذات ليس خيارا خاطئا، وليس نقيضا لضرب الحساب للمنافع المرجوة من الإخوة والأصدقاء في العالم، ودروس التاريخ القريبة جدا لا تزال ماثلة، حول سراب الرهان العربي على القوى الخارجية، فقد أنقضى القرن العشرين والعرب يراهنون ويتمسحون بأعتاب بريطانيا مرة وألمانيا وفرنسا أخرى والاتحاد السوفيتي والصين مرات وعلى الولايات المتحدة الأمريكية …إلخ.

ونتائج هذه الرهانات جميعا معروفة، وقد جاءت اللحظة التي يدرك فيها العرب سنن التغيير (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وحقيقة المسؤولية (قل هو من عند أنفسكم). فالحقائق لا تمحى وهي كون العرب يمثلون حقيقة ووحدة جغرافية وتاريخية وثقافية أكثر تجانسا ولكن إسلامية بالطبع، ولكي يكون خيار التضامن الإسلامي أقرب، يحتاج العرب قلب هذا الخيار إلى أن يكونوا أكثر صلابة (خذ الكتاب بقوة)، ومسؤولية هذا النهوض وهذا الوعي تقع على كل القوى الحية في الوطن العربي، من قوى وطنية وقومية وإسلامية وكذا الحكومات الرسمية التي آن الأوان كي تراجع منطقها وتقوى علاقاتها مع الشعوب وتراجع مصالحها وتحالفاتها، وهو ما ظهرت جدوائيته ونجحت فيه الحمد لله دول عديدة أصبحت تمثل نموذجا على التصالح مع الذات والإنصات إلى شعوبها كموريتانيا وتركيا … إلخ، فضلا عن دور قوى الأمة الأخرى من القادة العلماء وقادة رأي وفكر وسياسيين ، ومختلف المؤسسات والفاعلين، فالكل عليه مسؤولية كبرى ‘في إعادة طرح مسألة بناء الداخل وقضايا التضامن الإسلامي من جديد ، وبشكل أكثر تجاوزا للحدود والعقد والمصالح الضيقة، فحديث الواقع ومنطق التاريخ لا يقلب، وهو يخبرنا أنه دون حد أدنى من التنسيق والتخطيط المشترك وتجاوز منطق الإدانة فإن العرب لن يحققوا شيئا.

سعد بن عبد الله بن بيه

كاتب ودبلوماسي موريتاني

نقلاً عن صحراء ميديا

الوسم : العربتركيا

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق